تأليف موليم العروسي
ترجمة عبد العالي معزوز
المشكلة
ينبغي توضيح أن مساهمتي تدخل في إطار الاستطيقا أو على الأصح في فلسفة الفن. ودون الوقوف عند اختلاف الاختصاصات أقول أن كل تحليل سوسيولوجي أو اقتصادي وحتى انتربولوجي لا يهمني سوى بقدر إمكان استثمار نتائجه للتقدم في حجاجي. كما اعتبر، فضلا عن ذلك، أن الإسلام فوق طابعه الديني والألهي الذي يمنحه له المؤمنون، يجد جذوره في الممارسة الإنسانية المحددة تاريخيا. فالأمر يتعلق إذن باختيار ثقافي وحضاري في مرحلة معينة، فأنا لا أؤيده ولا أعارضه كمنتوج ثقافي وروحاني. وإذا كنت غير مندهش أمام الفوارق والاختلافات التي يمكن أن تكون بينه وبين أنساق ثقافية أخرى، فبديهي ألا أزعم أنه يمكن أن يكون أفضل منها، فالاختلافات بالنسبة إلى هي علامات للتفكير، كيفما بدا هذا الموقف موسوما باللامبالاة، فإنه يحررني ويمنحني امكانية التفكير.
لماذا حظر الإسلام الصورة ؟ لماذا ليست الموسيقى العربية بوليفونية؟ يمكن أن استمر في هذا الاتجاه إلى حد المغالاة وأتساءل لماذا كان السود سودا؟ أشعر إلى هذا الحد أن السؤال ينبع من ذات تنصب نفسها نموذجا (كل ما هو مغاير وبالتالي كل ما ليس مطابق لي، فهو ضرب من الضلال التاريخي)، هذا ما يظهر أن هذا الاتجاه يدعيه لا يمكنني تصنيف هذا النوع من الحكم.
يعلمنا التاريخ أولا حول موقف الإنسانية من الصورة، فهذه الغرابة الإنسانية كانت مخيفة دوما. من الظل إلى المرآة لم يحصل فقط الإعجاب والانبهار، وإنما في الغالب حصل الرعب. أهل لأن الصورة، وهي مشتقة من (éidolon)، تجد جذورها في الموت ؟ (1) أليس للموت علاقة بالله ؟ أليس الله منبع للخوف والخشية قبل أن يكون موضوعا للعشق والحب ؟ انطلاقا من هنا، هل يمكننا اعتبار أن ليس العرب وحدهم الذين عاشوا وخبروا هذا المشكل ؟ إذا كان الإسلام منتوجا عربيا خالصا، على الأقل في النص، ألا يخبرنا عن جزء من مملكة الله، والتي خضعت إلى اكراهات فظيعة؟
يمكن أن ندفع بالسؤال إلى حده الأقصى: هل كل مجتمع بحاجة إلى الصورة لكي يعيش ؟ هل ينبغي قطعا أن نتأمل أنفسنا بطريقة نرجسية في منتوج أيقوني (نسبة إلى الأيقونة والصورة) حتى يحق لنا الانتماء للتاريخ ؟
من جهة أخرى، لم يحدث أن منع أي نشاط فني أو يدوي في الإسلام، فإذا أردنا منع الإبداع، كان بالأحرى القيام به في الشعر والكتابة: لأن الشعر مبدع للكلمة على غرار الله، والثانية لأنها تشكيل للأسماء، فهل يعترض علي بأن رجال الدين لم يذهبوا إلى منتهى منطقهم؟ لقد أشاروا إلى الشعر بالأصابع، ومع ذلك لم يمنعه هذا من معالجة موضوعات جد متمردة، فهل ينبغي استقصاء حقول أخرى للخروج من المأزق ؟
إن الإسلام كدين لم يطرح مشكلة بخصوص الصورة في فارس والهند والصين وحتى في تركيا. تخبرنا وثائق عن عجائب وروائع قادمة من الأندلس وسوريا ومصر.
بلاد المغرب وحدها تبقى في هذا المستوى شحيحة في الإنتاج حسب الدراسات ولكن مرة أخرى "يرجع هذا إلى الفقر في التحليل. إذا اعتبرنا الامتداد الجغرافي، فسيكون هناك ترحيب بالصورة أكثر من الصدود عنها، فعن أي إسلام نتحدث إذن ؟ هل عن اسلام الكتب، أو الإسلام المعيش والمكيف من قبل البشر؟ هل يمكننا إذا اتخذنا موقفا أقل تصلبا وحرفية من رجال الدين المسلمين أنفسهم، أن نجد مخرجا لحيرتنا ؟
إن عشق الصورة (الأيقونة) L’Icône أو بغضها موقفان متصارعين على الدوام تاريخيا، أعني التاريخ الإنساني برمته.
"بالنسبة لعشاق الصورة أو الايقونة، هناك علاقة ميتافزيقية إن لم نقل علاقة تطابق تجمع بين الصورة والنموذج، بين الشكل والروح بين الايقونة والألوهية (...) بالنسبة لعشاق الايقونة، إن الفكرة الافلاطونية والنموذج الأصلي بامكانه التعبير عن نفسه في شكل محسوس واضح، إن مذهبهم هو ميتافزيقا متعينة ملموسة، ولاهوت مرئي حتى تستكمل الايقونة الانصهار بين المرئي واللامرئي" (2).
إذا كان لدينا عشاق الصورة (الايقونة) من بين النوع البشري، فهل لدينا مناوؤون لها ؟
"إن الاهتمام والشاغل الأساسي لمناوئي الايقونة هو الحفاظ على نقاء مفهوم الله والوجود. يترتب على ذلك اقصاء كل تشبيه (Figuration) من حيث وصفها بالوثنية (...) ومن تم طابعها المذهبي والعقدي :
إن الرؤى بالتحديد امتياز للبعض فهذه الرؤى من حيث اختلافها اختلافا شديدا من الخبرات اليومية تكتسي طابعا استثنائيا وخارقا للعادة (...) فالموقف المناوئ للصورة يتضمن رفضا للواقع الدنيوي : فلا علاقة لهذا الأخير بالمقدس : إنه مجرد مشهد (...) إن مناوءة الصورة في شكلها الحديث مشابهة لشكلها القديم وتترتب عنها رؤية نبوئية للمجتمع.
فهي تظهر بمظهر ثوري في علاقتها بالعالم الحاضر والذي تعتبره لا واقعيا، ومجرد مظهر ومشهد خالص" (3).
ماذا يقترح الفن الحديث في ابداعاته الأكثر "تقدما"؟ انطلاقا من هذه الاعتبارات، سنجد صعوبة في القول بأن الإسلام كان ديانة مناوئة للصورة في الأصل، إذن محاربة المظهر والوهم والمتشابه لا يبدو أنه قدر مجتمع أو حضارة ما. يمكن محاربة الطيف (Simulacre) دون التوقف عن عشق الصورة، كما يمكن مناوءة الصورة ومعايشة النسخ (Doubles). إن محاربة الوهم والخطأ ينتمي لمرحلة النبوة (Prophétie)، مرحلة عبادة الأصنام، ومن ثم ينتمي للمرحلة اللاهوتية بامتياز، ينبغي تحديد المشكل جغرافيا أو خرائطيا.
عندما نشير إلى بلاد اليونان وموريتانيا (بلاد المغرب حاليا) وآسيا الصغرى، وبلاد الهلال الخصيب ومصر والعراق فإننا لا نشير فقط إلى مناطق جغرافية محددة، وإنما نتحدث عن مهد حضارات، إذ كانت تشمل حوض المتوسط، فإنها كانت تتحاور مع الشرق الأقصى، حقا إن كل واحدة منها عبرت بلغتها الخاصة، ولكنها كلها طرحت نفس المشكلة.
فلنقتصر على مثالين واضحين:أحدهما أعطى ميلاد الفكر المسمى غربيا، والآخر الفكر المسمى شرقيا. أعلن بدون تردد: أفلاطون وإبراهيم. يمكن أن أقول وبدون رغبة في تحقيق نصوص تاريخية أن هذين المشكلين من الفكر معاصرين لبعضهما البعض فإبراهيم هو الأب الروحي للتوحيد وأفلاطون هو الأب الروحي للميتافزيقا، لا شيء يمنع البعض من القول بأن الميتافزيقا تشكلت انطلاقا من ما قبل السقراطيين (Les pré-socratiques) وربما قبلهم، وبأن التوحيد جاء منذ حمورابي وسأتناول وجوها رمزية:
لم يكن إبراهيم كنبي وكمناوئ للصورة أقل واقعية وبحثا عن الحقيقة من أفلاطون، كما لم يكن هذا الأخير أقل مناؤه وعداوة للأيقونة من إبراهيم. لنستمع إلى أفلاطون.
"لنرى الآن ما الاسم الذي ستطلق على هذا العامل ؟"
أي عامل.
الذي يعمل كل ما يعمله مختلف العمال، كل واحد في اختصاصه.
تتحدث هنا عن إنسان ماهر ورائع!
انتظر، ستقول نفس الكلام بعد حين على حق، الصانع الذي أتحدث عنه ليس قادرا على صنع مختلف الأثات، ولكنه يصنع كل ما ينبت في الأرض، ويخلق كل الأحياء، بما في ذلك هو نفسه، وفضلا عن ذلك، يصنع الأرض والسماء والآلهة، وكل ما في السماء وكل ما في باطن الأرض، وفي الجحيم L’HADES .
- ما أعجبه من سوفسطائي هذا الذي تتحدث عنه !
- الا تصدقني؟ قل إذن : أتظن أنه لا يوجد عامل يشبهه ؟ أتظن أنه يمكن خلق هذا من ناحية، وعدم القدرة على خلقه من ناحية أخرى، ألا تلاحظ أنه يمكنك خلقه أنت أيضا بكيفية ما ؟
- و ما هي هذه الكيفية ؟ قال متسائلا.
- إنها غير معقدة، قلت له، وهي تنجز غالب الأحيان بسرعة، بل بسرعة أكبر، إذا أخذت مرآة وقلبتها في جميع الجهات، فإنك ستصنع الشمس والكواكب في السماء، والأرض، وأنت وجميع الكائنات والأثات والنباتات وكل ما تحدثنا عنه قبل حين.
- نعم ولكنها ليست سوى مظاهر وليست وقائع.
- حسنا، قلت، إنك تعود إلى النقطة التي أردتها في خطابي، لأنه من بين الصناع من هذا النوع، ينبغي ادخال الرسام، أليس كذلك ؟
- كيف لا ؟
ينبغي التنصيص هنا على المظاهر والوقائع: يدين أفلاطون هنا كل ممثل يحاكي الواقع بوسيلة سحرية هي المرآة، فالحقيقة توجد في مكان آخر وليس في الصورة، وهذا ما يشكل قوة اسطورة الكهف.
وكما قيل آنفا، فإن عصر الأوثان كان عصر الحقيقة اللاهوتية التي لا تنبع من الواقع. إنها حقيقة تنتصب ضد وهم هذا العالم الأرضي، حقيقة تعارض المحاكاة والوهم والتمثيل.
كان هذا الممثل في بلاد اليونان هو السفسطائي، وفي بلاد العرب هو الشاعر ألا يقول القرآن: "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا" سورة الشعراء مكية آية 227.
فالنص واضح فيما يخص الشعر، لماذا لم تدفع هذه الآيات السلطة الدينية إلى ملاحقة الشعراء؟ ألم يقم عمر بن الخطاب بملاحقة الشعراء في شخص الحطيئة ؟ ألم يحكم عليه بالإعدام بسبب شعره الهجائي؟ ورغم ذلك لم يمنع الشعر من التربع في مجالس الأمراء والشعراء ؟
إن ما تمت إدانته بشدة هو المحاكاة والخطأ أكثر من الصورة ذاتها، إن عمل النبي المبشر والمنذر بالحقيقة يتطلب محاربة اللاحقيقة أو الضلال، وفضلا عن ذلك، فإن أحد الأحاديث الأكثر وضوحا في معارضة الصورة هو الذي يدين الممثل، وليس من قبيل الصدفة أن لغة عصر النهضة العربية استعملت نفس الاسم للإشارة إلى الممثل المسرحي أو السنيمائي:(Mathala)
مثل و«Thimthalé » التمثال أو بكيفية حرفية الصورة وMathala lalu achya يعني مثل له الشيء حتى ظن أنه يراه.
الوهم مخيف وينبغي محاربته بلا هوداة، فهو يفضي إلى الخطأ، ويطرح مشكلة النسخة (le double) على غرار مرآة أفلاطون. فالنسخة أو الثنائية هو مشكل لم يستطع اللاهوت الإسلامي حله قط، وسنرى هذا فيما بعد، فالحديث يقول :"أشد الناس عدابا ممثل من الممثلين" ويضيف لسـان العـرب "الممثـل، بمعنى مثلت له كدا تمثيلا ادا صورت له مثاله بكتابة وغيرها". هـل ينبغي تعريف الممثل أو المقلد (simulateur) للخروج من هذا المأزق ؟ هل الفنان أم الكذاب أم المخادع ؟ هل هو المزيف والمزور أم الممثل ؟ هل هو الذي يخلق على غرار الله (أي من لا شيء) أم أنه الذي يزيف الواقع ؟ وفي كل الأحوال، نجد أنفسنا أمام الذي يعيد إنتاج الواقع (بواسطة الكلمة أو المرآة أو الريشة) الموجود أصلا، ويحاكيه بكيفية مغايرة. فماذا يقترح الفن الحديث في ابداعاته الأكثر تطورا؟
عندما نتموقع داخل دائرة الفن(5)، نجد نفس التصميم تقريبا، إذا لم نعتبر الشروط التاريخية التي أتاحت كل واحد من أشكال الفكر هاته. إن الفنان يبجل الصدق، والحقيقة والتلقائية والجدية، فمنتوجه منذ العهد الرومانسي تحديدا، يستقبل بأكبر قدر من الجدية. فليس هذا المنتوج وحيا لمطلق سماوي، وإنما صادرعن فراغ داخلي، وليس من محض الصدفة إذا كان التجريد في الفن، كغاية قصوى لهذه الممارسة، قد طرح بصيغة المطلق. فلنتأمل ماليفش (malévitch) واتجاه (Supprématisme) حيث أن الدائرة اكتملت وأن الفن يعود لأصله الروحي. ينتصب الفنان كنبي يشرف عبره النور الألهي الأسمى.
ولكن ينبغي التمييز بين اقتراحات ومعارضات الصورة. تختلف معارضة الصورة لدى الأغريق في كثير من المواضيع عن العرب, ما يعتمل في الإسلام كباقي اليهودية وفي بعض المسيحية الأصلية هو التجاوز أو التعالي عن الرؤية (transcendance de voir). بقدر ما ترتكز مناوءة الصورة لدى الأغريق على الفكرة المرئية والمفهومية يرتكز التوحيد على فكرة اللامرئي (l’invisible)،في التاريخ البعيد، شهد النظر (le voir) أو الرؤية أفولا في بلاد الهلال الخصيب والعراق وفي شبه الجزيرة العربية، فإبراهيم أول من قام بهدم أصنام وأوثان شعبه, هذا منظور الإسلام، أما إذا انتبهنا إلى الثوراة سنرى أن طروحات الإسلام ليست سوى النتيجة المنطقية لفكر يتجه سلفا نحو تجريد لا مناص منه.
ii- اركيولوجية النظر أو الرؤية
أ- المقدمة التوراثية
يبدو لي أن مسألة (تاريخ النظر) مرتبط بكل ولادة، في الأصل لم يكن الله يبصر شيئا، فكان عليه خلق العالم لتأمله، لم يرفع عن الله ضرره وعدم إبصاره حسب ابن عربي سوى بعد مجئ الخلق، فهذه العلاقة (ولادة ميلاد/نظر رؤية) موجودة في الثوراة.
"لقد منع يهوه آدم وحواء من تناول تمار شجرة الخير والشر، ولكن بما أن المرأة وقعت في غواية الأفعى، فتناولت منها ودفعت الرجل إلى التناول منها، لأنها وجدتها لذيذة الطعم ومغربية لرؤية العين، ولأن هذه الشجرة مرغوب فيها لاكتساب العقل والمعرفة" (التكوين III, 6,7).
وبكيفية تلقائية، فتحت عينا آدم وحواء فإذا بهما يجدان نفسيهما عاريين فاختفيا عن أنظار الله الذي كان يتجول في الحديقة، وبعد تفكير، قال يهوه أنه لم يبق للإنسان سوى الأكل من شجرة الحياة ليستحيل الها مثلنا.(6)
حسب الثوراة لقد سرق الانسان جزءا من الله، أي النظر الذي يسمى تارة عقلا، وتارة أخرى سماعا، وأحيانا أخرى نظرا أو رؤية. ليس أمام الإنسان سوى خطورة واحدة ليصبح إلها، إذا كانت الخطيئة دائما قد طرحت كعمل ارتكبته المرأة، وعوقب بشدة بالسقوط، فإن نتيجة هذا العمل لم ترق الله أبدا. حسب الثـوراة." سيكون هذا المشكل مصدر تردد الهي، لن نعرف أبدا إذا ما كـان يهـوه (Yahvé) موافقا أم لا على النظر، فهو يعاقبه من حين لآخر بشدة (هل يحدث هدا بكيفية مزاجية)؟" (7)
سوف نرى هدا المشكل يتردد باستمرار والحاح في العلاققة التي تربطالله بأصفيائه، ابراهيم، موسى، عيسى وبعد دلك محمد. على طول المتن الثوراتي سوف يتأرجح الله بين الظهور و التخفي, لن نعرف وحتى من خلال الأسماء التي يصف بها داته هل هو جسم محجوب عن النظر أو هو فكرة منزهة؟ في هدا المفصل بالدات سوف تتدخل القراءة الاسلامية,
ب- أنسقة اللامرئي systématisation de l’invisible
سيحاول الإسلام إعادة قراءة التراث الإبراهيمي، ولكن سيقترح تقويم وتصحيح الثوراة انطلاقا من فكرة أنها حرفت. سيحاول استبعاد كل طابع إنساني انتربومورفي anthropomorphisme عن الله، واستبعاد أنسنته وسيعمل في اتجاه تعال مطلق. وإذ يعتبر الإسلام إبراهيم الأب الروحي للتوحيد، فإنه يقترح سيرة حياته الروحية.
جاء في القرآن "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين". الآية 76 من سورة الأنعام ونظرا إلى القمر والشمس وقال:"إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض".الآية 79 سورة الأنعام
حسب القرآن فقد أدار إبراهيم ظهره للحسي بمعنى المرئي في اتجاه الدي لاتمكن الاحاطة به. ففي محاولته اتباع طريق النور ينتهي به الأمر إلى اللامرئي ! إنها مفارقة. في إزاحته للنور سيكتشف الله الذي يتحدد كنور بامتياز.
"بتحوله ذلك، يتبرم من كل ما هو طبيعة (فيزيقا) ويوجه الاهتمام نحو نحو كل ماليس كدلك. يسجل الجسد منعطفا وكدلك الفكر الديني. فإبراهيم النص القرآني، بعد انخطاف بصره من نور الشمس يولي وجهته إلى اللامرئي. فالشمس كمرحلة ما قبل إلهية، باعتبار هذه الاستعارة الشمسية، تدعونا إلى التفكير في انفكاك شبكة العين، وبهذه الشبكية المتضررة لا يرى إبراهيم سوى الأسود أو الأبيض، وبذلك يحل التحجب والعمى".(8)
ولا يبقى سوى النظر الداخلي جسرا للعبور نحو الحقيقة ! ماذا يقترح أفلاطون في محاورة المأدبة Le Banquet ؟ وماذا يطرح الفن الحديث؟ يقترح أفلاطون نفس المسار المطروح آنفا، مع فارق واحد هو أن فكرة الجمال تصبح منظورة أو قابلة في نهاية المطاف. فلنحتفظ بفكرة النظر. فالأمر يتعلق بالانتقال من الفيزيقا إلى الميتافزيقا عند أفلاطون، ومن الفيزيقا إلى التصوف عند إبراهيم وبالتالي في الإسلام. كيف ذلك ؟
III- من التشابه إلى التعالي
إن النور هو الموجود الوحيد في الكون، ربما الموسيقى أيضا، الذي يمكنه إخراج الاشياء من التحجب والاختفاء، ولكن الموسيقى أصلا عملية متطورة لما هو إنساني، لأنه بواسطة السمع، والسمع وحده يملك الإنسان القدرة على عزل الأصوات وإعطائها معنى. يمكن إذن تشبيه الموسيقى بعملية محسوسة ومعقولة بكيفية أو بأخرى لما هو متوحش وفوضوي، بينما النور في معناه الأصلي البدائي، أي في حالته الطبيعية، ينقل الأشياء بكيفية فطرية إلى الظهور. من شأن النور بالمعنى الفيزيقي إخراج ما هو مختفي، فكيف يكون ذلك ممكنا ؟
يمكنني القول حتى أفهم من طرف الجميع، أن الأشياء لا يمكنها أن ترى سوى بتأثير النور، وبعبارة أخرى لا يمكن للأشياء أن تتخذ شكلا سوى بفضل النور، وها نحن نصل إلى مسالة أساسية وجوهرية.
أليس ما هو قادر على حمل الأشياء إلى الوجود، والقادر على انتشالها من الاختفاء والتحجب، قادرا على الخلق بمعنى استدعاؤها لأول مرة وعرضها أمام النظر، وأمام التقدير والتقييم ؟ فهل يكون النور إذن مبدع الموجودات والكائنات؟ أني ألامس هنا مشكلة دينية لاهوتية بل وميتافزيقية صوفية، سأعالج هذه المشكلة لاحقا.
لنأخذ مثال الرسم، يمكنني القول من وجهة نظر تقنية خالصة أن شيئا مرسوما لا يمكن أن يأخذ قيمته سوى بواسطة عملية الضوء المخصصة له، فالجسم لا يمكنه الظهور سوى بواسطة الضوء، إن الكتل والأجسام لا تبرز في الرسم كما في الطبيعة سوى بفضل النور. إن الفنان الذي يحاول بواسطة قلمه الفحمي Fusain تأويل موضوع ما، مضطر أن يتعرض للضوء حتى يمنح للأجسام أشكالها، فهل يكون الضوء أو النور قوة إلهية؟
تعتبر الظلمات في المتخيل الإنساني عبارة عن عدم مطلق، إنها من قبيل العدم بمعنى أنها تمحى كل شكل وتقيم العمى المطلق. يبدأ قدوم الكائن في امتلائه مع أول بصيص للنور الذي يشرع في تحديد الأنحاء ودفق الألوان. وتحيلنا هذه الصورة إلى الحكايات الميثولوجية للخلق حيث انبجاس الكون من السديم متخذا شكلا مرئيا.
انطلاقا من هنا اعتبر النور منبعا للحياة، وتمت عبادته في شخص الشمس، وتم إعلاؤه إلى مرتبة إله لا مرئي ومبدأ أول للخلق، ولا نملك إلا أن نشير إلى السجين الأفلاطوني الذي وبعد تحرره، يقتاد في رحلة تلقين نحو منبع الحياة المسمى شمسا: نحو الفكرة (idea).
ولكن الأنسقة الأكثر جدرية لهذا المبدأ كمحرك للحياة، طبقت من طرف التوحيد في اسيا الصغرى وفي الشرق الادنى، وفي هذا الصدد يقول رونيه كينون (R.Guénon)" إن التوحيد رغم حصره للمعنى عندما يوحي بكيفية لا مناص منها بوجهة نظر دينية، فإن له طابعا شمسيا (solaire) ولا يكون هذا محسوسا في أي مكان سوى في الصحراء، حيث تنوع الأشياء يقلص إلى الحد الأدنى، وحيث يظهر السراب في نفس الوقت كل ما هو وهمي في هذا العالم الظاهر ...، فلا نجد صورة اكثر حقيقة للوحدة وقد انبسطت في التعدد دون ان تتنكر لذاتها ودون أن تتأثر، ثم تستعيد حسب المظاهر هذا التعدد والذي لم ينبثق منها في الواقع لأنه لا يوجد شيء خارج المبدأ الواحد والذي لا يمكن أن نضيف أو ننقص منه شيئا لأنه يشكل الوحدة اللامرئية للوجود الأوحد".(9)
انطلاقا من هذا النص آمل أن يفهم ومن دون التواء، ان الأمر يتعلق بالنزعة الروحانية كظاهرة أرضية، وهكذا و قبل أن يجد "النور" شكله النهائي في التعالي كان الموضوع عبادة في شكله المباشر "نار" وينبغي إصاخة السمع إلى اللسان العربي. فكل ما يتعلق بالنور الروحاني في الأدب العربي الاسلامي يجد أصله في النار، نور ونار ومنارة تطلق على مكان عال حيث يمكن وضع نار لهداية المسافرين، وينبغي ترجمة كل الأسماء حسب سجل أو قاموس روحاني.
وبعد ذلك، تم اعلاء النور إلى السماوات من اجل عبادة الشمس وما كلمة (llah) اله سوى تذكير لكلمة (llaha) أي الشمس التي كانت الهة. وإن التعالي الذي ابتدأه ابراهيم سيجد صياغته الأكثر تنظيما ونسقية في النسق الاسلامي، لقد تم الانتقال نهائيا من الممنوع الثوراتي.
"أنا يهوه، الهك، الذي اخرجك من بلاد مصر، من دار العبودية.
لن يكون لك الهة سواي.
لن تصنع أي صورة منحوتة، ولا أي شيء يشبه ما في السماوات العلى، ولا في الدار السفلى ولا في البحر تحت الارض"(الخروج 19 ،20)
أننا لسنا أمام المحرم التوراثي (التجسيم) بل أمام نسق من طبيعته انه يوقف أية امكانية لتخيل شيء ما بعد الخلق. لا يمكنك ان تفهم المبدأ الأول سوى إذا سمح هو بذلك، فلا يتعلق الأمر بنقص في الخلق، وإنما بمشكلة الفهم الفكري والنظر في أساس الخلق.
خاتمة
بقدر ما أن أفكار إبراهيم ومحمد أفكار أرضية، فإنها تشكل لحظة محددة ضمن تاريخ الصورة، فهل يشكل تاريخ الصورة دائرة للمعبود أو دائرة للوغوس والتي حددها ويجيس دوبري Régis Debray بكيفية دقيقة؟ آنذاك سيندرج الفكر اليوناني في نفس التعريف، ليست المشكلة إذن في إنتاج الصورة وإنما المشكلة تكمن قبل ذلك في ما يلي : لماذا لم نعتبر منتج الصورة فنانا؟
إن العلم الذي اهتم بهذا يدعي الاستطيقا، فإذا كانت في الغرب تجد أصولها وجذورها في الفلسفة اليونانية، ولم يعترف بها كذلك سوى في القرن الثامن عشر، فهل تكون الاستطيقا مرتبطة بوضعية الإنساني في علاقته بالله وبالتاريخ؟ هذا ما أعتقده.
لم يتم الاعتراف بالإنسان كمبدع، ومن ثم منفصلا عن القوة اللامرئية التي تهمس له بانتاجه سوى في بنية تاريخه محددة، فهل صارت موجودة في المجتمعات العربية ؟ وهل هي ضرورية ؟
الهوامش
1- Régis Debray : Vie et mort de l’image, une histoire du regard en accident, édition Gallimard, Paris 1992.
2- Mario Perniola : Icônes visions, simulacres, in traverse / 10 «le simulacre » C.N.A.C. Georges Pompidou Février 1978. Paris
3- Ibid
4- Platon : La république (X.596a. 596e)
5- Voir la classification tout à fait originale que propose Régis Debray dans ‘Vie et Mort de l’image » op.cit,
6- EL AROUSSI MOULIM, Esthétique et Art Islamique, éd. Afrique Orient, Casablanca 1991, p.77 2ème édition, Arrabeta–Casablanca 1996
7- Ibid p77
8- Ibid Idem p.87
9- René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme Islamique et le taoïsme, éd Gallimard, Paris 1993 p.43.
10- Esthétique et Art Islamique, op.cit, p.81 Note1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق