د. ميخائيل شميد Dr. Michael Schmid
ترجمة: د. حميد لشهب
على سبيل التقديم
لم يفلح أي علم إنساني من الانتشار السريع و التأثير في علوم أخرى أكثر من التحليل النفسي. فقد استطاع هذا التخصص الانتشار السريع في ميادين ليست لها علاقة مباشرة بالصحة النفسية و العلاج كالتاريخ و الأدب والليسانيات والسوسيولوجيا الخ. لكنه التخصص الذي عرف كذلك منذ ظهوره تطورات داخلية و تيارات مختلفة ساهمت بطريقة أو بأخرى في تعزيز طريقة عمله.
تسارعت بعض الأقلام في الغرب في25 سنة الأخيرة في الإعلان عن "نهاية التحليل النفسي". ولا يمكن فهم هذه النهاية إلا في إطار تلك التقلعة التي انتشرت في ذلك الوقت عن "النهايات" - نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا إلخ- . ونجد صدى هذه الإدعاءات عند بعض الكتبة العرب، والأدهى أنها جاءت على لسان غير متخصصين لا في التحليل النفسي ولا في السيكولوجيا.
تأثير التحليل النفسي لم يفتر بعد150 سنة عن ميلاد مؤسسه. كطريقة للعلاج نجد فروعا كثيرة له و كأداة تحليل و نقد و تنقيب و محاولة فهم نجد جذوره في كل التخصصات الأكاديمية، بل أن تخصصات دقيقة في الطب و على الخصوص فيزيولوجية المخ و الأعصاب تحاول جاهدة الإستفادة من تعاليم التحليل النفسي لمحاولة تطبيب مرضاها (سنرجع إلى هذا الموضوع لاحقا).
ترجمنا هذا النص بمناسبة مرور قرن و نصف على ميلاد سيغموند فرويد. وهو نص جد دسم، كتب للمتخصصين ومنشور في مجلة متخصصة. ينطلق الكاتب من نص أدبي روائي ليقتحم عالم التحليل النفسي على الطريقة اللاكانية واضعا الأصبع على قضايا جوهرية في التحليل النفسي كأهمية الكلام في فهم الممارسة التحليل نفسية وعلاقة الأب-الإبن و مشكل الأصل و أصل الأصل و كل مشاكل اللغة المرتبطة بكل هذا. والنص في الجوهر محبوك بطريقة جد خاصة لا يمكن استيعابه عن طريق قراءة واحدة لأنه يحتوي على هضبات في التحليل لا يمكن الوصول إليها دون الإنغماس التام في لغة المؤلف.
الدكتور ميخائيل شميد Michael Schmid، واضع النص، مزداد عام 1950 بألمانيا، درس الفلسفة و السيكولوجيا و علم النفس في جامعة سالتسبورغ Salzburg النمساوية. يعمل حاليا كسيكولوجي و محلل نفسي، مدير معهد الأعمال الإجتماعية بمنطقة الفوخاخلبيرغ النمساوية، وهو معهد متخصص في القضايا الإجتماعية والعلاج النفسي. مؤسس أرشيف لاكان بمدينة بريغنس بالنمسا وجمعية التحليل النفسي الفرويدي بألمانيا و جمعية لاكان بمدينة زيوريخ بسويسرا. مسؤول مع آخرين على مجلة RISS للتحليل النفسي (الفرويدي-اللاكاني).
النص الأصلي
كل شيء يبدأ بالإسم، و بهذا الأخير يبدأ كل شيء. هذا ما يعتقده الأب الذي نلتقي به في قصة "كل شيء Alles" لإنجيبور رايخمان Ingebor Reichmann. يصل هذا الأب إلى نتيجة مفادها أن المرء يولد انطلاقا من اللغة وفيها و بأنه يحقق ذاته فيها و يتعذب فيها ومعها و هي سبب تعثرنا في الواقع واصطدامنا ضد حائطها و ثورتنا ضد سلطتها و المثول إلى طاعتها. يصل هذا الأب إلى هذا الإستنتاج في اللحظة التي تبادر إلى ذهنه بطريقة مباغثة كونه لم يجد أي استعمال "للدرس الكبير" الذي يبدأ بالإسم عند ولادة ابنه. يقول: "فجأة عرفت بأن كل شيء هو مسألة لغة، ليس فقط هذه اللغة الألمانية التي اخترعت كلغات أخرى في بابل لكي توقع بالعالم. تحت هذه اللغة تقبع لغة أخرى تتضمن الحركات و النظرات و جمع الأفكار و صيرورة المشاعر، وفيها تكمن كل هذه التعاسة. كل القضية كانت متمحورة حول ما إذا كان علي حماية ابني من لغتنا إلى حين يؤسس لغة جديدة و يبدأ عهدا جديدا"1.
كل من هو غير حساس اتجاه ذاته يعرف بماذا يتعلق الأمر في هذه المسألة و بالخصوص عندما لا يستثني إشكالية عذاب اللغة وعندما تكون له أذنان يسمع بهما. لابد للمرء أن يعترف بأن قشرة الثلج التي يتحرك فوقها الكائن الإنساني اللغوي هي قشرة غير غليظة. والمحللون النفسيون الذين يلتقون يوميا في عياداتهم بالمصائب الصغيرة والكبيرة التي تبدأ بالإسم يعرفون هذا، ليس فقط لأن ممارستهم هي "عيادة لغوية Sprach-Praxis"، بل كذلك بفضل التجربة الشخصية التي تفرضها عليهم هذه الكلمة (الإسم) سواء تعلق الأمر بتحليلهم الذاتي لأنفسهم أو في الإستماع إلى الدالات التي تحتم عليهم الإعتراف بكون بنية الكائن اللغوي الذي هو الإنسان هي بنية ضعيفة. وكيفما وصف المرء هذه البنية، وحتى وإن كان شكلها يشبه شكل اللغة، فإن لا أحد يجادل بأنه يؤسس ممارسته على اللغة. وضعف هذه البنية لا يتناقض بأية طريقة من الطرق وإمكانية توجيهها بطريقة يمكن للمرء فيها أن يقبلها حتى و إن لم يكن هذا التوجيه يمر بطريقة جد جيدة. وينتج عن هذا سؤال كيف يمكن التمييز الدقيق بين المرض و الصحة و على أي شيء يتأسس هذا التمييز، على اعتبار أن المرء يمكنه أن يوجهه. و يمكن أن نستخلص من هذا الإنطلاق، كما فعلPatrick Neuter، ضرورة العضو الاصطناعي Prothese، الذي يمكن أن يوجه في أشكال مختلفة و يمكن اعتباره كعرض Symptom لمحاولة القضاء على الصعاب عن طريق البنية1.
لابد من التأكيد من وجهة نظر تحليل نفسية على صحة مسألة كون أمراضنا هي التي تربطنا بالحياة2. إذا وافق المرء على هذا، يكون من الممكن فهم الموقف الفرويدي المتحفظ من العلاج. والاهتمام القوي للمحلل النفسي بالعرض سوف لن يبدأ لأهميته المرضية، لكن لقيمته كعكاز يتكأ عليه المريض (الموضوع). من هنا فإن الشك في علاج العرض هو شك مشروع. عندما يهتم المرء بالعرض كعقدة للمريض (الموضوع)، فإنه من الضروري كذلك التفكير في مخاطر الاهتمام الغير الكافي بالوظيفة "العكازية" لهذا العرض. ولا يعني هذا الانبهار أمام العرض، بل على العكس من هذا، فإن ذلك يفرض علينا محاولة فهم أساس ضعف المريض (الموضوع). لا داعي للتذكير هنا بالعصاب إذا أراد المرء إعطاء أمثلة على ضعف البنية و المخاطر التي تبدأ بها. و ليس هناك بنية إكلينيكية أخرى نجد فيها مسألة الربط و طريقة الإهتمام بها أوضح اللاهم في التحليل النفسي. وسنتجاوز إطار موضوعنا إذا ما حاولنا الإستفاضة في نظرية الربط في عرض البنية2. سنكتفي هنا بالإشارة إلى كون محاولة إعطاء بنية للموضوع (المريض) العصابي قد يؤدي إلى تكسير البنية عوض ترميمها بالمقارنة مع أشكال إكلنيكية أخرى. وكمثال مبسط و تقليصي لتعقيد طوبولوجية العقدة يمكن ذكر لعبة“Magic Square”. توضح هذه اللعبة بطريقة مدهشة و بسيطة في الآن نفسه إشكالية التصعيد. تتكون هذه اللعبة من15 قطعة مربعة توضع في وسط مربع آخر، تحمل كل قطعة عددا ما. يمكن القيام بتركيبات رقمية مختلفة انطلاقا من هذه الأرقام الخمسة عشر. ولا يكون هذا ممكنا إلا لوجود مكان فارغ. وهذا المكان ليس مربعا يحمل رقما، لكنه مكان فارغ فقط. من طبيعة الحال، لو لم يكن هذا المكان فارغا، لما كان بالإمكان تحريك الأرقام. وتنظيم هذه الأخيرة يبقى عرضيا في اللعبة. يوضح هذا المكان الفارغ في اللعبة مشكل الربط الموجود في نظرية العقدة. لنفترض بأنه لنا ثلاثة مستديرات من الخيط أو ثلاثة حبال نعقدها معا للرمز للموضوع (المريض). ولنفترض مرة أخرى بأن هذه العقدة معقودة تبعا لطريقة معينة. و لنتخيل بأن هذه الخيوط معقودة مع بعضها بطريقة يمكن حلها بمجرد ما نجر خيطا من هذه الخيوط. سنلاحظ بأن تحريك العقدة، يعني العقدة نفسها، لا تظهر إلا عندما نفكر في خيط رابع إضافي. و نفكر في هذا لكي يكون باستطاعتنا التفكير في العقدة كعقدة، ولنسمي هذا لحبل الرابط "العرض Syptom"3. ولنفترض بأنه سوف لن يكون لهذا الحبل الرابع أي وجود أو أنه غير مربوط. في هذه الحالة فإن الخطر الممكن يكمن في كون العقدة ستحل إذا وقع مشكل في مكان ربط الحبال الثلاثة. من هنا ضرورة شكل مساعد. و دون الشكل الخاص للعقدة، فإنه لا يكون بالإمكان التمييز بين هذه الحبال الثلاثة، لأنها تكون مربوطة مع بعضها4. من هذا الخطأ يمكن استنتاج كون بنية الموضوع (المريض) الفصامي يكون في خطر بطريقة مغايرة تماما للموضوع (المريض) العصابي.
ولنرجع إلى لعبتنا الأنفة الذكر لنلاحظ بأن غياب مكان فارغ في هذه اللعبة يتسبب في إيقاف واستحالة النقل. ولنتمعن ما يلي: إن النقل إلى جانب التكثيف حسب فرويد، تنتمي إلى القوانين الأساسية في تكوين اللاوعي. وينتميان معا إلى التعبير اللغوي لموضوع التحليل النفسي. وكل كلام، حسب فرويد، للموضوع (المريض) يكون ناتجا من تعاون سلسلة تصور الأشياء مع سلسلة تصور الكلمات. وتداخل هاتين السلسلتين المستقلتين عن بعضهما تكون ناتجة عن قانون تكوين التحريك (كل كلمة وكل حرف يكونان متساويان داخل السلسلة، وبالتالي يكونان قابلان للتحريك والتكثيف (يمكن لكل كلمة و لكل حرف أخذ مكان كلمة أو حرف آخر). على سبيل المثال يمكن لكلام الموضوع (المريض) أن يقدم خاصية فريدة تتمثل في كون تمثلات الأشياء تصبح عادية ولا تتداخل السلسلتان مع بعضهما البعض. ليس من الضروري الإستمرار في هذا التفكير، يكفي في نهاية الأمر أن نلاحظ بأن تحقيق ذات الموضوع (المريض) يكون تابعا إلى هاتين العمليتين. يمكن على سبيل المثال أن نلاحظ في أعمال بعض الفنانة بأن إنتاجاتهم الفنية (على الرغم من التكسرات العصابية) لم تمنعهم من الحياة عاديا، و بأن مساهماتهم كانت لها نتائج على الحياة الروحية والثقافية لأزمنتهم. و يبرهن هذا على أن إنتاجاتهم لم تكن لوحات مجنونة، على الرغم من أن وظيفتها كانت تتمثل إلى حد ما في "ملئ" المكان الفارغ والحفاظ على تكسير البنية. ويمكن أن نستنتج من كل هذا استنتاجا غير عادي: كل شيء يدل على أن طبيعة البنية -أي ما يسمى العرض في التحليل النفسي- هي التي تشكل بطريقة من الطرق خصوصية الموضوع (المريض). وسيكون من الخطأ الإعتقاد هنا بأن حرية العرض Symptomfreiheit هي هدف العلاج التحليل نفسي، لأن العلاقة بين العرض و الموضوع (المريض) هي علاقة جد وثيقة. من هنا لابد من فهم ضعف الموضوع (المريض) كماهية خاصة به. الموضوع (المريض) كإشكالية.
"كل شيء يبدأ مع الإسم". هذا هو إذن استنتاج ذاك الأب في القصة التي بدأنا بها. ويظهر بأن الإسم الذي يريد هذا الأب أن يطلقه على ابنه هو بمثابة ورقة الدخول في عالم لا يريد أن يقحمه فيه. يقول: "لم أكن مستعدا لشيء محدد، يتمثل في وجوب إعطائه اسما من طرفي" (50). إنه يتردد أمام عتبة اختيار الإسم، وهي العتبة التي سوف يطرقها ابنه من أجل الدخول في عالم اللغة، و بالتالي تضييعه إلى الأبد. ويكمن بيت القصيد هنا في الدياليكتيك بين الواقعي و الرمزي. أن يصبح المرء أبا لا يعني فقط واقعة بيولوجية وإمبريقية، لكنه يعني كذلك واقعة رمزية. و يعتبر الإسم كعتبة الأنت Du. على العكس من هذا، فإن الذات توجد بالنسبة للآخر كأنت. فالأب يعيد إلى حد ما كسب ابنه بفقدانه في النظام الرمزي الذي حوله هذا الأب. ولا يعتبر هذا النظام ملكا له، بل كهبة ممنوحة من طرف "مكتب الأبوة" كما عبر عن ذلك بيير ليجوندر Pierre Legendre.
نلاحظ في الأعمال الأدبية لكافكا على سبيل المثال الحضور الدائم الخاص بالموضوع كمخاطب متأخر (أنت Du). لنتذكر مثلا شخصية يوسف في رواية "المحاكمة". بدأت محاكمته قبل أن يستيقظ. لم يكن باستطاعته عمل شيء ما آخر غير الوصول متأخرا. وعن سؤال أي التهم ألصقت له، يكون الجواب بأن مثل هذه الأسئلة في غير محلها و بأن الداعي لن يقدم له أي جواب. فالأنت في مخاطبة الداعي تحول سؤال الموضوع أنا؟ (بأي شيء يتهمني المرء؟) إلى وضعية متأخرة متعلقة بكونه يصل دائما متأخرا. لم يوجد أبدا في وضعية البراءة Unschuld، لكن دائما في وضعية Un-Schuld (الخطأ اللاواعي)، المتمثل في إعطاء هبة الكلام. و خطأ التعويض Erstattung يلمح إلى مسألة ما سببه الموضوع. ينتج عن هذا موضوع يمكن اعتباره موضوعا فصاميا5. و هو موضوع يعبر عن نفسه انطلاقا من صوت أو مخاطب ما. و هبة الكلام هي في نفس الوقت استعادة، لأنها تسبق هبة المخاطبة. لنستمع إلى كافكا: "هناك من افترى على يوسف، ذلك أن المرء ألقى القبض عليه في صباح ما دون قيامه بأي عمل شنيع. لم تأت طباخة السيدة كروباخ، خادمة حجرته، التي تحضر له وجبة فطوره كل صباح حوالي الساعة الثامنة. لم يحصل هذا أبدا. انتظر يوسف قليلا و رأى من على مخدته العجوز التي تسكن قبالته و التي كانت تلاحظ ما يعمله بطريقة لم يعهدها فيها … سمع دقا على الباب ودخل شخص لم يسبق له أن رئاه من قبل في هذا المنزل"6. توحي الجملة الأولى للقارئ، بأنه قد ألقي القبض على يوسف، قبل أن يسمع بأنه سيسجن. و كما تحكي بقية القصة، فإنه سيعرف التهمة التي وجهت له عن طريق الجمل الآتية: "كيف يعقل أن أسجن؟ وبهذه الطريقة؟ أجاب الحارس المكلف بسجنه: تبدأ مرة أخرى من جديد (…) لا نجيب عن أسئلة من هذا القبيل (…)". قال يوسف بأنه يجب عليه أن يجيب: "هنا بطاقة تعريفي، أرينوني بطاقتكم وكذا أمر إلقاء القبض علي. "يا إلاهي!"، قال الحارس. "ألا يمكنك في وضعية مثل هذه الإلتزام بالأوامر. يظهر أنك تحاول، دون نتيجة، التهرب"7.
يظهر أنه لم يبق ليوسف أي اختيار آخر غير قبول أخذ مكان الموضوع في هذه القضية، التي بدأت قبل أن يلقى عليه القبض. لكنه لا يريد أن يفهم بأن هذا المكان لا يليق بشخص آخر غيره. هذا المكان الذي دعي للوجود فيه هو مكان الموضوع، وامتلاك هذا المكان يكون عادة متعلق بالإسم الخاص الذي يحمله، والذي يمكن اعتباره المكان الفارغ الذي ينتظر أن يظهر فيه الموضوع. والخطأ الوحيد الذي ارتكبه يوسف هو خطأ متناقض، يتمثل في تأخره. وهو تأخر في لحظة استيقاظه عن طريق مخاطبته. وعلى الرغم من أنه طلب من المكلف بإلقاء القبض عليه بطاقة تعريفه والسبب القانوني الذي ترتكز عليه محاكمته، فإنه لم يفلت من خطأ التأخر. لذا فإن الأمر لا يتعلق هنا بخطأ أخلاقي قد يمكن للمرء تجنبه، لكن بخطأ رمزي للهبة، البقاء مخطأ، وهو خطأ متجذر في جواب الأنت Du السابق على الأنا Ich.
نجد هذا الموضوع حاضر في تاريخ الفكر الغربي في أشكال مختلفة. فعلى الرغم من قتله لمرات عديدة، فإنه بقي حاضرا كطريقة تفكير نلتقي بها في إشكالية بنيات "إكلنيكية" أو "وجودية" كالعصاب و الشذوذ و الفصام و علاقتهما بالتصعيد. و طالما فهم التحليل النفسي كـ: "علاج كلامي talking-cure"، كخطاب8، فإن سؤال:"من يتكلم و من أي موقع؟"سيظل قائما. هل هو الإنسان الذي يطرح السؤال حول وجوده؟ أم هل هو إنسان يعاني و يشك في وجوده؟ هل يتعلق الأمر في موضوع التحليل بصنف أنثروبولوجي كـ "الإنسان" أو "الشخص"؟ نجد أنفسنا في قلب إشكالية الموضوع، وهي إشكالية تتوزع بين Genetivus objektivus وGenetivus subjektivus. نتسائل عن ذات ما، لكن من هو موضوع السؤال؟ إن مفهوم الموضوع لم يبق في تاريخ الفكر دون توابع. والدليل على ذلك هو اكتشاف اللاوعي، الذي سمح بالرجوع إلى تأملات ديكارت، والذهاب خطوة إلى الأمام. ويكمن هذا التطور في إمكانية ربط مفهوم الذات بشرط اللغة والابتعاد عن مفهوم الجوهر.
إن موضوع التحليل النفسي هو، وكما عبر عن ذلك لاكان:Parlêtre، يعني الكائن المتكلم. يفهم الموضوع كقدرة على فعل الكلام، التي تتكون و تضاع في التكلم. المعنى القح لكلمة Subjektum هو "التابع Unterworfenes". لابد لهذا الفهم إذن من الإعتراض عندما يدعي التحليل النفسي بأنه ممارسة تقول الحقيقة. كيف يمكن الإحتفاظ بحكم الحقيقة -adequatio intellectu et rei- عندما يكون الشيء مكبوتا؟ يهتم حكم الحقيقة بتطابق الكلمة و الشيء. ولا يزعم ما سماه فرويد بالمكبوت الأصلي Urverdraengung شيئا آخر غير كون الموضوع Objekt يكون ضائعا للإنسان منذ البداية. يعني أنه لا يمكنه التفكير فيه أو تخيله إلا كموضوع مفقود. وكمفقود فإنه يشتغل كسبب للكبت. من هنا فإن الكلمة والشيء يتحققان كنظام علائقي داخل اللغة. والكلمة و الشيء لا يوجدان في تقابل: هنا الكلمة وهناك الشيء. ووظيفة الصحة لا تكمن هنا في تطابق الكلمة والشيء، لكن في عدم تطابقهما. وفي عدم التطابق هذا يرى هيدجر إمكانية تحديد الصحة. ويرجع لاكان وفرويد هذا الخصام الغير المحسوم فيه في نظر هيدجر بين الكلمة والشيء إلى الكبت غير الواعي. ولا تفقد وظيفة الحقيقة دورها هنا، لكن بالعكس. إن المرء يفقد الحقيقة كنقطة انطلاق عندما يعتقد أنه وصل إلى الحقيقة عندما يفشل: " لا نصل إلى حقيقة الكائن Seinden عندما نتخلى عن كل تسمية، لكننا نصل إليها عندما نلح على التسمية، على الرغم من أنه يمكن أن نعتقد أنها لن تقود أبدا إلى الإسم الخاص"9. سنلتقي بإشكالية الإسم من جديد بعد قليل في قصة "فيبس الصغير". إن الهروب من اللغة، سواء استطعنا ذلك أم لا، هو عكس الوصول إلى الحقيقة. وحسب الفهم الهيديجيري و الاكاني، فإن الأمر يتعلق في التحليل النفسي بـ"ممارسة"، يتعلق الأمر فيها بالحقيقة. و تعتبر لغة بنية اللاوعي بنية شهوة/رغبة. يعني أنه من اللازم قول ما يشغلني. وإمكانية قوله تفرض علي أخذ موقف في ومن اللغة. وكرغبة للموضوع، فإنها تصبح مسموعة في الكلام. يخاطبني الآخر كآخر منذ البداية كـ(يا أنت!)، و أجيب (أنا؟). و اللغة هي هذا الغريب، هذا الآخر، الذي يقول لي ما يجب علي قوله. و بهذا المعنى فإن الرغبة هي كبت الآخر. لا يمكنني أن أعبر عما أريده دون لغة و لا يمكنني معرفة ما أريد أو وجوب معرفة ما أريد دونها. و يتضمن التعبير الجميل الذي أتى به فرويد في عمله حول الأحلام و إشكالية التعبير عن الحقيقة: "إن إعطاء أهمية للفهم هو الذي مكن من دراسة الحلم"10. و يعني إعطاء أهمية للفهم، دراسة الحلم إلى أن يصل المرء إلى نتيجة "مقبولة"، نتيجة يمكنها أن تنجح في مرور مراقبة الحلم. و إذا طبقنا هذا على التعبير، فإنه يمكن للمرء القول بأن الذات تكذب على نفسها بالكلام، و عن طريق هذا الكذب يصل إلى حقيقة لا تقال دائما كاملة، لكن فقط نصف كاملة. و يتضح ذلك في وظيفة السماع للمحلل النفسي. عندما كان لاكان يحاول شرح النكتة التي جاء بها فرويد: "- إلى أين أنت مسافر؟ - أنا مسافر إلى كراكاو Krakau"، فإنه عبر عن خصوصية الحقيقة هكذا: " ما تخبئه عن هذا الأنا وأنت تتكلم معه هو ما أخرجه منك، وبهذا فإنك تقول الحقيقة"11 وأهمية الآخر في إمكانية قول الحقيقة جد واضحة في هذا النص. إن الحقيقة هي وظيفة لفعل الإعتراف، وهو مكان يعوض في العلاج النفسي مكان المحلل. وإذا ضاعت الحقيقة كمرجع، فإن الخطاب التحليلي يكون غير ذي قيمة. وعلى الرغم من فردانية الموضوع المحلٌل-كان لاكان يعطي لهذا أهمية كبيرة- فإنه لا يكون موضوعا آخرا غير موضوع العلم: "إن اللاوعي هو مجموعة التأثيرات التي يمارسها الكلام على موضوع ما في المستوى الذي يؤسس عليه هذا الموضوع تأثيرات دالة. ويمكن أن نستنتج من هنا بأننا لا نعني بمفهوم الموضوع، الموضوع الجوهري الحي الضروري للتمظهر الذاتي و لا مادية الجوهر و لا موضوعا في الوعي في Pathie الثاني أو الأصلي و لا اللوجوس Logos الذي يصبحا لحما، لكن الموضوع الخاص الذي يظهر في اللحظة التي يعبر الشك عن نفسه كيقين Gewissheit12.
بسبب التاريخ المتغير لمفهوم الموضوع و بسبب الأهمية التي أعطاها إياه التحليل النفسي، فإنه من غير المدهش وصول Zizek إلى نتيجة سومارية غير خالية من السخرية و الحديث عن "جنون" حل بالعلوم في الغرب. يقول: " من أجل "إجلاء جنون" الموضوع الديكارتي، فإن كل القوى العلمية الأكاديمية قد اتحدت في تحالف مقدس: ظلامية العهد الجديد (…) والهدم الما بعد الحداثي (…) ونظرية التواصل الهابرماسية (…) والأيكولوجي المتطرف (…) وما بعد الماركسي النقدي (…) والمدافعة عن قضية النساء"13. ويتفق هؤلاء الخصوم على نقطة مشتركة: رفض الموضوع الديكارتي من أجل عدم الإعتراف بنواة الكوجيتو عن طريق الإدعاء بالرجوع إلى شفافية الموضوع المفكر. هذا الكوجيتو الذي ذكر التحليل النفسي به.
إذا فهمنا موضوع التحليل النفسي كموضوع ناتج عن اللغة، فكيف يمكن للمرء تصور الطريقة التي نتج عنها هذا؟ كيف يمكن تصور همزة الوصل هذه للموضوع الذي افترضناه؟ من جهة نجد أنفسنا دائما في اللغة، لأن اللغة توجد قبل كل تجربة شخصية للأفراد، الذين يكونون كموجودات متكلمة متهيؤون لها. ومن جهة أخرى، فإن المشاكل التي تعترضنا في الممارسة تدفعنا إلى افتراض أفعال تدخلنا إلى اللغة. ويقترح فرويد هنا مفهوم التماثل كنقطة انطلاق. و يتحدث عن التماثل كإجراء و سنحاول أن نؤسس هذا الإجراء عن طريق كلمة صلة Bindung. و غالبا ما لا تعطى أهمية تذكر لهذه الكلمة في التحليل النفسي. وقد استعملها فرويد في أماكن مختلفة فيما يتعلق بالطاقة، الأب، الأم، التصعيد إلخ. ويصف بهذا في غالب الأحيان طريقة يكون هدفها جعل حدود للإثارة و تلحيم التصورات فيما بينها أو قيام علاقة ما بينها. ويتعلق الأمر في كل الأحوال بقابلية تفاعل هذا النوع من طرق العمل. ويناقش هذا المفهوم في غالب الأحيان في التحليل النفسي في إطار نظرية Bowlby و"نظريات العلاقة"، يعني على مستوى العلاقات الشخصية و تصوراتها النفسية. ولا يحضى إلا بأهمية متواضعة في علاقته بتأسيس الموضوع. ولتأكيد أهميته نود تقديمه في علاقته مع كلمة سبب Motiv14.
من بين المعاني الكثيرة لكلمة سبب، يتهيأ لنا بأن المعنى المستعمل في الموسيقى هو معنى ينطبق أحسن على ما نريد قوله. ونعتمد على هذا التحديد: "يعتبر السبب في الموسيقى كأصغر حلقة مستقلة في جملة موسيقية ما، تكون لها أهمية خاصة في التأليف"15. و تنطبق كل كلمة في هذا التعريف على كلمة الربط، التي نحاول أن نؤكد على أهميتها: الحلقة، الجملة، الأهمية التأليفية.
لنتذكر المكان الذي يتحدث فيه فرويد عن هذه الخاصية الفريدة: "لابد أن يحضر إلى ذهننا (…) بأن التشخص يكون جزئيا ومحدودا جدا و لا يستعير إلا خاصية وحيدة للموضوع الشخص Objektperson"16. ويعني فرويد بالتشخص الالتحام العاطفي المبكر بشخص آخر. ويصل إلى النتيجة المفاجئة التي مفادها بأن التلاحم الأول والحب الأول للطفل يكونان متعلقان بأبيه. و يحدد أكثر فكرته هذه في مكان آخر متعلق ببنية الأنا، حيث يستنتج بأن: "التشخص الأول للفرد هو تشخص بالأب القبل الزمني الشخصي"17. ولنسجل هنا بأن فرويد يتحدث في كيفية تكون الذات عن الزمن الذي يسميه: "الزمن القبلي الشخصيpersoenliche Vorzeit"، وبهذا يضعنا أمام مهمة التفكير في أبان على الأقل، الأب القبل الزماني والأب الإمبريقي. ولابد للمرء أن يتصور هذا "الزمان القبلي الشخصي" كـ "زمان ميثولوجي" لم يجد طريقه في بنية الشخص، لكن يجب التفكير فيه كزمان تأسيسي، يستعمل كزمان قبلي. وهذا يعني بأن فرويد يفترض بأن هناك تشخص أصلي، من اللازم اعتباره شرط للشكلين الآخرين للتشخص. ويتعلق الأمر في هذه المسألة بتأسيس بداية للربط في الحياة Ein-Bindung، الحياة التي تبدأ بولادة ما Ent-Bindung. ويشار هنا إلى وظيفة رمزية مهمة لفكرة الأب. ويكون عدم وضوح إشكالية الأب هنا واضح. و يتجاوز عدم الوضوح هذا الحجرة الحدودية، الذي عوضه فرويد بميتوس Mythos قتل الأب. و إشكالية الأب هي إشكالية الأصل. و استطاع لاكان شرح هذا التجرأ الفرويدي بقوله: "من الواضح أن فرويد عندما يضع الأب في صلب تعاليم الميتوس، فإن ذلك راجع إلى ضرورة الإشكالية". لكن عدم وضوح إشكالية "أب كل شيء Vater aller Dinge" وشيء الأب Ding des Vaters" تبقى غير محلولة. تبقى قائمة كجلد الإخصاء Fels der Kastration". وقد لا يعدو ميتوس الأب أن يكون سوى تحقيقا لرغبتها، لكن أية رغبة؟ إن استحالة الشرح تقود إلى تعريف دائري للأب. إنها سؤال و جواب في نفس الوقت. وحتى وإن أدخلت الأم في اللعبة، فإن الإشكالية سوف لن تحل. و العقدة الأوديبية التي تؤسس حسب فرويد البنية اللاواعية هي بنية ثلاثية. وداخل هذه البنية تكون هناك دائما إمكانية التفكير في 2(1+1) كزوج، يعني كواحد (1). وحسب فرويد، فإن التمييز الأساسي الذي يقوم به الطفل يكون متوقفا على مكان الأب. إنه يحتل المكان الثالث. وانطلاقا من هذا المكان فإن الزوج: أم-طفل يظهر كوحدة. و من موقع الأب، فإنه يفهم الطفل باعتباره مغاير للأم كواحد(1)، و يفهم نفسه و الأم كـ 1+1 (يعني كوحدة). من هنا فإن تدخل الأب يكمن في وظيفته كمالك لموقع ما، كواضع للإسم. و هذا يعني أن كل أب يمثل أبا، ليس من الضروري أن يكون هو الأب الحقيقي. يتعلق الأمر إذن بالأب الرمزي، الأب المقتول. لكن من هو أب هذا الرمز؟
في نظرية الثقافة الفرويدية يظهر الأب في المرور من الطبيعة إلى الثقافة، في المكان المتعلق "بالحلقة المفقودة". وعلى اعتبار أن هذه الحلقة مفقودة، فإنه لا يمكن تقديم بناء الذات من زاوية تحليل نفسية كنظرية تطور. يفهم فرويد الأب، كأب ميت، كان دائما ميتا، لكن يجب قتله. و الأب الميت هو النظام الذي يقام مكانه. يتحدث فرويد عن قتل الأب و في النهاية عن وجبة طوطيمية وإنشاء رمز قبلي (من القبيلة)، حيوان طوطيمي. ويكون هذا الطوطيم شاهدا على عهد جديد. ومن تم يمكن للمرء أن يقول بأن هذه "الحلقة المفقودة" في الخطاب الفرويدي على هذا المستوى قد أخذ اسم القضيب. ويطرح نفس الإشكال كذلك في نقطة التقاطع Schnittpunkt للغة و الجسم. كيف يتمظهر هذا؟ أتأتي اللغة عندي؟ أتأتي اللغة مني أم أتيت أنا منها؟ ونقطة التقاطع هذه مليئة على كل حال بمبدأ القضيب. وتتجلى أشباح Phantome وتخيلات Phantasmen إشكالية تاثير اللغة في الجسم في الكثير من الأعراض نلتقي بها في كوارث الذات وفي الإنتاجات الثقافية. تتمظهر في خدش وجرح النفس بالنفس وطلبات تلك المرأة الهستيرية قطع جسدها و في ممارسات ثقافية ودينية مختلفة.
ككائن لغوي، فإن الإنسان يعرف ولادة ثانية، يخرج منها كذات متكلمة، تتحدث مع أناها. وإقامة الأنا تكون نتيجة تأثير بنية تقوم بدورها عن طريق الآخرين. وتمكن هذه الولادة الثانية الإنسان من الوصول إلى الاستقلال الذاتي. وضرورة الكلام تزوده بقوانين اللغة. وإشكالية سبب وجوده تصطدم بحائط اللغة، التي تعتبر في نفس الوقت كالطريق الوحيد لوعي الذات كذات. و تعبر حقيقة وجود الذات عن نفسها في عدم اليقين و تباين كلامها. و يفرض عليها فعل الكلام تجربة القسمة،التي تبحث عن كمال مفقود. و يمكن لانقسام الذات إلى موضوع المخاطب و موضوع المخاطب (بفتح الخاء) أن يبقى مضمرا، لكن لا يمكن إزالته بالمرة و يتكرر في كل فعل كلام لاحق. و تطرح ضرورة الكلام إشكالية بناء النظام الذي نوجد فيه عندما نطرح سؤال هذا النظام. إذا اعتبرناه كنظام منسق (بكسر السين) ينقسم إلى صورة و لفظ و جسم، فإننا نجد تمييز الأنا في الأنا، الأنا المثالي Ichideal و مثال الأنا Idealich، الجسم و صورة الجسم. و يمكن أن نتسائل عن "توازن" النظام: ما هو المكان حيث يمكنني رؤية و فهم أناي كأنا، و من أي موقع يمكنني أن أتحدث عن نفسي كأنا؟ لنستمع مرة أخرى إلى الأب في قصة "كل شيء Alles": "كان كل شيء متعلق بمسألة ما إذا كان علي حماية الطفل من لغتنا، إلى أن يؤسس لغة جديدة و بداية عهد جديد".
تتكاثف في هذه الجملة ضرورة التموضع في اللغة (لكي يقول المرء كذات-أنا-) بضرورة فعل إعطاء اسم في دراما مكتملة. ماذا قد يكون حل بأب حامل لمثل هذه الأفكار؟ تبدأ القصة باستنتاج الأب بأنه تزوج بامرأة، هانا Hanna، حملت منه بطفل. و قد سببت ولادة هذا الطفل في أزمة صعبة، أتاحت الفرصة لنقد اللغة، و هو نقد كان مضمرا، انتهى بفاجعة. بطريقة تراجعية، يحكي الأب كلما تحَمله. و يسمح لنا، انطلاقا من الحادثة المفجعة لطفله، بإلقاء نظرة على الفجيعة التي تبدأ مع الاسم: "بدأت بإرجاع/نسبة كل شيء للطفل" (51). ويستطرد: "مرت الولادة دون تعقيدات و تزامن ميلاد الطفل بعيد ميلاد الأم. سمع المرء منها بأنها كانت منهمكة في تهييء كل ما كان يجب تهييئه". وميلاد الطفل كان أزمة للأب لوحده. ليس لأنه لم يكن موجودا، على العكس من هذا، كان موجودا في الواقع. مشكلته هو أنه لم يجد أي استعمال يذكر لهذا الدرس الكبير. "بتسرع، سجلت ثلاثة أسماء في سجل الولادات. أسماء الأجداد. و في نهاية الأسبوع الأول لم يعد الصبي يسمى إلا "فيبس Fipps" ". لم يذكر الأب أي الأسماء الأخرى التي سجلت للطفل في سجل الولادات.
فيبس Fipps، - جمع لحروف دون معنى-، أصبح فجأة موجودا هنا. نبع من النطق بأسماء كثيرة. […]. وحتى وإن لم يكن عليه إعطاء هذا الاسم، فإنه كان على هذا الأب النطق به. وهنا تعبر الأزمة الأولى للأب عن نفسها: هذا الاسم الداعي للسخرية Spottnamen يوحي بالثورة ضد استحالة عدم إعطاء هذا الاسم و طريقة تسجيله: "كنت في بعض الأحيان أثقل كاهل الطفل بهذا الاسم، كما لو كان باستطاعته الدفاع عن نفسه، كما لو لم يكن صدفة: فيبس. كان علي أن أستمر في تسميته هكذا، للضحك من ذقنه، حتى بعد الموت، والضحك على أنفسنا" (52). ما كان على المرء الاحتفاظ به لنفسه، يرجع للظهور من جديد بطريقة صامتة. يصبح فعل إعطاء الاسم عدم قدرة الأب، هذا الفعل الذي يوَقع مكانه في الرمزي، الذي لن تصله الذات، و دونه لن يمكنها موضعة وجودها في علاقة معينة. لكن لا يمكن الوصول إلى حقيقة كائن ما Seienden حسب هيدجر إلا إذا ألححنا على التسمية وركزنا على عدم المطابقة. يعني ركزنا على التناقض الداخلي للإسم الشخصي الخاص. ويتجنب والد "فيبس الصغير" هذا التناقض بكل قوة.
ينبه فرويد في ملاحظة جانبية في قصة "هاينس الصغير" إلى أهمية القبل الزمنية Vorzeitigkeit الرمزية في بناء الذات. كان هاينس في الخامسة من عمره مريضا بفوبيا الخيول. اتصل والده بفرويد لمساعدة ابنه للتغلب على هذه الفوبيا. قرر فرويد فيما بعد اختيار طريقة غير عادية لعلاج هذا الطفل. اقترح على الأب أن يصبح وسيطا في التحليل النفسي لهانس. بدأ الأب على التو بتدوين أحاديثه مع ابنه، هذه الأحاديث التي ستصبح فيما بعد أساس علاج فرويد. في يوم من الأيام، أتى هانس و والده لزيارة فرويد. وبعد إنصات طويل، اتضح لفرويد أنه وصل إلى طريق يمكنه أن يصبح بمثابة قنطرة تمكن الطفل من الوصول إلى العرض، و قال بعد أن شرح أهمية العرض الجملة التالية: " Lange bevor du auf der Welt warst … قبل زمن طويل، قبل أن تولد…"18. "قبل زمن طويل، قبل أن تولد، كنت أعرف بأن هانسا صغيرا سيأتي، تحبه أمه، وبسبب هذا الحب سيخاف من والده"19.
أن توجد منذ مدة طويلة قبل أن تولد، في الكلمة، في الإسم في الرغبة/التمني. هناك عالم تكون موجودا فيه قبل أن تأتي. و تدخل في حقل الرغبة. و هذا عكس ما نجده عند والد فيبس: لرفض الإسم من طرفه نتائج وخيمة على فيبس الصغير. و عن طريق الباب الذي اختاره للدخول، فإنه يقطعه عن حقيقة الرغبة، و كأن المرء لا يمكنه الرغبة، وكأن نفي الرغبة لن يصبح رغبة: "لم أكن أتمنى لفيبس أي شيء، أي شيء على الإطلاق. كنت ألاحظه فقط. لم أكن أعرف أكان من حق المرء ملاحظة طفله هكذا، كباحث لـ "حالة ما". كنت أتأمل هذه الحالة الإنسانية دون أمل" (57).
يفكر أب "فيبس الصغير" بطريقة مغايرة لفرويد في "هانسه الصغير". يعتبر والد فيبس الوجود في اللغة كسجن. وككل السجناء فإنه يحلم بالحرية، هذه الحرية التي لا يمكن أن توجد إلا خارج أصوار اللغة. ويتصور العالم الآخر للغة كشرط لإمكانية اختراع لغة خاصة. إنه لا يحلم بعالم دون لغة إذن. ما يهمه هو ليس اختراع لغة جديدة ما، لكن اختراع اللغة من جديد. يتعلق الأمر إذن باللغة كخلق خاص: "في الأصل كنت أنا و أنا الذي أعطيت الكلمة"20. إنه يحلم بإعطاء اللغة، ليرجع عن طريق طفله إلى زمن قبل اللغة، زمن دون خطايا للوجود مع الكينونة الخاصة Mit- sich-selbst-Sein: "كان عليه أن يبرهن لي منذ البداية بإشارة واحدة بأنه لا يجب عليه تقليد إشاراتنا" (57).
وكيفما موضعها المرء، فإن البداية خطوة لا يكون بعدها أي رجوع. و يسمي فرويد هذا الضياع ب "عدم الكبت Unverdraengung"، يكون المرء فيه دائما مخلوقا و ليس خالقا. لكن مخلوق من؟ نعم، قد تكون اللغة مخلوقة من طرفي وغير معطاة، وهي التي تثقل كاهلي بخطيئتها.
فكر والد فيبس الصغير في خطة رهيبة: يقرر أن يحرم الطفل من اللغة:"ألم يكن بوسعي عدم البوح بأسماء الأشياء، و عدم تعليمه استعمال هذه الأشياء؟ لقد كان أول إنسان يبدأ معه كل شيء. ألم يكن من الضروري التخلي له عن العالم دون معنى؟"21.
انطلاقا من هذا الـ"المنذ زمن طويل قبل …" يمكن للمرء أن يأخذ الجواب الذي قدمه أوديب قديما كحل للغز أبي الهول Sphinx: "ما هذا؟ أربعة و من بعد اثنان و يتليها ثلاثة؟ لا يمكن أن يكون إلا الإنسان. لماذا؟ لأن الإنسان وحده هو الذي يجيب على اللامعنى Nicht-Sinn. والجواب الذي يعطيه أديب يجعل منه في نفس الوقت سجين اللغز الذي يكون هو حلا له. وحل اللغز هو مفتاح الدخول في داخله، في بنيته الخفية. و شكل مفترق الطرق الذي يصل إليه أوديب هو(L)22 و الحروف الأولى لإسم أبيه Laios Labolakos حيث تطرح إشكالية الأب-الإبن Vater-Sohn دون علمهما، هي الممر إلى هذا المكبوت. و انطلاقا من هذا الشكل“L” تبدأ المشكلة مشوارها. إن قتل الأب دون الإعتراف به يقرب أوديب أكثر من اللغز الذي يحمله و يقدم له النتائج المأساوية لاتحاد يقضي على كل الصلة العائلية. يتعلق الأمر إذن بقضية التهمة، تنتهي بهدم كامل لما بني. و في نهاية حياته، عندما يرجع أوديب لاكتشاف خطأه دون محاولة تبريره ودون تراجع، فإن حقيقة التراجيديا تتضح: ليست الآلهة هي التي تحدد مصير الإنسان، لكنها الكلمات التي تحدد الإنسان، هذه الكلمات التي لا يعرف عنها شيئا! إنها الكلمات التي تظهرنا/تعلن عنا كذوات ضعيفة، ذات الوضع الضعيف. كلمات لا نعرف عنها شيئا، أو لا نعرف عنها شيئا بعد أو لم نعد نعرف عنها شيئا، أو كلمات لا نريد أن نعرف عنها شيئا. ولهذا السبب كان باستطاعة أوديب أن يصبح بالنسبة لفرويد اسما لعقدة ما، جعل منها فيما بعد عقدة أساسية للإنسان المعاصر. و هي قصة من القصص التي تعبر بدقة عن حقيقة الإنسان. و هي حقيقة متناقضة، تتمثل في كون مستقبل الإنسان هو ماضيه. و قد أعطى فرويد لهذا التناقض شكل شرط Imperativ، غالبا ما أسيء فهمه: "حيثما كان الهو، يجب علي أن أصبح.”Wo Es war, soll ich werden 23 والشرح الذي أعطاه لاكان لهذه الجملة تعطيها نكهة أخلاقية: حيثما كان الهو، يمكن للمرء أن يقول حيثما كان، يكون من واجبي أن أتي للوجود"24. و لنأخذ في عين الإعتبار هنا التأويل الذي يعطيه لاكان للكوجيطو. يقول، ومعه الحق، بأنه يجب على المرء أن يبدل جملة: "أنا أفكر إذن فأنا موجود" بجملة خبرية. وإذا أعطى المرء للإنسان الإختيار بين التفكير و الوجود25، فإنه سيختار الوجود. ولأن التفكير دون وجود سوف لن يكون له أي معنى، فإنه من الأهمية بمكان التفريق بين الخطاب ومضمونه. وعندما نقوم بهذا التمييز، فإننا نتحدث عن موضوعين بينهما فرق شاسع. وبهذه الطريقة فإننا نقترب أكثر من مفهوم الذات اللاوعية، الهو(Es) الفرويدي، إنه ذاك "المتكلم".
لنستحضر إلى أذهاننا ما قاله فرويد فيما يتعلق بالتشخص مع الأب. كل شيء يوحي بأن الأمر يتعلق عند الأب بعصى يتكأ عليها في اللغة و من أجل اللغة. و قد رأى فرويد في هذا كون الله هو العكس الطفولي للأب. و عدم وضوح الله كإسم للأب Name-des-Vaters و اسم الأب Vaters-Namens لم تحل هنا. و يرتكز التشخص مع الأب الذي يتحدث عنه فرويد على "الصلة القديمة" للعهد الرمزي مع الأب، الذي تنتجه علاقة الإنسان مع اللغة. و يقود هذا العهد من جهة إلى السلسلة الطويلة للأجيال، حيث يكون الأب شاهدا على نظام معين، لا يمكن ضمان استمرارها إلا عن طريق اللغة. و من جهة أخرى فإنه يوقظ خيال الخلق، يعني الخلق من الرغبة، و انطلاقا من مثال أب "فيبس الصغير"، يمكن للمرء تصور أماكن العطب في هذه السلسلة، يكون كل أب إرثا لها و شاهدا عليها. فجأة لم يعد يعرف ماذا يعمله بهذه السلسة التي كان عليه على الرغم من إمكانية وضعها موضع تسائل و تعقيدها الدفاع عنها. يقول الأب: "على المرء أن يتصور ذلك بدقة (…) تصور يمكن أن يقود المرء إلى الحمق ويوقظه من كثرة الشك. قد يكون التفكير في هذه السلسلة منبع راحة بالنسبة للكثيرين: أنجب سيم Sem أربشاد Arpachsad. و عندما وصل هذا الأخير الخامسة و الثلاثون من عمره أنجب صالح Salah. و أنجب صالح هابير Haber. و أنجب هذا الأخير بيليغ Peleg. وعندما كان عمر بيليغ ثلاثون سنة أنجب ريجر Reger. و أنجب هذا الأخير سيروغ Serug، الذي أنجب ناهور Nahor. وكل واحد منهم أنجب الكثير من البنين و البنات. وأنجب هؤلاء البنون والبنات بدورهم بنون وبنات، يعني أنجب نهور طارة Tharah الذي أنجب أبرام Abram وبعد ذلك ناهور وهاران Haran. سأحاول أن أفكر في هذه السيرورة في بعض المرات، ليس فقط بدء من آدم وحواء، اللذين قد لا يرجع أصلنا لهما أو بدء من االإنسان القرد Hominiden، الذين قد يرجع أصلنا لهم، و في كل الحالات فإن هناك منطقة سوداء، حيث تضيع هذه السلسة، ولهذا السبب يكون البحث دون جدوى".
في كل الأحوال فإن كل هذه العتمة، حيث يضيع الأصل/السلسة، توجد. وهي سلسلة تضيع باستمرار. هل يجب اعتبار البحث عنها دون جدوى؟ و لا يعتبر عدم إعطاء الإسم للإبن من طرف الأب جوابا جيدا لعدم التكافئ هذا. وراء عدم جدوى البحث يختبأ الشعور بالخطأ الذي يريد أب "فيبس الصغير" تقبله. فعلى الرغم من أنه لم يعمل شيئا لمحاولة إنقاذ طفله من الموت، فإنه عمل كل شيء لكي لا يؤدي الضريبة التي تمكن الطفل من خلافة والده، وبهذا كان بإمكان هذا الطفل لمس موت والده. يقول Leclaire: "إن موت الإبن غير مطاق: إنه [يعني الموت، زيادة المترجم] يحقق أسر أسرارنا و أعمق أمانينا"26. و قد يمكن تحمل قتل الأب أو قطع الأم إربا إربا أكثر من تحمل قتل طفل ما". ويضيف: "يرى المرء في هذا الظلم القدسي". لكننا لا نلتقي بهذا الإخراج Inszenierung اللاواعي في الوحي. انطلاقا بالتضحية بأسحاق ومرورا بقتل كل الأطفال قبل ميلاد المسيح ووصولا إلى أوديب أو Laios و illes Rais.
ويستنتج التحليل النفسي من هذا، كما يقول Leclaire، كون: "الحياة توجد فقط لفدية موت الصورة الأصلية و الغريبة، حيث يطبع ميلاد كل إنسان". و يتعلق الأمر بقتل لا: "يكون قابلا للتحقيق، لكنه ضروري عندما يفكر المرء في قتل "الطفل الجميل" الذي يجب أن يولد باستمرار" 27. يتعلق الأمر إذن بفعل قتل رمزي، بـ"تضحية". وبما أنه كان يظهر لوالد "فيبس الصغير" بأن ميلاد هذا الأخير كان دون غاية، فإنه يقرر حذف "فيبس" من هذه السلسلة، و بهذا احتل مكانه هو بنفسه كخالق. و بهذه الطريقة فإنه حرم ابنه من مكان كان بإمكانه انطلاقا منه أن يصبح ابن والده، ككل الأطفال قبله و بعده، وككل الآباء قبل و بعد والده. كان هذا الأب يريد أن يصبح الأب المؤسس Gruender Vater، الأب الذي لا يسبقه أي أصل. لنستمع لهذا الأب في نهاية اليوم الأخير و هو حامل نعش ابنه إلى القبر: "و الآن، بعدما مر كل شيء، و بعدما لم تعد هانا Hanna تجلس في غرفته ساعات طوال (…)، فإنني أتحدث إليه بعض المرات باللغة التي لا أعتبرها جيدة (…) و حتى و إن كنت لا أستطيع إحيائه، فإنه ليس من التأخر بمكان التفكير في كوني قبلت هذا الطفل".
سنرجع إلى أهمية هذا النص لاحقا. سيتضح لنا بأن الموت الحقيقي لن يعوض أبدا "التضحية" التي خلق بها الطفل. وازدواجية التضحية/الصلةOpferung/Bindung التي يمكن استخلاصها من مثال إسحاق [إسماعيل عند المسلمين] تجعل من "الموت الرمزي" فعل حياة.
انتهت رحلة مدرسية بالموت بالنسبة "لفيبس الصغير". وسبب الموت برأ كل المشاركين في الرحلة من القتل: "لم يكن أحدا مخطأ، أي أحد". سقط "فيبس الصغير" من أعلى قمة جبل حجري. لم يكن باستطاعة أحد تجنيبه السقطة. وقد علم الأب من طرف مدير المدرسة بأن الجرح الذي أصاب طفله في الرأس لم يكن خطيرا. أما سبب الموت فقد كان شيئا آخر:كيس/كيسة Zyste! ولا يمكن معاقبة أي أحد على هذا. قال الأب: "لم أكن أعرف ما هذا. من المحتمل أن شيئا أصاب مخ "فيبس الصغير" وسبب موته الفجائي. ماذا يمكن أن يدور في رأس طفل صغير تكون فيه كيسة Zyste فقيقعة Blaeschen!". أكان ذلك "حمق" الأب الذي انتقل إلى رأس الطفل، الحماقة التي تبدأ بعدم قبول إعطاء اسم ما للطفل؟ و يمكن للمرء أن يقول بأن الأب، ولكي لا يتحمل أية مسؤولية، تحمل هذه الأخيرة لأنه قبل أن "يقطع معه العهد"، كما يسمي المرء ذلك في التوراث اليهودية. ولكي لا يكون مرغما على قتل هذا الإبن المفضل، فإنه رفض أن يقطع معه العهد. وكما يقول لاكان:"كل ما لا يمكن ترميزه، يظهر في الواقع"28. يعني أن المرء يمكنه اعتبار كيسة Zyste في مخ "فيبس الصغير" كـ شبح الأب. الأب الذي يوجد واقعيا، لكنه رمزيا لم يكن يرغب في ذلك.
كان الأب، كل مرة فكر فيها في الرحلة المدرسية لابنه، يتذكر كذلك قصة السكين29، وكأن القصتين: "تنتميان من بعيد بعضهما للبعض". يقول: "كل مرة فكرت فيها في الرحلة المدرسية التي انتهى بها كل شيء، كنت أتذكر كذلك قصة السكين، و كأنهما تنتميان لبعضهما البعض، نظرا للصدمة التي تذكرني من جديد بابني".
لا يجب ترك السكين في يد الطفل، بل في يد ذاك الذي لا يريد أن يفهم، لكي لا يتهم بالقتل. كل ما يعنيه السكين في خيال الأب: القطع، التطليق، الإفتراق، وكل ما يؤسسه من رموز لابد أن يكون في يد الأب كرمز للعهد. وتقودنا التضحية بإسحاق إلى نظام يظهر فيه السكين كدال: "و عندما وصل للمكان الذي قاله له الله، بنى إبراهيم منبرا، غطى عينا ابنه إسحاق [إسماعيل عند المسلمين] و وضعه على المنبر على الخشب و أخرج يده ماسكا بالسكين ليذبح ابنه. في هذه اللحظة صاح ملاك الله في السماء و قال: " يا إبراهيم! يا إبراهيم! أجاب هذا الأخير: إنني هنا! قال له: "لا تمس الطفل و لا تعمل سوء، لأنني أعرف الآن بأنك تهاب الله و لم تذخر ابنك…"30.
تعبر هذه القصة التي تسمى في التقليد اليهودي "العهد" وفي التقليد المسيحي "التضحية Opferung" عما يتكرر في المخيلة اللاواعية لقتل الإبن. وباستثناء هذا فإنها تسجل في الوحي نقطة التجاوز الذي يظهر فيها فعل ينبأ بافتتاح عهد جديد. و يمثل هذا الفعل في نظر لاكان الشكل العام حيث يسجل عملية رمزية في الواقع31. تخبرنا قصة "عهد إسحاق" عن التضحية كفعل خلاق للولادة Ent-bindung، التي يقوم بها الإنسان في معاهدة رمزية. و القماش الذي ربط به إبراهيم عينا إسحاق بنية التضحية به لله أصبح، بعدما أزيح عن عينيه، كرابطة لنظام جديد. و قبل هذا كان بمثابة القماش الذي كان يحمل الخوف و كان بإمكانه أن يجعل من قتل الطفل واقعا.
بعدما أزيح القماش عن عينيه، لم يعد هذا الأخير، كما يقول روس 32Roes، عقالا، لكن Tonos، الأصل الإيثيمولوجي لكلمة الصوت Ton:رنة، نبرة، صرخة، و بالتالي أصبح رمزا للحياة: "تحتوي الكتابة، صوت الكلمة، على بعدي الصوت Tonos: البعد الخطي الذي يمكن رسمه والبعد الصوتي والبعد الفني. تظهر الكتابة […] كتخطيط، تدون، تصل وتوحد المعاني"33.
والعلاقة الجديدة التي تبنى عن طريق الربط هي علاقة مع اللغة و لها. وتستهدف هذه العلاقة: "السبب العميق لكل بنوة Filiation، لا تنتهي بالموت، لكن بالحياة التي تأتي من أفق تجاوز الإنسان للموت"34. ويكتمل ما قيل في "العهد الأبدي" بحدث الربط. عندما أصبح عمر إبراهيم، الذي كان يسمى إلى ذلك الحين "ابرام Abram"، تسعة و تسعين عاما، ناداه الرب قائلا: "انظر! لي عهدا معك و يجب أن تصبح أبا لشعوب كثيرة"35. "لهذا لا يجب أن تسمى أبرام Abram، لكن يجب أن يكون اسمك إبراهيم، لأنني جعلتك أبا لشعوب كثيرة"36. "و أريد أن يكون هذا العهد بيني و بينك و ذريتك من جيل إلى جيل، ليكون عهدا أزليا"37.
هنا يتأسس العهد الذي يعتبر كحجر أساس لبنية تجد تطبيقها في ربط إسحاق (إسماعيل). و يعتبر هذا النظام الجديد نظام الجنس. يبدأ بالإسم الذي يميز الجنس البشري كجنس الإسم Geschlechtername و اسم للجنس Name des Geschlechtes. و كان هذا هو الدرس الذي دفع أب "فيبس الصغير" إلى الحالة التي وصل لها. و العهد الذي يجب إقامته يتأسس عن طريق علامة خاصة بتضحية طلبت من إبراهيم و من كل الذين ينتمون إلى جنسه. التضحية بقطعة لحم صغيرة: "يجب ختن كل الرجال عندكم. و سيكون هذا بمثابة علامة العهد بيني و بينكم"38. و على الرغم من صغر قطعة اللحم التي يجب على المرء التضحية بها، فإن عواقبها جد مهمة. وظهور الخروف كأضحية عوض إسحاق (إسماعيل) يؤكد إلى حد ما صحة هذا النظام الرمزي الجديد، الذي يمكن من إيجاد تعويض Substitution في تطبيقه39.[….]. والتشافي من التعويض يظهر المرور من القتل الفعلي إلى التضحية، أو بعبارة أخرى المرور إلى القتل الرمزي. وقبل الوصول إلى هذا كان على إبراهيم وإسحاق (إسماعيل) المرور بالإمتحان. وقد كان إبراهيم عازما بحزم، لكي لا يدخل في العهد، التضحية بوحيده: "بعد هذه الحكايات امتحن الله إبراهيم وكلمه: خذ إسحاق، ابنك الوحيد، الذي تحب…"40. يتضح هنا إذن بأن ما قام به إبراهيم كان بأمر من إلاهه. سأترك جانبا كل المواضع في الإنجيل حيث يصور الله كإلاه قاس وأختار شيئا خاصا فريدا، نبهت له ماري بالماريMary Balmary. في كل أيات الإنجيل حيث يذكر أمر الله إبراهيم التضحية بابنه، هناك الحديث عن "الإبن الوحيد" أو عن "الأب والإبن كوحدة":وذهب الإثنين معا، الإبن الوحيد.
وقد أوضحت بالماري أن هذه المسألة جد دقيقة في العبرية: "ذهب الإثنان كواحد"41. لم يكن لإبراهيم ابن واحد فقط. أما عبارة الإبن الوحيد، فإنها قد تعني أن إبراهيم و إسحاق كانا يمثلان وحدة، شيئا كاملا، الواحد.
وعلى ما يبدو فإن إسحاق لم يكن بعد قد وصل إلى مستوى البنوة. ليس هناك بعد علاقة أب-ابن. لم يصل إبراهيم بعد إلى السلسلة المعقدة للأب والإبن. هذا السلسلة التي أسسها من جهة، والتي أسسته بدورها من جهة أخرى عن طريق اسمه: إبراهيم. هذه السلسلة التي توصل إلى الفتق الذي أدى بأب "فيبس الصغير" قطع العهد الذي يصل ذاك الذي يفرق و الذي يجمع و الذي يدفع إلى الإعتقاد بأن: "هناك على كل حال دماسة تضيع فيها هذه السلسلة". وهنا نلتقي من جديد بمعنى من المعاني الكثيرة للقضيب كـ “missing-link”.
ويمثل القماش الذي أزيح عن عينا إسحاق الخاصية الوحيدة التي يعترف بها فرويد في صيرورة التشخص. إنه يمثل صلة الوصل (وUnd)، التي تصل وتوحد الذات الإنسانية. والتسائل الذي يطرح هو: هل يكون هذا التوحد من أجل الحياة أم هل هو حبل موت؟ ما هي الضمانة التي يمكن إعطائها لذلك؟ و تنتمي الأشكال المختلفة لهذا العهد إلى الشهادات الأولى للثقافة ابتداء من الحزام ومرورا بالشال والدملج والخاتم. إنها أشباح تهدد هشاشة حلقات السلسلة. ويفرض "فعل الوصل" على كل أب تحمل مسؤولية تمريرها للأجيال اللاحقة. وتتمثل هذه المسؤولية في تقديم بداية الحياة دون أن يكون الأب هو أصل بداية هذه الحياة وتمرير سر الأب و سر الحياة للأجيال القادمة. ونجد أهمية هذه المسألة في الحلم الذي حكاه فرويد عن ذاك الأب الذي نام في فراش ابنه المتوفى والذي حلم بأن ابنه هذا قبضه من يده معاتبا إياه: "أبي! ألا ترى بأنني أحترق؟"42.
الهوامش
- 1 Bachmann, 1979, 53
- 2 Patrick de Neuter, 2001, 51-74
- 3 Pourtales, 1959
- 4 Lacan, 1974, 1975.
- 5 Lacan, 1975-76.
- 6 انظر Ratneoko, 1999
- 7 كافكا، 1994، ص. 9.
- 8 كافكا، 1994، ص. 13 و 14.
- 9 انظر لكان، 1991.
- 10Weber, 1992, 36.
11- فرويد، الأعمال الكاملة المجلد الثاني و الثالث، ص. 679.
- 12Lacan, Sem XI, 146.
12- (لاكان، المرجع السابق، المجلد الحادي عشر، ص. 132-133).
- 13Zizek, 2001, 7.
14 - لهذه الكلمة في العربية مرادفات أخرى منها الباعث و الدافع و الحافز إلخ.
- 15Brockhaus, 1971, 7.
16- فرويد، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث عشر، ص. 117.
17- نفس المرجع، ص. 259.
18- في نص فرويد على لسان والد الطفل، المترجم.
19- فرويد، الأعمال الكاملة، المجلد السابع، ص. 277.
- 20Am Anfang war ich und ich gab das Wort
21- (53).
22- انظر Texier, 1998
23- " فرويد، الأعمال الكاملة، المجلد الخامس عشر، ص.86.
24- لاكان، 417.
Dort, wo es war, man kann sagen, wo es sich war, ist meine Pflicht, dass ich zum Sein komme
25 - يمكن استنتاج هذا من جملة ديكارت: فقط عندما أفكر أكون موجودا
- 26Leclaire, 1975, 10.
- 27Leclaire, 1975, 11
28 - لاكان، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث.
29- [يحكي الأب ف القصة أن خصاما وقع بين ابنه و صديق له في مرة من المرات، حاول الإبن طعن صديقه بالسكين، لكنه تعثر و هو يجري ورائه و سقط و جرح يده بتلك السكين.] إضافة المترجم.
- 301. Moses, 22, 9-12.
31- انظر لاكان، محاضرات 15.
32- أديب ألماني، من مؤلفاته المشهورة: "الربع الخالي"
- 33 (Roes, 1992, 61).
- 34Legendre, 1999, 26.
- 351. Mose, 16-17, 4
- 361. Mose, 16-17, 6
- 371. Mose, 16-17, 7
- 38 Mose, 16-17, 10-11
39- انظر Balmary, 1986
40 . Mose, 22-23.
- 41Balmary, 1986, 201
42- فرويد، الأعمال الكاملة المجلد الثاني و الثالث، ص.513.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق