فتح الدين عبد اللطيف
خلدت منظمة اليونسكو السابع عشر نونبر من كل عام يوما عالميا للفلسفة ورغم أن التكريم الرسمي هذا لم يبدأ إلا في العالم 2002، فإن الفلسفة ظلت دائما حاضرة كقيمة معرفية في حياة الحضارات الإنسانية المتقدمة منذ اليونان القدماء إلى اليوم. إلا أن الفلسفة جوبهت في فترات الانحطاط الفكري بنظريات مناوئي الفكر العقلاني، الذين تشبتوا بالفكر التقليدي المتزمت وألوا النص الديني بما يخالف الفلسفة· وقد كان للحضارة الإسلامية نصيبها من هذا التزمت إلى حد أن نعث الفلاسفة العقلانيون بالزندقة والكفر وأحرقت كتب البعض منهم· واليوم، لا تزال الفلسفة مغيبة من فكرنا العربي الإسلامي ومن جل المقررات التعليمية في العالم العربي الإسلامي، بل إن التعامل معها تمليه حسابات سياسية أكثر منها فكرية، تربوية· الأمر الذي يفسح المجال لنمو التيارات المحافظة، المتزمتة المعادية للعقل والحرية· فيما يلي، حوار أجرته " الأحداث المغربية" مع منسق شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء لغاية الوقوف على واقع تدريس هذه المادة.
باعتباركم واحد من الذين يخبرون حال الفلسفة في جامعتنا المغربية. كيف تقيمون وضع تدريس الفلسفة الآن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك؟
ليس من السهل إعطاء تقييم حقيقي لتجربة سنة من العمل ولكن ما يمكن ملاحظته هو أنه بالرغم من الإكراهات التي تعرفها كل بداية فرغبة الطلبة والأساتذة في ترسيخ التقليد الفلسفي بالكلية والمدينة كان إيجابيا، تكفي الإشارة للملتقيات المهمة، التي نظمتها الشعبة مع بعض المفكرين المغاربة والأجانب من أجل تعميق النقاش في قضايا لها علاقة بالمحلي والكوني، إضافة إلى خلق مجموعة من المنتديات وأيضا منتدى الآكورا AGORA لطلبة الفلسفة والعلوم الإنسانية وأيضا منتدى أصدقاء المتن الفلسفي، فضلا عن مركز الدراسات والبحث في العلوم الإنسانية، هذا علاوة على مجموعة من الشراكات التي تعتزم الشعبة ربطها مع مراكز البحث العلمي في مختلف المجالات المعرفية سواء المتعلقة بالبحث البيبلوغرافي أو مجال تاريخ العلوم أو المتعلقة بالتراث الفلسفي الإسلامي إلخ... إجمالا، يمكن القول إن رهان شعبة الفلسفة في مدينة الدار البيضاء التي تعيش إكراهات متعددة، هو أولا العمل على ترسيخ تقاليد فلسفية من شأنها أن تساهم في تحرير الذات من وثنية اليقينيات والسماح بالحق في المساءلة والنقد، والنقد هنا لا يعني الإقصاء والنفي وممارسة العنف باتجاه الآخر المخالف لنا، بقدر ما يعني حرية التفكير في إطار الانفتاح والتسامح.
لوحظ إقبال كبير على التسجيل في هذه الشعبة منذ إحداثها بالكلية. إقبال يقال إن ما يمليه ليس هو الحب في الفلسفة والفكر العقلاني بل هو الاعتقاد بأن التخرج من الشعبة هو ضمان للشغل على خلفية الوضع الذي يعاني منه الشباب المتعلم، خريج الجامعات والمعاهد المغربية.
أ- هل تؤكدون هذا القول ؟ إذا كان الأمر كذلك، ما مؤشرات هذا الوضع انطلاقا من ممارستكم اليومية ؟
ب - هل يمكن القول إن العقلية الطلابية تأثرت سلبا بالقرارات التي همت البرامج العقلاني التعليمية في الجامعة والتي ذهبت إلى حد تعويم الفكر العقلاني بالمناهج الدينية التقليدية ؟ أين تتبلور، في نظركم، مظاهر هذا التأثر إذا وجد؟
أ- أكيد أن الإقبال الذي عرفته الشعبة هذه السنة يمكن أن تعطي له عدة تفسيرات، من بينها النزوع الطبيعي للطلبة نحو كل ما هو جديد أو التفكير، كما قلتم، بمنطق سوق الشغل... إلى غير ذلك من الطروحات التي تعبر، في اعتقادي، عن أزمة تشمل كل المنظومة التعليمية وتشكل إحدى الرهانات الأساسية المطروحة أما الجامعة المغربية بمختلف مكوناتها ومجالاتها المعرفية والمتمثلة في تحديث الجامعة وعصرنتها وجعلها مصدرا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبما أن الفلسفة هي جزء من النسج التعليمي، فمن الضروري أن تعيش تلك الإكراهات وتسعى أيضا إلى رفع التحديات المتعلقة بالحضر والإقصاء الذي طالها لما يزيد عن عشرين سنة، ومهما تكن المبررات، يمكن القول بأن من الصعب أن نختزل اختيار الطالب لتخصيص الفلسفة في ا لضرورة المهنية دون استحضار البعد التنويري الذي حققه الفكر الفلسفي عبر التاريخ والذي يمكن أن يدخل في إطار خيار استراتيجي آني ومستقبلي. فالفلسفة ليست مجرد فكر بلازمان ولا مكان، بلا مجتمع وبلا حضارة، إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل، ويخدم مجتمعا ويعبر عن حضارة، ولعل اختيار جيل من الطلبة لشعبة الفلسفة يعبر عن تحول في المسار التنموي للجامعة، فهو تعبير عن حق في الاختيار، حق يمكن اعتباره طبيعيا وهو الحق في المساءلة والنقد، الحق في إقرار المجتمع المدني الحداثي والحق في الاختلاف.
ب - أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، من الأكيد أنه يمكن الإقرار بوجود نمط من التفكير المتشبع بالمناهج الدينية التقليدية المبنية على علاقة الشيخ بالمريد، والتي تعتمد بالأساس على التلقين والحفظ، ليتحول الطالب إلى وعاء يمكن أن يختزن أو يحتوي كل شيء نطرحه فيه واعتباره سلبيا وليس بفاعل إيجابي، وقد ينعكس ذلك سلبا على سلوكه ومواقفه تجاه المجتمع الذي يؤدي به في بعض الحالات إلى التطرف والتهميش. هذا النمط من التفكير يتخارج تماما مع طبيعة التفكير الفلسفي الذي يسعى إلى تفكيك المواضيع وعقلنة العالم وافتراض أن العقل ليس فقط أداة بشرية تساعد الانسان في التعامل مع الواقع، بل صيرورة تاريخية تتناسب مع مجالات الإنتاج والإدارة والقانون والمعاملات السياسية وتخص مختلف المؤسسات الاجتماعية ومختلف الممارسات المعرفية والعلمية والتكنولوجية وكيفية تعامل الإنسان مع المقدسات ومجالات الأخلاق والمعتقدات، ولعل تجليات هذا النمط من التفكير على مستوى الواقع هو الكفيل بالدفع بمسلسل التحديث كأحد الرهانات الأساسية لمجتمعنا.
كان قرار إعادة الاعتبار إلى الفلسفة من خلال برمجتها في السلك الثانوي التأهيلي بمستوياته الثلاثة قرارا صائبا في ظاهره. إلا أن واقع الحال بين، بشهادة بعض الممارسين، أن القرار لم يسبقه تحضير شامل يراعي توفير الموارد البشرية المؤهلة والشروط الواجب توفرها في دراسة الفلسفة، الأمر الذي يؤثر سلبا على جودة مدرسي الفلسفة والتحصيل ؟ ماهي في نظركم الأرضية التي كان واجبا تهييئها قبل أخذ القرار ؟
يمكن القول، بالتأكيد، إن قرار إدماج الفلسفة في النسيج التعليمي في مراحله الأولى يعطي فرصة أكبر للتلميذ لملامسة حقول معرفية ومجالات تتميز بالتناظر الفلسفي إلى جانب التناظر المعرفي في مجالات فكرية أخرى، ولا تخفى أهمية الدرس الفلسفي بالنسبة لجيل من التلاميد المؤهل للمشاركة في الحياة السياسية وفعاليات المجتمع المدني، وهو الفضاء الذي يمكن لنصوص حول الحداثة والديمقراطية وعلم الاجتماع والتحليل النفسي أن تمنح التلميذ آليات ومناهج للتحليل وممارسة القراءة والتأويل. وإذا اعتبرنا أن قرار إدماج الفلسفة في المقررات المدرسية كان ينبني على أسس بيداغوجية وكان يدخل ضمن استراتيجية الإصلاح البيداغوجي للمنظومة التعليمية فيمكن القول في مقابل ذلك إن هذا الوضع سيبقى إشكاليا إذا لم يصاحبها تفعيل أجرأة المبادئ المتضمنة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين حتى لا يبقى مجال التعليم في بلادنا حقلا للتجارب، منذ بداية الاستقلال إلى الآن، والتي بينت عن محدوديتها سواء في ما يخص جودة البرامج والمناهج أوعلى مستوى الاستجابة لحاجيات المجتمع الاقتصادية والثقافية؛ ولعل غياب الآليات البيداغوجية واللوجيستيكية الضرورية كتأهيل الكفاءات لمسايرة التطور الحاصل على مستوى التكوينات الجديدة وندرة الموارد المالية والبشرية وضعف البنية التحتية اللازمة لتفعيل برامج الدراسة وتطوير البحث العلمي. دليل على ذلك. وإذا كان هذا الوضع يشي بأشياء كثيرة فإن أبرزها أن الخيارات الحاسمة في تحديد مستقبل الدرس الفلسفي لايمكن إلا أن تعتبر أن الفلسفة أصبحت شأنا وطنيا لا محيد عنه.
نظم مركز طارق بن زياد يوم 26 نونبر بميدلت، بالتعاون مع جهات أخرى، احتفالا باليوم العالمي للفلسفة، وشارك في اللقاء مجموعة من الباحثين المغاربة والأجانب. بالرغم من ارتباط الاحتفال بالفلسفة بمناسبة كهذه (اليوم العالمي)، ألا ترون أن المجتمع المغربي في حاجة دائمة. لا مناسباتية، إلى الفلسفة ؟ ما هي حدود المشروع الذي يمكن أن تجسده الفلسفة على أرض الواقع؟
قوة هذه الملتقيات تكمن في كونها توسع دائرة النقاش حول قضايا إنسانية أو وطنية كبرى، تطرح نفسها علينا اليوم بإلحاح كإشكالية الهوية، التراث، الحداثة... الخ أو قضايا أخرى ذات طبيعة معرفية، منهجية، قيمة أو وجودية، إضافة إلى خلق حلقات لتعميق التأمل في قضايا أصبحت قائمة اليوم بقوة، مثل العولمة وعلاقة المحلي بالكوني والاندماج في الثورة المعلوماتية التي يعرفها العالم. إلا أن الطابع المناسباتي لهذه الملتقيات، كما أشرتم إلى ذلك، قد يضفي عليها طابعا مفارقا لحضورها في الفضاءات الثقافية وملامستها لجمهور عريض من المهتمين بالشأن الثقافي. فالفكر الفلسفي يحتاج إلى قراء قادرين على تمثل الأفكار ومناقشتها وترسيخ ثقافة الحوار والتواصل مع الحياة العامة.
نظرة سريعة إلى النشاط الفكري الفلسفي في المغرب تبين أن البحث الفلسفي لا يتجاوز العارفين فيه، وهي دوائر تكاد تكون مغلقة، في رأيكم ما هي التحديات التي يواجهها الفكر الفلسفي بالمغرب في ضوء تنامي الفكر الديني التقليدي المتزمت ؟
يمكن القول إن التراكم المهم الذي يعرفه النتاج الفلسفي المغربي يستدعي في المرحلة الراهنة ممارسة النقد لمراجعة الذات والعودة إلى ما أنجز حتى الآن. وأيضا تحديد مهام المستقبل والشروط اللازمة لإنجازها· هذا بالإضافة إلى خلق نوع من السجال المفتوح مع مختلف شرائح المجتمع فالنخب المثقفة لها دور نظري فكري وقيمي إلى جانب دورها في المساهمة في مشاريع إعادة الهيكلة لمختلف المؤسسات ومن بينها الهياكل الدينية في علاقتها مع تطورات العصر.
أي دور للجامعة في هذا الاتجاه ؟
يمكن القول بأن مشروع الفلسفة هو جزء من المشروع الحضاري الذي تؤسس له الجامعة المغربية لرفع رهان الحداثة والخروج من التقوقع والانغلاق، إضافة إلى الانتقال من جامعة أحادية الهدف إلى جامعة قائمة على التعددية الوظيفية. ولعل الرجوع إلى التاريخ يبرز لنا مدى اهتمام الفلاسفة بموضوع الجامعة.
فمنذ نشأة الجامعة في أوربا في القرن الثاني عشر الميلادي، تطرق الفلاسفة إلى موضوع الجامعة، خاصة فيما يتعلق بحرية البحث العلمي، أو بدورها في المجتمع، وتحقيق الأهداف القومية للبلاد، وليس هنالك فيلسوف إلا وتطرق للبحث العلمي منهجا وموضوعا، أو معهدا ومؤسسة: لقد أنشأ سقراط "الأكاديمية"، وأسس أرسطو "اللقيوم"، بينما آثر سقراط التعليم في الأسواق وبدأ "ديكارت" في العصور الحديثة بنقد عقم التعليم في المدارس القائمة وبعده حاول الفيلسوف الألماني "كانط" أن يحول ذلك إلى موضوع مستقل، وكتب فيه مؤلفه الشهير "الصراع بين الكليات" بين كلية الفلسفة من ناحية وكليات اللاهوت والقانون والطب من ناحية أخرى، واضعا بذلك مشكلة الحريات الأكاديمية ودور الجامعات في البحث عن الحقيقة، ثم جاء دور الجامعات في الدول النامية التي حاربت الاستعمار دفاعا عن استقلالها الوطني، وهذا الدور الجديد هو قيادة العمل الوطني وقيادة الثورة الوطنية، كما كان الحال في الجامعات المصرية منذ نشأتها. وارتبطت نشأة الجامعات في أوروبا بالفلسفة الإسلامية وبمناهج التعليم في الشرق الإسلامي، فخرجت العلوم والمعارف من الكنائس والأديرة إلى المدارس والجامعات، فانتقل العلم من الدين إلى الدنيا، ومن علوم الغايات إلى علوم الوسائل، وبعد الحروب الصليبية، وإثر القوافل التجارية، وعبر إسبانيا وجنوب إيطاليا، تعرفت أوربا على نماذج جديدة العلم، موضوعا ومنهجا وطرقا للتدريس. فقد اعتمدت الفلسفة الإسلامية على منهج الحوار، والجدل، والإقناع، والبرهان وأصبح مجال البحث في كل شيء ممكنا ولم تعد هناك أسرار الهية أو محرمات دينية يؤمن بها الإنسان دون برهان. كان العقل والإيمان شيئا واحدا، والفلسفة والدين حكمة واحدة، فلا سلطان إلا لسلطان العقل وحده، وهو مقياس الإيمان الصحيح. ولقد انتشر هذا النموذج الإسلامي الجديد في الغرب، لدرجة أن الفيلسوف المسلم أصبح نموذج الفيلسوف الخالص، في مقابل اللاهوت المسيحي واللاهوت اليهودي... إلى أن انتصر العلم في عصر النهضة، والعلم في القرن السابع عشر، والثورة الاشتراكية الإنسانية في القرن الثامن عشر، معلنة المبادئ الثلاثة:الحرية الإخاء والمساواة وأصبحت الحضارة الأوربية كلها ترتكز على العلم والعقل في القرن التاسع عشر، قبل أن تستغل ذلك كله من أجل الاستعمار، والسيطرة وأزمة الموارد، وأزمة الفلسفة، إذن يتبين مما سبق أن مشروع الفلسفة هو ضرورة تاريخية لم يتخل عن مهمته الأساسية. وعن غاياته التنويرية التي حددها لنفسه منذ العصور الوسطى وأن يفكر في إعادة بناء الأفكار والمفاهيم التي بإمكانها أن تؤسس لقاعدة منهجية صلبة لتفكير فلسفي جديد. بالإضافة إلى الوظائف البيداغوجية لشعبة الفلسفة على المستوى الأكاديمي، يمكن القول بأن الرهان بالنسبة لمدينة كالدار البيضاء هو الوظيفة الاجتماعية لأن الميكانيزم الطبيعي للجامعة يتجه تلقائيا إلى أقلمة الوجود الجامعي مع الوجود الاجتماعي. باعتبار أن الوظيفة العلمية لا يمكنها أن تبقى رهينة الرفوف.
حاوره: سعيد الشطبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق