د. فتح الدين عبد اللطيف
تقـــديـــم
تعددت مؤلفات ابن رشد باختلاف الميادين المعرفية التي اهتم بها والتي غطت جل صنائع عصره من منطق، طبيعيات، ما بعد الطبيعة، طب، فقه، كلام، أخلاق وسياسة …، وإذا كان بعض هذه المجالات قد جلب اهتمام الباحثين بالدرس والتحليل، بطرق متفاوتة الأهمية، فإن مجالات أخرى لم ُتحظ بنفس الرصيد من البحث، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، المنطق والفقه. ليس من السهل التعرف على حيثيات هذا الإهمال وقد يبدو، على الأقل في الظاهر، أنه راجع إما لقلة النصوص والمراجع أو انعدامها أو لكون هذين المجالين لا يشكلان طرفا من مقاصد فيلسوف قرطبة وبالتالي لا يعبران عن أصالة المشروع الرشدي، في اعتقاد البعض. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المعاصرون قصد بيان ما للفقه من وضع اعتباري هام في المتن الرشدي، فإن هناك نقصا كبيرا ينبغي تداركه خاصة في مجال التأليف، فالأبحاث في هذا الباب نادرة و لا تكاد تخرج عن الطور الجنيني.
إن ما يهمنا هنا ليس هو البحث عن أسباب ندرة الدراسات في هذا المجال ولكن بالأحرى عن دواعي اهتمامنا ومحاولة البحث عن أبعاد العلاقة الممكنة بين الفقه والمنطق عند ابن رشد وإلى أي حد يمكن القول بأن توظيف المنطق في الفقه عند ابن رشد في مختصره لمستصفى الغزالي، عرف نفس الصورة التي أتت في بداية المجتهد ونهاية المقتصد. فكيف تتحدد علاقة المنطق بعلم أصول الفقه في مختصر المستصفى وكيف هو حالها في مؤلف بداية المجتهد ونهاية المقتصد ؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من إعطاء بعض الدلائل الأساسية التي بإمكانها أن تحدد بعضا من ملامح هذا الطرح.
المعطـى البيبلوغرافي
مع اكتشاف مخطوط مختصر المستصفى لأبي الوليد لم نعد نقتصر على مؤلف فقهي فريد ونعني به بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بل أصبح من الممكن التعرف على مكونات فكر ابن رشد في فترة متقدمة من مشروعه الفلسفي والتي ألف فيها جملة من المختصرات في بداية حياته العلمية. هذا الاكتشاف له دلالة خاصة في مشروع ابن رشد فبالإضافة إلى إحداث بعض التعديل على مستوى فترات التأليف الفقهي، حيث لم يعد تاريخ تأليف بداية المجتهد هو الذي يحدد ممارسة ابن رشد الفقهية، بل أن اختصاره للمستصفى في « العشر الوسط من ذي الحجة من سنة اثنين وخمسين وخمس مائة »، أي في بداية إنجازه للمختصرات. قد يفضي بنا هذا إلى استخلاص أن ابن رشد ابتدأ أصوليا قبل أن يكون فيلسوفا، وأن الفقه ظل حاضرا في مختلف مراحل تأسيس مشروعه الفلسفي. هذا علاوة على أن اهتماماته في فترة تأليفه للمختصر والبداية لم تكن فقهية فحسب بل كانت متزامنة مع اهتمامات تغطي مجالات المنطق والطب والعلوم الطبيعية، فتأليف مختصر المستصفى وبداية المجتهد كان موازيا لتاريخ تأليف المختصر في المنطق أو ما يسمى بالضروري في المنطق 557/1157، وهو مؤلف يغطي جل مباحث الأورغانون الأرسطي ويوازي أيضا تأليف جوامع أرسطو الطبيعية 557/1162 وبعدها بسنتين شرع ابن رشد في صياغة التلاخيص المنطقية للأرجانون الأرسطي ويأتي تلخيصه لكتاب السماع الطبيعي والبرهان سنتين بعد تأليفه لبداية المجتهد ونهاية المقتصد.
يقول ابن رشد في مطلع مؤلفه البداية مشيرا إلى كتاب تحت عنوان أصول الفقه:
«وقد تكلمنا في العمل و قوته في كتابنا في الكلام الفقهي و هو الذي يدعى أصول الفقه»1، ولعل هذا الكتاب الذي اشتهر منذ مدة بين الفهرسيين إنما هو ملخص لكتاب المستصفى الشهير للغزالي. أما الكتاب الذي كان ابن رشد ينوي تأليفه عن مالك بعد الانتهاء من كتاب البداية، فلم يصل إلينا و لا نعثر له على أثر بين معاصرينا »2.
بناء على ما سبق تنحصر قائمة المؤلفات التي بلغتنا مكتملة و التي من شأنها أن تحدد لنا موقف ابن رشد من الفقه في كتابين اثنين هما المختصر والبداية. ولكي نعي من الناحية الزمنية موقع هذين المؤلفين من مسار ابن رشد الفلسفي، تجدر الإشارة إلى أن كتاب المختصر – وهو عبارة عن عرض موجز لأصول الفقه وبحث في المنهج المتبع في الفقه و بالأخص في الكلام الفقهي- يعود إلى بداية عهد ابن رشد بالتأليف الفلسفي،" حوالي سنة552 هجرية/1157م". أما كتاب البداية، فقد ألفه سنة 564 هجرية/1167م. ويمكن اعتبارها لحظة النضج الفلسفي عند ابن رشد، إذ كتب لتوه الكليات في الطب و كان يتأهب آنئذ لكتابة شروحه و تعليقاته على أرسطو، خاصة الشرح الأكبر.
يتضح إذن أن ابن رشد ظل منذ حداثة عهده واعيا بالإشكالات التي ما فتئ يطرحها تأويل الشريعة في التقليد الفقهي المعاصر له. فقد تمسك في الكتابين المذكورين بالقدر نفسه من الدقة المنطقية قصد تفنيد الدعاوى و الحجج المعهودة لدى أصحاب المذاهب، و سعيا إلى الدفاع عن الاجتهاد في المجال الفقهي.
ولا غرابة، فمدار الأمر هو التصدي لمعايير نظام تقليدي قائم هو ما يسمى أصول الفقه. و لتحقيق هذا المسعى لا بد من المنطق كأداة فعالة لفتح سبل جديدة نحو الدقة والموضوعية. هكذا يشكل إعمال مضامين المنطق، في المختصر والبداية على السواء، مكونا جوهريا في معالجة مختلف المسائل المطروحة.
مختصر المستصفى والفصل بين منطق المتكلمين ومنطق الفقهاء
يستهل ابن رشد مختصره لمستصفى الغزالي، بعد إبراز الغرض من الكتاب، إذ يقول: «فإن غرضي في هذا الكتاب أثبت لنفسي، على جهة التذكرة، من كتاب أبي حامد الغزالي رحمه الله في أصول الفقه الملقب بالمستصفى، جملة كافية بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة، ونتحرى في ذلك أوجز القول وأخصره، وما نظن به أنه أكثر ذلك صناعي » 3
لعل صيغة الاختصار التي أرادها ابن رشد لتفادي التطويل والاختراع من أجل التتميم والتكميل، تستدعي إبراز المعالم الضرورية في أصول الفقه وإبعاد كل ما هو سجالي كلامي. منذ البداية، يتضح أن ابن رشد، يفرق بين المجالات المعرفية ويحدد أن موضوع مختصره هو الأصول وليس الكلام، بل يذهب إلى نقد استعمال لمنطق المتكلمين للبث في القضايا الفقهية. هذا الاعتراض على عدم مزج منطق المتكلمين بأصول الفقه يتجلى، أيضا، في تجاوز ابن رشد في بداية مختصره للمستصفى للمقدمة المنطقية التي استهل بها الغزالي مؤلفه، يقول ابن رشد بهذا الصدد: «أبو حامد قدم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور منطقية... ونحن، فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحد منها»4.
استنادا إلى ماذكره ابن رشد في مقدمته ألا يمكن القول بأنه إعلان صريح لرصد معالم منطق خاص بالفقهاء في مقابل منطق المتكلمين خلافا لما ذهب إليه ابن رشد في كتاب البداية من استناده الضمني لمنطق أرسطو واستعماله لبعض المفاهيم المنطقية لتبرير موقفه من بعض الأمور الفقهية التي اشتهر الخلاف فيها ؟
ليس من السهل تقديم دلائل قاطعة تكشف عن ملامح السؤال، خاصة وأن الأمر يتطلب القيام بدراسة متأنية لفقه ابن رشد وعلاقته بالمنطق، وبالتالي بمقارنة دقيقة بين ما جاء في مختصره للمستصفى وبداية المجتهد...، لكن من الممكن تقديم بعض الملاحظات الأساسية للتقرب من الطرح:
الملاحظة الأولى: إن ابن رشد في مختصر المستصفى يمهد لبلورة تصوره الخاص عن الفرق الكلامية وخاصة الأشعرية منها وهي مناسبة أيضا لنقد المذاهب التي يعرفها التقليد الأصولي في عصره وذلك تمهيدا للدفاع عن مشروعية المنطق وعلى القياس الفلسفي كما سيأتي لاحقا في فصل المقال وتهافت التهافت، لذا وجب بدءا البحث عن هوية موضوع أصول الفقه وتحديد الغاية منه.
الملاحظة الثانية: إذا كان ابن رشد في الكتابات الفقهية اللاحقة, ونعني بداية المجتهد، يعمد إلى نقل الفقه إلى معرفة تتميز بالدقة والوضوح والشمولية ومد الجسور بين الفقه والمنطق بطريقة ضمنية، فإنه في مختصر المستصفى يصنف أصول الفقه من بين علوم الآلة التي تسدد العقول نحو الصواب، حيث يقول : «إن المعارف والعلوم ثلاثة أصناف : إما معرفة غايتها الاعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط، كالعلم بحدوث العالم، والقول بالجزء الذي لا يتجزء وأشباه ذلك. وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي تسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين، كالعلم بالدلائل وأقسامها، وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا، وفي أي المواضع تستعمل لنقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فنسمها سبارًا وقانونًا، فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البر كار والمسطرة إلى الحس في ما يؤمن أن يغلط فيه. »5 يوضع أصول الفقه، هنا ، باعتباره الآلة المنطقية التي يضبط بها الفقيه الأحكام والفتاوى، وبالتالي فخلافا للتصور التقليدي السائد لدى الأصوليين، فأصول الفقه لا يُدرج ضمن العلوم التي غايتها العمل، بل يصنفه ابن رشد ضمن علوم الآلة، فلا هو بالعلم النظري ولا العملي بل مجموعة من القوانين التي تسدد العقول نحو الصواب. وطبقا لذلك قسم ابن رشد مختصر المستصفى إلى أربع أجزاء « الجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام، والثاني في أصول الأحكام، والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل، وكيف استعملها. والرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه. »6
ويؤكد ابن رشد أن الجزء الثالث في مختصره هو الذي يخص صناعة أصول الفقه، وهو الذي يفصل القول في الأحوال والقوانين التي تستنبط بها الأحكام وهو ما سيحدد، جملة وتفصيلا، الشروط الضرورية لتأسيس صناعة تامة وكلية.
إن تصنيف العلوم على هذا النحو الذي نراه في المختصر يصطبغ، كما يلاحظ ذلك،جمال عبد العالي. العمراني، بصبغة الفيلسوف، فبصمته تظهر واضحة في كيفية تقديم المضامين وأسلوب تحريرها. هكذا نرى أن ابن رشد الفقيه اليافع يقف ها هنا إزاء كبرى مؤلفات الغزالي في أصول الفقه مثلما يقف ابن رشد الفيلسوف اليافع أمام الإرث الفلسفي لمفكر الشرق العظيم 7.
ُيفهم من هذه الدلائل أن العلاقة بين المنطق والفقه ليست علاقة نقل طريقة منطقية معينة واستخدامها للتجاوب مع موضوع علم أصول الفقه. بل أن الممارسة الفقهية تتم وفقا لتأسيس بناء نسقي تتحدد فيه الآليات والمفاهيم ذات طبيعة فقهية. بعبارة أخرى، إن التصور الرشدي للعمل الفقهي، في المختصر، يفضي بنا إلى استخلاص أن هناك علاقة تخارج، بين الأصولي والمنطقي، على الأقل على مستوى إستعمال المفاهيم المنطقية في الفقه،وهو أيضا مسعى لتخليص موضوع علم أصول الفقه مما علق به من مسائل علم الكلام وغيره من العلوم. إذا كان ابن رشد، في كتاب البداية يوافق من حيث المبدأ على القياس الشرعي، وهو في ذلك يوافق جمهور الفقهاء ويبتعد عن الظاهرية، إلا أنه في مختصره للمستصفى لا يرى في ما يسميه الفقهاء بالقياس قياسا، وإنما هو كما يقول من جنس إبدال الجزئي مكان الكلي. وإذا كان، ابن رشد، ينفي أن يكون القياس الفقهي قياسا، فهو ينكر أيضا أن يكون له فعل القياس المنطقي، وذلك لأن الفقهاء لا يستعملونه في استنباط مطلوب مجهول عند معلوم كما تستنبط المطالب المجهولة عن المقدمات المعقولة، وإنما يستعملونه في تصحيح وإبدال الألفاظ ولذلك كان القياس عندهم قرينة أو قرائن على ذلك، وليس قياسا في الحقيقة ولا له فعل قياس.8 هذا ما يؤكده أيضا رفض ابن رشد إدراج المقدمة المنطقية التي استهل بها الغزالي مستصفى أصول الفقه، باعتبارها مقدمة منطقية ولا علاقة لها بعلوم أصول الفقه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك9.
إن هذا الموقف يترجم الغرض الأساس من مؤلفاته، وهو أن يبين كيف أن العمل المنوط بالفقيه المقتدر يقتضي منه ألا يقف عند حرفية النصوص الدينية وألا يكتفي بأن يحفظ عن ظهر قلب كتب الفروع، بل أن يرقى إلى منابع الفقه وأصوله ليستخلص منها الأحكام التطبيقية وفق قوانين الاستنباط و قواعده.
وإذا كان موقف ابن رشد في المختصر يبدو مشروعا بالنظر إلى المنزلة الرفيعة التي يجعلها للمنطق في الفقه، فليس الأمر كذلك في كتابه البداية حيث لا نجد أدنى إشارة إلى دور المنطق بالنسبة إلى الفقه. هذا لا يعني خلو كتاب البداية من كل استدلال منطقي، بل عكس ذلك، فإدراج مكونات نظرية في الجدل الفقهي يشكل أولى الشروط لحل مشكل الخلاف بين المذاهب.
المنطق الضمني في بداية المجتهد
لعل جل الدراسات النادرة التي خصت فقه ابن رشد من خلال بداية المجتهد1168/563 أكدت على أهمية حضور الآليات المنطقية في تشريح القضايا الفقهية ورفعها من مستوى الجزئيات والوقائع إلى مستوى الأصول المقررة والقواعد الثابتة. هذا بالإضافة إلى الدور المحوري الذي يجب أن ينوط بعمل الفقيه وهو الاجتهاد في النظر الفقهي خلافا للتقليد واجترار ما تركه السلف من روايات متعددة في قضايا الشرع تحفظ بطريقة آلية دون أي تأويل أو اجتهاد « فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد… وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه، لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أ يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها. وبين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة. فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت » 10
إن إحدى غايات ابن رشد هي الدفاع عن نمط معين من الممارسة الفقهية التي تخضع للاجتهاد والتجديد، والذي تمارس الفقه بالآليات المنهجية التي تقوم على المنطق والبرهان. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن عمل ابن رشد في بداية المجتهد توجه نحو تأسيس جديد للفقه وفق اشتراطات منطقية من حيث المبادئ التي ُتخول للفقيه أن يصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد.
إن الوعي بالأهمية التي تكتسيها المؤلفات الفقهية في المسار الفلسفي الرشدي جعل الباحث "برانشفيك"-الذي اتخذناه مرجعا أساسا في مجال الفقه بالذات- محقا حين ذهب إلى أن مؤلف البداية يشكل النموذج الأكمل لما يتحراه من صرامة منهجية في أصول الفقه منظورا إليها كمبحث تأويلي أ و معيار يحتكم إليه في الفقه السني برمته 11.
يبين فيلسوف قرطبة في مستهل البداية أن موضوع كتابه هو التطرق إلى المسائل المتفق عليها بين الفقهاء وكذا المسائل الخلافية. لكنه يبادر قبل الخوض في ذلك إلى التذكير بمختلف الطرق التي بها يتسنى استنباط قواعد الشرع، من ألفاظ وأفعال وإقرار ضمني و تمثيل و قياس.
«و هذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، و اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء...
وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الأحكام الشرعية،وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك. فنقول:إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام ثلاثة: إما لفظ وإما فعل وإما إقرار. » 12
فبإتباع هذه الطرق و إجادة استعمالها يستطيع المشرع أن يستخلص القواعد التشريعة ويؤسس منهجا يمكنه أولا من الوقوف على القرائن التي تفسر الاختلافات بين المذاهب، وثانيا من إيجاد حل للمسائل المختلف فيها. و تلك هي المهمة التي تقع على عاتق المجتهد.
يرى م.جمال الدين علوي أن الهدف المتوخى من كتاب البداية هو وضع قوانين للخطاب الفقهي تكون بموجبها الأصول و المبادئ العامة أولى و أسبق من الحالات الخاصة، وهي سمة يفترض أن تسم كل طريقة في العرض سليمة13.
لقد انشغل ابن رشد خلال السطور الأولى من مقدمته المنهجية كما في مواضع عدة من كتابه إما بالمنطوق به من قواعد الشريعة أو بالمشهور من المسائل الخلافية. و قد توخى في ذلك تعلقا كبيرا بالتعاليم الواردة في النصوص. « إذن كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري مجرى الأمهات وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار» 14 وهذه المسائل قمينة بأن تتخذ قانونا أو دستورا تستخلص منه بعد ذلك إن اقتضى الأمر المسائل الثانوية. كما يؤكد ابن رشد أن الهدف من كتابه هو إعطاء شروح حول ما يسوغ الخلاف بين شتى المذاهب الدينية، وفي الآن ذاته وضع القواعد الفقهية الخليقة بإمداد الفقيه المجتهد بالعدة التي تمكنه من حل المسائل التي لم يبت فيها الشرع:
«فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها و المختلف فيها بأدلتها، و التنبه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول و القواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع. »14
هكذا فالمطلب الذي يسعى إليه المؤلف بصرف النظر عن الخطاب الفقهي هو الربط بين "الممارسات غير المحددة " و القواعد و القوانين الصارمة المنظمة للتفسير.
يشير ابن رشد في كتاب الصرف إلى الدور الحقيقي المنوط بالفقيه و الشروط التي ينبغي أن تتوافر فيه: « فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ فيه المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب أن يحصل قبله من القدر الكافي في علم النحو و اللغة و صناعة أصول الفقه، و يكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، و بهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه و لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن ألأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، و هؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، و بين أن الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، و بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة و هو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا مثال أكثر المتفقهة في وقتنا»15.
يلاحظ برا نشفيك « أن هذا التشبيه هو نسخة من التشبيه الذي يختم به أرسطو كتاب الأرغانون، حيث يقول:"مثل ذلك كمثل من يروم أن يعلم الناس كيف تصان القدم فلا يبين لهم فن صنع الخفاف و لا كيفية الحصول على مثل هذه الأشياء، و إنما يكتفي بأن يقدم لهم أنواعا منوعة وأشكالا عدة من الخفاف، فهو بذلك لا يلقنهم فنا، بل يعطيهم فحسب فائدة عملية.»16.
و في معرض تعليقه على كتاب السفسطة، يورد ابن رشد أسبابا و حوافز مماثلة تسوغ تلقين العلم، لكن من غير أن يشير صراحة إلى الفقه. كما أنه يسوق المثال نفسه في نهاية تعليقه:
«...مثال ذلك أن من لم تكن عنده من صناعة الخفاف إلا أشخاص من الخفاف محدودة فليس عنده من صناعة الخفاف شيء. كذلك من تعاطي ممن سلف تعليم هذه الصناعة من غير أن يكون عنده منها إلا أقوال محدودة العدد، أعني أقوالا سفسطائية فهو بمنزلة من رام تعليم الخفاف بأن يعطي الناس خفافا من عنده، أو يقول لهم إن القدم ينبغي أن تصان بالخفاف من غير أن يعرفهم من أي شيء تصنع الخفاف، و لا كيف تصنع »17
وعلى الرغم من كون ابن رشد لم يشر إلى الفقهاء في تعليقه على هذا المقطع، إلا أن اقتباسه هذا يبقى على جانب كبير من الأهمية إذ يبين الهاجس المهيمن لدى صاحبنا، وهو إدراج استدلال منطقي داخل الجدل الفقهي بإعمال الوسائل النظرية القمينة باستثمار مصادر التشريع الإسلامي استثمارا صحيحا. إن العلم الحق في نظر ابن رشد هو العلم الذي يقوم على المنهج الصحيح الذي يجعل منه صناعة، لا على المنهج الذي يلقن هذا العلم بالاستناد إلى نتائج حاصلة سلفا. و هذا هو الدور الذي يجب أن يضطلع به صاحب الاستدلال في دحض التعليم المنصب على المناظرة و الجدل، و كذا الفقيه المجتهد الذي لا ينبغي أن يركن إلى التقليد الأعمى، بل عليه أن يكتشف منهجا يسبر به أغوار البحث الفقهي و يرقى به إلى أعلى مدارج الاجتهاد.
يتعلق الأمر منذ مطلع الكتاب بهدف صريح هو البحث عن منحى جديد حري بأن يفضي إلى الاجتهاد، و يؤسس منهجا يكون التشريع بمقتضاه مستمدا من الاجتهاد واستخدام القياس، عوض الاقتصار على التكرار الأعمى و اجترار بعض الكتب ذات الطابع التطبيقي العملي التي يعروها تحريف لمحتوى النصوص و ابتعاد عن فحواها.
إن "برانشفيك" يصف ابن رشد، دون أدنى تردد، بالمنتصر للاجتهاد والمعادي للتقليد. فعنده أن عنوان الكتاب يحمل أكثر من دلالة إذ ينحو إلى التمييز بين "المجتهد" و"المقتصد":"بداية المجتهد"أي من يجد في البحث والنظر، "ونهاية المقتصد"أي من يكتفي بما تلقاه من معرفة. ولا يخفى ما للنظر الشخصي من صلة وثيقة بممارسة القياس في الفقه. فحيث لا يتوافر النص و السنة و الإجماع يصير متاحا للفقيه الاحتكام إلى الاجتهاد الشخصي. غير أن هذا الاجتهاد يستلزم معرفة بالأصول الكبرى من قرآن وحديث و إجماع، وكذا بالاستنباط الذي ينطلق من الأصول متوسلا بالقياس. يمكن في هذا الصدد التمييز بين ثلاثة مستويات في الاجتهاد الفقهي:
· الاجتهاد المطلق، وهو الذي يضفي على صاحبه صفة المؤسس لمذهب الفقهي؛
· الاجتهاد المذهبي، وهو خاص ببعض كبار التلاميذ الذين يصير من حقهم بمقتضى نبوغهم صياغة المنظومة الفكرية لمؤسس المذهب الذي ينتمون إليه؛
· الاجتهاد في مسألة ما، و يتعلق بالبت في بعض القضايا الفرعية العالقة.
· إن الاجتهاد الذي يروم ابن رشد ترسيخه في مقابل التقليد الأعمى لا ينحصر فقط في حدود مدرسة معينة، كما يشير إلى ذلك في حديثه عن كتاب المالكية الذي كان يزمع تأليفه، و إنما هو اجتهاد بالمعنى المطلق، عدته الحلول الكثيرة التي تصدر عن الرأي الحصيف و الفكر الرصين. هذا ما يحدونا إلى التساؤل حول بعض الفرضيات التي مفادها أن كتاب البداية هو مؤلف في الفقه المالكي. لكن جملة من القرائن تدل على أن الأمر على العكس من ذلك. سنكتفي بذكر اثنتين منهما:
· أولاهما أن عنوان الكتاب: بداية المجتهد إشارة واضحة إلى القطيعة التي يريدها ابن رشد إزاء المنحى التقليدي الذي ينحوه الفقهاء المالكيون في الأندلس. فالاجتهاد يعني في الفقه إعمال العقل، أما التقليد فيعني الركون إلى النقل.
· وثانيتهما أن لفظ "الخلاف" يراد به المنهج الذي يعمل على بيان مختلف وجهات النظر التي تتبناها المذاهب السنية حول المسائل الفقهية. على أن ابن رشد خول لنفسه أن يعرض أيضا آراء المذاهب الأخرى من شيعة و خوارج.
· إن مؤلف البداية ينآى بنا إذن عن تلك الأدبيات المالكية السجالية التي دأبها
و ديدنها الدفاع عن مذهبها. ولا شك أن هذه القطيعة مع المنهج المالكي هي التي حدت بإبراهيم مذكور إلى أن يقول إن فيلسوفنا « أكب على دحض الفكر المالكي عن طريق موازنته بالمدارس الفقهية، وهو بذلك وضع على قدم المساواة كل هذه المذاهب. إن هذه الجرأة التي أبان عنها داخل وسط ذي نزعة تقليدية محافظة هي ما جعله يتعرض لمواقف التعصب والسخط و الاضطهاد من قبل الجمهور»18
و علاوة على هذا يكفي النظر إلى المقاربة الانتقائية التي يأخذ بها ابن رشد في عرض المراجع الفقهية التي يذكر حلولها و تخريجاتها لكي نتبين مدى البون الذي يفصل كتاب البداية عن سائر المؤلفات الفقهية المالكية. إنه يورد مرارا أسماء مؤسسي و أتباع المذاهب الفقهية الأربعة، لكنه ليس من النادر أن يرد اسم فقيه ظاهري من طينة أبي داوود. 19
و في الأخير، فإن ما نلمسه في البداية من تحري المنطق و العقلانية و التنظيم المنهجي يناقض تماما ما نجده في المؤلفات المالكية من نزعة صورية تقليدية. ففيلسوف قرطبة يورد بأمانة و موضوعية كل الآراء المتصلة بمسألة ما و يشفعها باستدلاله أو بما يبدو له الأحسن والأصح من بين أضرب الحجاج. و قد يحدث أن يأخذ بالمنهج ذاته في تعليقاته و شروحه.[1]
إن كتاب البداية هو أحد المؤلفات النادرة التي نجد فيها عرضا منهجيا عقلانيا لأوجه الائتلاف و الاختلاف بين الفقهاء حول تطبيق قواعد الشرع. يصدر ابن رشد كتابه بتلخيص دقيق لأبرز قواعد المنهج الفقهي، أي للوسائل التي بها يتسنى الاستثمار الصحيح لمصادر التشريع الإسلامي و التي تمر عبر إعمال فكر منطقي. وتتمثل هذه الوسائل في مكونين معروفين في التقليد الفقهي: اللفظ ومداره التصور، والقياس و مداره التصديق.
إذا كان موقف ابن رشد في المختصر يبدو مشروعا بالنظر إلى المنزلة الرفيعة التي يتميز بها وضع المنطق في الفقه، فليس الأمر كذلك في كتاب البداية حيث لا نجد أدنى إشارة إلى دور المنطق بالنسبة للفقه، ولكن ضمنيا نجد إدراج لمكونات نظرية الإستدلال المنطقي في الجدل الفقهي كشرط أساسي لحل الخلاف بين المذاهب.
الهوامش
*) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الكتب العلمية،ج1،1988، بيروت، ص74.
1- بعد إصدار كتاب تلخيص مختصر الغزالي على يد جمال الدين علوي، يظل المؤلف الوحيد الذي لم ير النور إلى اليوم هو الكتاب الذي ذكره ابن رشد نفسه، وعنوانه كتاب في الفقه على مذهب الإمام مالك. و حسب ما نقرأه في مصنف البداية، فإن كتاب المختصر سابق عن البداية. أما الكتاب المنصب على مالك فقيل إنه ألف بعد البداية؛ يبين ذلك النص التالي:"ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه و مسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها."
2- بن رشد، مختصر المستصفى، حققه جمال الدين علوي، نص مأخوذ من مخطوطات "الإسكوريال"،رقم1235،هذا النص ذكره ابن عبد البر و ورد في لائحة "الإسكوريال"الخاصة بالأعمال الكاملة لابن رشد، منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994، ص34.
3- ابن رشد،لمختصر المستصفى، ص37-38
4 - ابن رشد، المختصر، ص35.
5- ابن رشد، المختصر، ص36
6-A.Elamrani.J.Arabic sciences and philosophy. A historical journal. Cambridge University Press. Volume 5 n° 1 Mars 1995. p 51-74.
6- مختصر المستصفى ص 27
7- يعتبر الأستاذ حمو النقاري أن ابن رشد في مأخذه على الغزالي إدخاله المنطق في المجال الأصولي، لا يعني فصل الأصول عن المنطق، إذ أن ابن رشد نادى بإدخال النطق في حقل الأصول حين وقف عند التصديق البلاغي الذي هو أحد التصديقات التي تتناول الصناعة المنطقية.
أنظر مجلة "مقدمات" عدد 15، 1998 الدار البيضاء، ص 60.
8- ابن رشد، بداية المجتهد و نهاية المقتصد، دار الكتب العلمية، ج2، 1988، بيروت، ص195.
-9Robet Brunschvig « Averroès juriste » in Etudes d’Orientalisme, dédiée à la mémoire de lévi-provençal .Ed. Maisonneuve et Larousse
10 - ابن رشد، بداية المجتهد و نهاية المقتصد، دار الكتب العلمية، ج1، 1988 ، بيروت، ص 2
11- جمال الدين علوي، المتن الرشدي، ص67.
12 - ابن رشد، بداية المجتهد و نهاية المقتصد، ج1 ص 218- 711
13 - ابن رشد، ن.م ص 1-2
14- ابن رشد، ن.م ص 195
15 - Aristote, les réfutations sophistiques, 184a. Trad. Tricot. Cf. R. Brunschvig, op.cit p.56 avec note
16- ابن رشد، تلخيص كتاب السفسطة، بيروت، 1982، ج.جامي، ص 768-769
17- إبراهيم مﺫكور، في الفلسفة الإسلامية، منهج و تطبيقه، ج2، ص 84
18- ابن رشد، ن.م، ج1، ص 6-13-14-19-21
19 - انظر "ر.برانشفيك"، ن.م، ص 42-43.
[1] - انظر "ر.برانشفيك"، ن.م، ص 42-43.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق