في أفق العمل على تطوير تدريس الفلسفة في الجامعات المغربية وفي إطار الانفتاح على تجارب جامعات أجنبية رائدة في هذا المجال نظمت جامعة ابن طفيل بالقنيطرة بتاريخ 3/11/2006 يوما دراسيا حول "تدريس الفلسفة في إطار النظام الجامعي الجديد إجازة-ماستر-دكتوراه". ترأس هذا اللقاء الأستاذ محمد الساروي رئيس جامعة ابن طفيل وحضره الأساتذة: Peter Kampits عميد كلية الفلسفة وعلم التربية التابعة لجامعة فيينا؛ محمد سبيلا، عبد السلام بن ميس من جامعة محمد الخامس الرباط-أكدال؛ موليم العروسي، عبد العالي معزوز من جامعة الحسن الثاني المحمدية؛ مصطفى لعريصة من جامعة القاضي عياض بمراكش؛ أحمد العلمي، حسان الباهي، محمد أبلاغ، إسماعيل المصدق من جامعة ابن طفيل.
في بداية هذا اللقاء قدم الأستاذ Kampits عرضا تناول المسلسل الذي انتهى بتبني مشروع إصلاح تدريس الفلسفة بالكلية المذكورة. بعد ذلك رسم صورة عن أهم ملامح هذا المشروع من حيث الأهداف والمنافذ ومضامين التكوين، ثم أوضح الأهمية التي أصبحت تحتلها الجسور بين شعبة الفلسفة والشعب العلمية والتقنية. وأخيرا قدم تقييمه الشخصي لهذا المشروع فأبرز جوانبه الإيجابية وأدلى ببعض الملاحظات النقدية.
بعد ذلك قدم الأستاذ عبد السلام بن ميس رئيس شعبة الفلسفة بكلية الآداب بالرباط عرضا عن الملامح الأساسية لتدريس الفلسفة بالجامعات المغربية سواء فيما يتعلق بالبناء العام أو بمضامين التكوين وأشار في الأخير إلى بعض نقط الضعف والمشاكل التي يجب التغلب عليها وأخذها بعين الاعتبار عند مراجعة الإصلاح. ترجع بعض هذه المشاكل إلى أن البرنامج المعمول به في إطار الإصلاح ليس في الواقع إلا تفريغا للمواد القديمة داخل النظام الجديد، وذلك لأنه كان يراعي بالدرجة الأولى الموارد البشرية المتوفرة.
وقد تلا العرضين نقاش مستفيض تم فيه تبادل وجهات النظر بين الحاضرين ليتمخض عن ضرورة إعداد جديد ومبتكر لبرامج تدريس الفلسفة في الجامعات المغربية وفق أهداف مضبوطة تراعي خصوصية الفلسفة كمبحث قائم بذاته من جهة، والتطورات التي تعرفها كل مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية من جهة أخرى. وتحاول الورقة التالية أن تقدم أهم النتائج التي توصل إليها النقاش.
خلاصة تركيبية
لا شك أن وضعية الفلسفة في المغرب عرفت في السنوات الأخيرة تحولا إيجابيا. فقد تم تخطي كثير من العوائق التي كانت تقف في وجهها والتي كانت ترتبط باعتبارات سياسية أو إيديولوجية. إلا أن هذا التحول لم يمنع من استمرار النظرة السلبية إلى الفلسفة التي تقوم على اعتبارها تكوينا غير مفيد، بحجة أن منفذ الشغل الوحيد الذي توفره هو التعليم، وهذا الأخير يبقى غير قادر على استيعاب أفواج المتخرجين من مسالك الفلسفة بالمغرب.
لكن فحصا متأنيا ودقيقا لواقع الأمور يبرز سطحية هذا الحكم. فالحركية التي يعرفها المجتمع المغربي والعالمي على السواء تفسح إمكانيات جديدة لتشغيل خريجي الفلسفة، فبإمكان هؤلاء يجدوا لهم مكانا في قطاعات أخرى غير التعليم، شريطة أن يتوفروا على تكوين متوازن يجعلهم قادرين على التفاعل الإيجابي مع أوساط وقطاعات مهنية مختلفة. من ضمن هذه القطاعات:
- قطاع الإعلام والإشهار والتواصل الذي أصبح يتوسع بشكل ملفت للنظر، هذا القطاع يحتاج أساسا إلى كل من باستطاعته نحت وصقل المفاهيم الإشهارية؛
- قطاع الصحافة بكل أشكالها حيث يلاحظ أن عددا من الميادين وخاصة الفنية والثقافية تبقى بدون تغطية وتحليل بسبب افتقار المؤسسات الصحافية إلى متخصصين يتوفرون على تكوين فلسفي؛
- قطاع النشر حيث يلاحظ أن دور النشر تفتقر إلى من يبني التصورات ويصمم المجموعات كما تفتقر إلى قراء متنبهين لاختيار وتنقيح ما ينشر.
كل هذه القطاعات تحتاج إلى فاعلين لهم قدرة على التحليل والتركيب والإقناع والنقد، بل إن جل المقاولات الصناعية أصبحت تحتاج إلى فاعلين لهم تكوين فلسفي منفتح وأفق واسع يمكنهم من اقتراح مشاريع واتخاذ مبادرات معقلنة ذات طبيعة استراتيجية.
وإضافة إلى ذلك يمكن للفلسفة أن تلعب دورا اجتماعيا وثقافيا وتربويا أساسيا إذا ما أتيحت لها فرصة الانخراط في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية كمجال السياسة والتربية والقيم. وهذا الانخراط يجعل من الفلسفة رافدا من بين الروافد الأساسية لتكوين مواطن بناء ومسؤول ومتفتح بإمكانه أن يساهم في التنمية البشرية، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان ودولة الحق، والدفاع عن القيم والاختيارات الوطنية مع القدرة على الاغتناء بالمكتسبات والقيم الكونية عبر الانخراط الإيجابي في حوار الثقافات. إن تعددية الثقافات وأنساق القيم التي تطبع العالم الراهن تتطلب ترسيخ مبادئ التسامح واحترام الآخر وتجنب الفكر المنغلق والقطعي، كما تتطلب تطوير القدرة على الاستماع للآخر وفهم خطابه وتحليل مكوناته، وكذا على إنتاج خطاب مقنع متشبع بمبادئ العقل والفكر الحواري. وباختصار فإن الفلسفة – وتلك إحدى مهامها الأولى - يمكن أن تساهم بشكل أساسي في تكوين مواطن واعٍ يتخذ مواقفه بروح من الحرية والمسؤولية.
لكن الفلسفة لا يمكن أن تقوم بهذه الأدوار ما لم يتم تأهيلها، وهذا ما يفرض في الوقت الراهن إعادة هيكلة برنامج تدريس الفلسفة في الجامعات المغربية انطلاقا من أهداف مضبوطة تأخذ بعين الاعتبار حاجة المجتمع. وهنا يجب تجنب صياغة البرامج الدراسية على أساس الموارد البشرية المتوفرة حاليا؛ فذلك لن يؤدي إلا إلى تكريس الوضع الراهن الذي يتسم إلى حد كبير بابتعاد الفلسفة عن أرض الواقع. يجب، على العكس من ذلك، صياغة برنامج متكامل يستجيب للحاجيات المطروحة، مع التفكير في نفس الوقت في تكوين وتأهيل الموارد البشرية الكفيلة بإنجازه على أحسن وجه.
على ضوء هذا التصور يمكن تقديم الاقتراحات التالية:
1. بالنسبة لمسلك الفلسفة:
يجب إعادة بناء المسلك الوطني النموذجي لسلك الإجازة بشكل يمكِّن الطالب من اكتساب تكوين أساسي متين، وهذا يتطلب العمل في واجهتين:
- مساعدة الطالب على استيعاب مضامين أساسية للفكر الفلسفي وعلى الاطلاع على اللحظات المهمة في تاريخ الفكر الفلسفي وكذا الاتجاهات والقضايا والمجالات المركزية فيه.
- مساعدة الطالب على التمكن من الأساليب المنهجية في الفلسفة: طرح الأسئلة، تحليل المشاكل، الاستدلال، التفكير النقدي، وذلك في أفق تحفيز الطالب على اكتساب طريقة شخصية في العمل والتأمل النقدي والتكوين الذاتي والتكوين المستمر.
ويجب أن يتضمن البرنامج تكوينات لها ارتباط مباشر بما يحدث الآن في العالم. كما أنه لا يمكن الاستغناء عن تدريس الشعر والرواية لطلبة الفلسفة، فإنه من غير المعقول أن لا يدرس طالب الفلسفة اليوم مثلا كل ما يتعلق بالصورة وملابساتها ووسائل الاتصال.
على أساس هذا التكوين يمكن للطالب أن يباشر سلك الماستر الذي يجب أن يتوجه نحو الحاجيات القائمة ومنافذ التشغيل. ويمكن أن يلعب التكوين في الفصلين الخامس والسادس من الإجازة دور جسر بين السلكين.
2. توسيع مجال الدرس الفلسفي:
لوحظ في أكثر من مناسبة أن كثيرا من خرجي المسالك المسماة علمية يتعاملون مع العلم تعاملا تقنيا محضا، الأمر الذي يجعلهم عرضة للسقوط في تصورات تتناقض مع روح العلم ومنهجه. وأكيد أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عدم قدرتهم على القيام بتأمل نقدي لممارستهم العلمية. لهذا نقترح أن تنفتح الفلسفة على المسالك الأخرى في كليات الآداب والعلوم والحقوق والطب وكذا في مختلف المدارس العليا. وفي هذا الصدد يمكن اقتراح وحدات فلسفية تتناسب مع طبيعة كل مسلك على حدة. وأكيد أن الفلسفة يمكن بهذا الشكل أن تساعد طلبة المسالك الأخرى على اكتساب الفكر النقدي والقدرة على تأمل الممارسة العلمية وتطويرها وعلى إدراك خصوصيات الحقول المعرفية التي يهتمون بها. وبإمكان هذا الانفتاح – وتلك إحدى إيجابياته - أن يكون مقدمة لتكوين مجموعات للبحث متعددة الاختصاصات تجسد فكرة التعاون بين مختلف الفروع المعرفية، الأمر الذي أصبح ضرورة ملحة في الوقت الراهن.
3. فتح آفاق الدرس الفلسفي:
لإغناء الدرس الفلسفي بالمغرب لا بد من الانفتاح على الجامعات الأجنبية عن طريق إقامة علاقات تعاون وتبادل معها، وعن طريق التعاقد مع أساتذة مرموقين من أجل زيارة المغرب وتقديم سلسلة من المحاضرات والدروس في الجامعات المغربية. ولا شك أن ذلك سيساهم في الانفتاح على الفكر الفلسفي العالمي.
4. أهمية اللغات الأجنبية العالمية:
لا بد ونحن نسعى للبناء النوعي للتكوين الفلسفي ببلادنا أن نعمل على إعادة الاعتبار للغات الأجنبية في تكوين الطلبة. من جهة يجب تطوير برامج ومناهج دروس وحدة اللغات والتواصل التي تلقن لطلبة الفلسفة في أفق جعلها أكثر ارتباطا بحقل الفلسفة وأكثر قدرة على تلبية حاجة الطلبة إلى قراءة النصوص والمؤلفات الفلسفية باللغات الأجنبية. ومن جهة أخرى يمكن التفكير في إعطاء بعض الدروس باللغة الفرنسية أو غيرها من اللغات التي يتقنها الطلبة، الشيء الذي من شأنه أن يؤهل الطلبة لاستعمال اللغات الأجنبية في الدراسة والبحث.
لبلوغ هذه الغايات ولتعميق الرؤية وإنضاجها لابد من توسيع دائرة النقاش والتداول بين مختلف الأساتذة والمسؤولين، ولعل البداية تتأتى بتكوين خلية للتفكير المنهجي والمركز في القضايا التي تمت إثارتها في هذه الورقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق