محمد معزوز
يمكن تقسيم هذا المؤلَّف الهام إلى ثلاثة أقسام موضوعاتية:
- في السياسة
- في السلطة
- في الحزب
وهي تسير من الأعم إلى الأخص على نحويمكِّن القارئ من فهم آليات السياسة ومن ضبط استراتيجيات السلطة ومن استيعاب ذرائعية الحزب،ويتوسل الأستاذ سبيلا بترسانة من المفاهيم والنظريات السياسية الحديثة ويقوم بإعمالها في الحقل السياسي العربي عموما والمغربي تخصيصا لغاية تشريح أعراضه وأمراضه ومن أجل تبيُّن واستبيان ما يعتوره من تأرجح بين حداثة هجينة وتقليد مخاتل.
أ: في السياسة
وبعد أن يبرز للقارئ أن السياسة هي جماع الكل الاجتماعي ومفتاحه وصندوق عجائبه وشريانه الرئيسي الموزِّع، يتطرَّق إلى مفهوم الحداثة السياسية الذي تمثَّل في انفصال السياسي عن الديني، وفي ارتفاع المتعالي عن المتداني، وفي الطَّلاق بين الشرعية الإلهية والتمثيل الشعبي، وفي الفصل بين السلط، وفي تقديس حقوق الإنسان. كان من شأن هذه التحولات الهائلة أن أشرعت الأبواب لكي ترتسم معالم الحداثة في الفكر السياسي، وتؤدي إلى انهيار منظومة التقليد، وإلى تفكك العلاقات الأبوية والقرابة الدموية، وإلى انهيار أشكال الاستبداد السياسي وإلى حلول الحوار والمناقشة وتوسيع التمثيلية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في أوربا وأمريكا الشمالية لكن دون أن تفوته الإشارة إلى مقاومة البنيات التقليدية في المجتمعات العربية لهذا المدِّ الحداثي الغربي والذي لا يتأتى بالنقل الميكانيكي لآلياته. يعرض الأستاذ محمد سبيلا إلى أشكال هذه المقاومات، والمتمثلة أساسا في التقاليد الشفوية الموروثة عن الماضي، والمترسِّبة في اللاوعي الجمعي، والتي تستمدُّ شرعيتها من الانتماء للعشيرة، ومن القرابة الدموية، لا من العلاقات المجردة بين الأفراد.
لا تزال الحداثة السياسية في مجتمعاتنا العربية متعثرة بسبب هذه المقاومات الواعية واللا واعية، وبسبب البنيات التقليدية المناوئة لسيرورة دَهْرَنَة العالمprocessus de sécularisation du monde والمعادية لنزع سلطة المقدَّس من الفضاء السياسي العمومي.
ومن أهم القضايا التي يثيرها الكتاب الانفصال الضروري بين الأخلاق والسياسة، والذي من دونه لا يمكن تحقيق الحداثة السياسية. ما لم يتم إزاحة القناع الأخلاقي عن السياسة باعتبارها نزاع مصالح، وصراعا مميتا على السلطة، وما لم تُفهم على أنها مجال لتوزيع الثروات المادية والخيرات الرمزية، والمراتب والسلط بكل أشكالها، فلن يتأتى فهمها على حقيقتها. يقول الأستاذ سبيلا: "تنتمي الأخلاق إلى مجال القيم وما يجب أن يكون، في حين أن السياسة تنتمي إلى عالم الواقع، وإلى الصراع اليومي من أجل التملك وحيازة السلطة واكتساب الحظوة" (ص 60).
1- آليات اشتغال السياسة
يحاول الأستاذ سبيلا فهم ما انغلق من آليات السياسة، التي تعتبر بحق مفتاحا لفهم الكلِّ الاجتماعي، وعلى رأسها تبجيل وتهويل الحاضر، وإضفاء جاذبية وسحر عليه بما يسمح باستثماره إلى أقصى حدٍّ من أجل ترسيخ آليات وتقنيات التعبئة والخطابة والتنظيم والاستقطاب. زمن السياسة هوزمن اللحظة الراهنة الذي هوزمن مطَّاط يتمدَّد ويتقلَّص حسب موقع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. يقول الأستاذ سبيلا: "هكذا نلاحظ أن للحاضر جاذبية خاصة في كل أنواع السياسة...فجل الأنظمة السياسية تميل إلى استثمار كل من الماضي والمستقبل في الحاضر بدرجات متفاوتة حسب متطلَّبات الصراع السياسي"(ص100). تعتمد هذه الآلية السياسية على تكثيف الزمن في اللحظة الراهنة، وإضفاء طابع دراماتيكي عليها، ووصفها بأنها لحظة حاسمة، ومنعطفا تاريخيا، من أجل تعبئة وحشد الجماهير عبر اصطناع عدوخارجي أوإثارة نعرات جماعية أوإذكاء حسٍّ وطني أوتمثيل أوتوبي.
2- السياسة بين المبدأ والاحتراف
يرصد الأستاذ محمد سبيلا الفروق بين أصناف السياسيين، فهناك:
- أصحاب العقائدية السياسية أو السياسيون الكبار، ورجال الدولة الأفذاذ أمثال جمال عبد الناصر وشارل دوغول ولينين وهؤلاء يعيشون من أجل المبادئ الكبرى والمثل العليا.
- وفئات مُحْتَرِفِي السياسة أومن يتعيَّشون بها، فلا يهمُّهم سوى تحقيق الذات والاستمتاع بنشوة السلطة.
- وأخيرا فئة ثالثة من المخادعين يرفعون الشعارات بيدٍ ويمارسون الاختلاس بيدٍ أخرى، وليست السياسة بالنسبة إليهم سوى كرنفالا كبيرا تتحكَّم فيه الرَّساميل ووسائل الإعلام والأقلام المأجورة، وينعثهم الأستاذ سبيلا بالسَّاسَةِ السِّيَاسَوِيِّين وذئاب السياسة، وهم ماكيافيلليون بالمعنى السيئ للكلمة.
ب- في السلطة
1- استراتيجيات السلطة
يعتبر الأستاذ سبيلا أن مدار السياسة هوالسلطة وما تمثِّله من حظوة وامتياز، وذلك بعيدا عن أيِّ وهم أتوبي، أوعن أيِّ ادِّعاء خادع بكونها خدمة للصالح العام. وفي هذا المقام أظن أن الأستاذ سبيلا أقرب إلى التحليل الواقعي الذي يقدّمه ماكيافيللي منه إلى الحلم الأتوبي الأفلاطوني. ولعلَّ ماكيافيللي هوأوَّل من أسَّس المقاربة الواقعية للمجال السياسي بعد قرون طويلة من هيمنة اللاهوت السياسي. السياسة حرب بوسائل أخرى، الشيء الذي يكشف طابع الصراع والنزاع في مجال السياسة، وما تنطوي عليه من وسائل الخداع والكذب والحيلة.
يرصد الأستاذ سبيلا ثلاث استراتيجيات للاستحواذ على السلطة:
- استراتيجية الشراسة والقوة السافرة والعنف العاري من أيِّ تجميل أومساحيق.
- استراتيجية الكذب والخداع والمخاتلة.
- استراتيجية الوهم والإيهام وتقديم الوعود والآمال.
يحاول الأستاذ سبيلا الإجابة عن السؤال ذي البعد النفسي: لماذا السلطة تُغوي وتفتن، ما سرُّ سحرها للناس حتَّى تجعلهم يتصارعون عليها ويتقاتلون؟ وهنا يستعين بالتحليل النفسي للسلطة فيجد أنها ترضي ميلا عميقا للعُظام، وللشعور بالسُّمووالاعتلاء، ويرجع ذلك إلى ما هوأعمق، أي إلى البعد الميتافزيقي المتناهي للكائن البشري الذي لا يجد عنه بديلا أوعِوَضاً سوى بامتلاك مزيد من القوة والنفوذ اللذين تمدُّهما به السياسة.
2- الجذور الميتافزيقية للسلطة
يرجع الأستاذ سبيلا هذا التعطش وهذا الظمأ للسلطة إلى شعور عميق بالدونية والنقص لدى الكائن البشري، وأيضا إلى الضعف الميتافزيقي والأنطولوجي، وإلى تناهي الوجود الإنساني ومآله الحتمي إلى الموت، وهوما يعزِّز لديه الرغبة الجامحة إلى امتلاك وسائل القوة وأسباب السلطة. ويورد الأستاذ سبيلا عبارة لفانسن طوماس من كتابه Mort et pouvoir يقول فيها:" إن هذا التهافت ناتج عن الحاجة الملحَّة إلى مراكمة الحياة وبالتالي إبعاد الموت"(ص 140). لذة السلطة هي اللذة العظمى لأنها تجعل مالكها فوق مصافِّ البشر بل وتوهمه بالخلود.
لا ينبغي التوهم بكون السلطة تعبير عن رغبة جامحة في السيطرة، فسيكون هذا من قبيل التبسيط المُعيب، الذي لا يفطن إلى التركيب المعقَّد للطبيعة الإنسانية، هذا إذا سلّمنا بوجوده مثل هذه الطبيعة. فهناك أيضا رغبة دفينة لدى البشر في الخضوع والانقياد، ويستشهد الأستاذ سبيلا من المفكِّر السياسي La boétie بفكرة بالغة الأهمية وهي فكرة العبودية الطَّوعية، فالبشر ينقادون وراء أغلالهم وكأنها ذروة حرِّيتهم. كانط نفسه يتحدّث عن الميل الطبيعي لدى الإنسان للانقياد إلى غيره، وهيجل يتكلَّم عن العبودية كخشية وخوف من المخاطرة بالحياة، وسارتر يحلِّل سوء النية mauvaise foi بوصفها مؤشر على عدم تحمُّل الإنسان لحريته، أما فرويد فيتكلم عن الحاجة اللاشعورية للتماهي بالأب المتسلِّط.
في التحزب
وفي الأخير ينتقل الأستاذ سبيلا لتحليل الحزبية والتحزُّب، ودوره في السياسة من منظور التحليل النفسي، كاشفا عن الجذور اللاواعية لحاجة الفرد إلى الانتماء السياسي والانتساب الحزبي والانضمام إلى العقائدية الجماعية.
أ- الحزبية والنظام الأبوي
يرى الأستاذ سبيلا أن النظام السياسي أقرب إلى البنية البطريكية الأبوية، وغالبا ما يلعب التماهي بالأب وتقمُّص شخصه دورا في النظام الحزبي فهوبمثابة لا شعور سياسي، فالزعيم الحزبي يقوم بدور الأب بل ويرتبط لدى المنضوين في الحزب بكيفية لا شعورية بصورة الأب، وغالبا ما تمثِّل استقالته من الحزب موتا رمزيا للأب، وتتخذ طابعا جنائزيا.
إن المنطق الأبوي أوالبطريكي هوالغالب على الانتماء الحزبي ويمثِّل معضلة في منطقتنا العربية، ويبدوالموت هوالكائن الديمقراطي الوحيد الذي يُنهي بيولوجيا دور الزعيم-الأب. ولا يختلف دور الزعيم الحزبي عن دور الشيخ أوالمُلْهِم ما دام يتمتَّع بنفس الكاريزم أوالهالة.
ب - من الزاوية إلى الحزب
الحزب في العالم العربي امتداد للزاوية، وما أقصر الطريق من الحزب العصري إلى الزاوية التقليدية، ولم يدرك علاقتهما أي تغيير كبير. يقول الأستاذ سبيلا:" إذا قمنا بتجريد الحزب السياسي من ترسانة مصطلحاته وخطاباته التبريرية، ومن شعاراته البرَّاقة، ومن عقلانيته الشكلية وديمقراطيته الداخلية المزعومة...فسنعثر في النهاية على الهيكل العظمي لزاوية طُرُقية تقليدية بِهَرَمِيَّتِهَا التَّرَاتُبِيَّة المنحذرة من الشيخ"(ص165).
من المفترض أن تكون الأحزاب تنظيمات عصرية من أجل التنافس السِّلْمي على السلطة، والصراع الشرعي -النَّابذ للعنف- على الحكم، ومن المفترض بالتالي أن تمثل ركيزةً أساسية للحياة السياسية العصرية،نظراً لكونها تحلُّ مشكلتين:
أوَّلها مشكلة التمثيلية la représentativité أي أنها تنهض بوظيفة تمثيل وتأطير وتعبئة الجماهير العريضة
ثانيها مشكلة تقاسم وتداول السلطةla rotation du pouvoir، بمعنى أنها تنظِّم احتكار السلطة بكيفية سلمية وبطرق مشروعة، وهوما يفترض سعيا حثيثا منها لإقصاء العنف والاحتكام إلى أقوى حجة لا إلى حجة القوَّة، وتبعا لذلك تعتبر الأحزاب السياسية تنظيمات عصرية من أجل تدبير الاختلاف، ومظهرا أساسيا من مظاهر العقلانية السياسية التي تتطلب حدا أقصى من البراجماتية، وقَََذْراً أدنى من العقائدية الإيديولوجية ومن الشعارات الفضفاضة.
لكن الأحزاب السياسية لا تعدوأن تكون في عالمنا العربي وفي بعض دول العالم الثالث أطراً فارغة لممارسات لا عقلانية، تنظِّمها شبكة من الولاءات. للحزب في عالمنا إيديولوجيته المغلقة، ولغته الطقوسية، وقاموسه الاستعاري، وأساطيره المؤسِّسَة، ينتصب في أعلى هرميته زعيم مُلْهَمٌ وكارزمائي charismatique لا يختلف عن شيخ الزاوية في علاقات الخضوع مع حوارييه. يقول الأستاذ سبيلا:" وهكذا تتحول القيادة السياسية إلى مجرد نسخ باهتة لأيقونة مومياء واحدة".
خلاصة
للحداثة عند الأستاذ سبيلا مستويات، أعمقها المستوى الفلسفي والثقافي لأنه أكثر بطئا وأشدُّ تعقيدا، وذلك وفق تغيير بطيء للذهنيات، ابتداء بسيرورة نزع القداسة عن العالم وكشف بُعْدِهِ الميكانيكي الآلي، ومرورا بانحسار اللاهوت، وأخيرا الانتقال إلى الارتكاز على مرجعية الذات وفاعليتها وحريتها، وهذا ما جعل الإصلاح الديني وحركة التنوير والثورة الفرنسية أمرا ممكنا. أما المستوى السياسي فديناميكيته أسرع مخاضا لكونها مرتبطة بالحدث العيني الملموس. ويمكن رصد هذا المظهر السياسي في السيرورات الآتية: اتساع مساحة المشاركة السياسية لفئات عريضة من المجتمع واتساع الديمقراطية الشكلية، التقنين الصوري للعلاقات الاجتماعية بين الحاكمين والمحكومين، انتقال احتكار السلطة من العصبيات إلى التكتُّل الطبقي، وفك الارتباط بين المقدَّس والسياسي وبين الدين والدنيا.
يمكن القول أخيرا أن ما تزرعه الفلسفة تحصده السياسة، بمعنى أنه لولا المخاض العميق للأفكار الفلسفية على امتداد العصر الحديث لما كانت المؤسسات السياسية من دولة حديثة(دولة الحق والقانون) وبرلمان وقضاء مستقل ودستور أشياء ممكنة.
معزوز عبد العلي. أستاذ التعليم العالي، شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق