ترجمة : عبد المجيد خليفي
إن التجربة الدينية لا يمكن اختزالها بالضرورة في اللغة الدينية. لكن مع ذلك كلما شددنا على الشعور بالارتباط المطلق وعلى الثقة اللامحدودة وعلى الأمل بدون ضمانة وعلى الوعي بالانتماء إلى تراث حي، وعلى الالتزام الكلي في المستوى الأخلاقي والسياسي إلا ونجد أن كل لحظات التجربة الدينية تجد في اللغة وساطة ضرورية ليس فقط للتعبير عنها، بل لجعلها تتمفصل في المستوى نفسه الذي تظهر فيه وتنمو. فالتجربة غير الموصولة باللغة تظل عمياء مبهمة ولا تواصلية، وإجمالا فالأمر لا يتعلق بلغة في تجربة دينية، بل لا وجود لتجربة دينية بدون لغة.
الخطاب الديني مزدوج: قبل مفهومي ومفهومي
بيد أن هذه اللغة، لكي تمارس وظيفتها التمفصلية والتعبيرية والتواصلية، فهي لا تتطلب نظمها في لغة تأملية، ولنقل في لغة مرتبطة بالمفهوم.
وتشهد على ذلك الأجناس الأدبية التي تحفل بها التوراة والعهد الجديد، ففيها نصادف قصصا وقوانين ونبوءات وحكما وتراتيل ورموزا وأمثالا. والحال أن هذه الأجناس الأدبية في مستواها القبلمفهومي، تتكون فيها اللغة الدينة الأولية. فمن المؤكد أن هذه اللغة عندما تخضع لتأويلات متباينة وجدالات خارجية وكذا لتمزقات داخلية خاصة بالجماعة المؤمنة، فإنها تكون مجبرة على التعبير عن نفسها في أفكار موثوقة، وعلى المجاهرة بالإيمان حيث يتميز أولا عمل المفهوم. هذا بالإضافة إلى أن "عقيدة" الكنيسة المسيحية - عندما تكون في مواجهة مع اللغة الفلسفية - تستعمل وسائل غير ملحوظة أو غير مستعملة للمفهومية سواء باللجوء إلى استعارة خارجية أو إلى توضيح داخلي من أجل أن توضع في نفس مستوى الفلسفة. وبذلك تدخل اللغة الدينية على نحو ملائم في القانون التيولوجي. فمن هذا التغيير للقانون والجدل بين المستوى القبلمفهومي والمستوى المفهومي نشأ جنس مختلط للغة يمكن نعته من الآن فصاعدا بلفظ الخطاب الديني.
السمة الرمزية للخطاب الديني
هناك سمات خاصة للمستوى القبلمفهومي لهذا الخطاب الذي نقترحه هنا للاستكشاف، إذ يمكن تسمية هذا المستوى من الخطاب "بالرمزي" لأسباب سنشرحها فيما بعد. ويمكن القول منذ الآن إن اللفظ سيؤخذ في معنى أقل انتشارا بالنسبة للمناطقة والعلميين الذين لا يستعملونه أثناء حديثهم عن المنطق الرمزي أو الرمز الرياضي أو الرمز الكيميائي. فالمدلول الواسع الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي منحه إليه "كاسيرر" في "فلسفته عن الأشكال الرمزية"، يعني بنيات التجربة الإنسانية المتوفرة على قانون ثقافي والقادرة على ربط أعضاء الجماعة فيما بينهم والذين يعترفون بهذه الرموز كقواعد لسلوكهم. وبالمقابل فاللفظ سيؤخذ في معنى أكثر انتشارا لا يريده له الكتاب الذين يربطون فكرة المعنى "الخفي" - الذي هو فقط في متناول المطلعين على المذهب "الباطني" - بفكرة الرمز· وفي هذا الصدد فإن المدلول الجزئي الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي اعترف به "بيرس" في سيميو طيقاه، يعني العلاقة بين مستويين من الدليل مؤسسة على التشابه. فالتحليل اللاحق سيتم بين هذين المعلمين الأقصيين: مستوى المعيار الثقافي ومستوى نزعة التشابه السيمانطيقية.
الرمزية المحايثة للثقافة
ففي مرحلة أولى سنأخذ بعين الاعتبار وظيفة الرمزية في مستواها القبل أدبي"، يعني قبل أن تسمح لنا بإنتاج مثبت في نصوص بالمعنى الدقيق للمؤلفات المكتوبة. فالحضارات التي لم تعرف الكتابة كما تصفها الإتنولوجيا (المسماة أنتربولوجيا في التقليد الأنكلوسكسوني) لا تعرف سوى هذه الوظيفة للرمزية. فرمزية التقليد الشفوي باعتبارها تفتقد إلى قانون واضح ووجود متميز، تكشف عن نفس البعد الثقافي، يعني كونها "واسطة رمزية". فإذا كان بإمكان التجربة الإنسانية أن تصور كلاميا وتحكى وتؤسطر في رموز ظاهرة وفي رسوم وقصص وأساطير، فذلك لأنها كانت دائما مرتبطة من الداخل برمزية محايثة، ضمنية وأساسية، والتي يعطيها الأدب، القانون الواضح للرمزية المستقلة والصريحة وذات التمثيلية.
السمات الخمس للرمزية
يمكن تحديد هذه الرمزية في بعض السمات التالية:
- يجب أولا التركيز على الطابع "العمومي" للتفمصلات الدالة للفعل. فـحـسـب عـبارة "كليفـورد جيرتـز" أحد أساتذة الأنتروبولوجيا الثقافية الأمريكية فـي"The Interpretation of cultures":"فالثقافة هي عمومية لأن الدليل عمومي". و"كلود ليفي ستراوس" لن يفند بدون شك هذا القول. فهو الذي أكد بعد "مارسيل موس" - أن ليس المجتمع هو الذي ينتج الرمزية، بل الرمزية هي التي تنتج المجتمع. من هنا تأكيد الطابع التأسيسي للوسائط الرمزية التي تضمن دلالة الفعل. فهذا الطابع يتمفصل مع سمة الفعل المشار إليه أعلاه، يعني أنه يؤول إلى التفاعل بين عدة عوامل. لكن فكرة التأسيس تضيف لفكرة التفاعل هذه، السمة التي يؤلف بها التأسيس كليات Totalités غير قابلة للاختزال إلى أجزائها (أسر، جماعات متساوية في السن، طبقات اجتماعية، مجتمعات، دول وحضارات) والتي تنسب أدوارا للأفراد الذين يشكلونها، حيث ترتكز فيها أولى وظائف الرمزية المحايثة.
- لنركز أيضا على الطابع "البنيوي" للتركيبات الرمزية. فالرموز تشكل نسقا في حدود أنها تحافظ على علاقات التعاون أو التفاعل أو كما قيل أعلاه عن علاقات بين الأدلة. فقبل تأليف نص على المستوى الأدبي، تقدم الرموز تركيبا دالا. وهكذا لفهم طقس ما، يتعين التمكن من إعادة وضعه في نسيج الطقوس التي من أجل فهمها يجب موضعتها بدورها في عبارة خاصة، وبصورة تدريجية في مجموع المعتقدات والتواطؤات التي تشكل شبكة الثقافة من أجل تثمين الدور الاجتماعي للطقوس الممارسة وتأثيرها على البنيات الاجتماعية الأخرى. فهنا سيبدو إحلال البنيوية اللسانية محل الأنتروبولوجيا مبررا.
- يرتبط أيضا مفهوم "القاعدة" أو "المعيار" بمفهوم النظام. ويمكن الحديث بهذا المعنى عن تنظيم رمزي وتحديد للفعل الإنساني كسلوك محكوم بقواعد وذلك حسب peter winch في the idea of social science، كما يمكن أيضا التركيز مع "كليفورد جيرتز" على التشابهات والاختلافات بين الشفرات الوراثية والشفرات الثقافية. فالواحدة والأخرى يمكن أن توصف "كبرامج" تشفر encodent الفعل. لكن على خلافات الشفرات الوراثية، تستقر الشفرات الثقافية في مناطق ضعف التنظيمات الوراثية. ولهذا السبب يمكنها إذن أن تقلب مجراها subvertir وذلك بإحلال قصديتها وغايتها محل الإكراهات التنظيمية للشفرات الوراثية.
- كما أن فكرة القاعدة تميل بدورها نحو فكرة "التبادل". "فكلود ليفي ستراوس" في أعماله الأولى قد بين كيف أن تبادل الممتلكات والرموز والنساء يشكل أنساقا متجانسة داخل نفس الثقافة. فبإدخال معيار التبادل نبعث واحدا من الأدلة الأكثر قدما للفظة رمز كعلامة اعتراف بين فريقين، كل واحد منهما حارس لجزء مقطوع من الرمز الكلي، وأن تقارب هذين الجزأين يعطي للرمز قيمته الدالة التي تفعل فعلها وذلك بإعادة ربطه (هكذا بالمجاهرة بالإيمان الكنسي المسيحي البدائي التي تسمى أحيانا رموزا، لأن أعضاء الجماعة المؤمنة بوسائلها الخاصة يراقبون انتماءهم المشترك لهذه الجماعة). فهذا المعيار الجديد يؤكد المعيار السابق ويصححه في نفس الوقت، فبقدر ما تبرر قاعدة التبادل التحويل إلى السوسيولوجيا الثقافية للإجراءات المطبقة أولا على النظام السيميولوجي بامتياز، أي اللغة، بقدر ما يحذر الطابع الملموس للتبادل الأنتربولوجيا ضد فصل الرمزية عن الفعل الذي يحكمها. ففي الفعل الاجتماعي تفعل قاعدة التبادل فعلها، حيث تنتمي إلى ما أسماه "كليفورد جيرتز" "المنطق غير الصوري للحياة الواقعية". وبهذا المعنى فترابط النسق الرمزي المغلق ليس هو المعيار الرئيس لوصفه، بل هو فعاليته الاجتماعية.
- يمكن القول -لكي نوقف التحليل هنا- إن الأنساق الرمزية تقدم سياقا وصفيا للأفعال الفردية. فمثل هذه القاعدة الرمزية "كعبارة من قبيل..." "وتبعا لـ..." تسمح لسلوك معزول أن ينظر إليه "كدال" لهذا الشيء أو ذاك. ففهم إشارة رفع اليد يعني حسب هذه الحالة أو تلك "تأويلها كـ" تحية، كتهديد، كتعيين، كتوسل... أو كتصويت. وبهذا المعنى فالرمز في حد ذاته هو قاعدة للتأويل. فالرموز قبل أن تكون إذن موضوعات للتأويل هي مؤولات داخلية للظواهر الثقافية: فبموجب هذه العلامات المحايثة للتأويل، فإن مثل هذا الفعل الخاص كـ يصلح لـ...ويعد كـ... وباختصار "يؤول" كـ...يسمح للتحليلات الصورية البنيوية، بفضل هذه الوظيفة أن يعاد توجيهها نحو التأويل الواقعي.
وفي المحصلة، فإن الرموز المحايثة للجماعة ولثقافتها تمنح "وضوحا أساسيا" للفعل وتشكل معه شبه نص. فليس المؤولون للأعمال الثقافية في نص الأنتربولوجي أو السوسيولوجي هم الذين يصبحون موضوعات للتأويل، بل التبادلات وحدها بين شبه النص الثقافي والنص العلمي هي التي تسمح للعلم الاجتماعي بأن يبقى حديثا مع أجانب، والذي بفضله تصبح تأويلاتهم في وضع حواري مع تأويلاتنا. فهذا الهاجس هو الذي يبقي الأنتروبولوجيا الثقافية في وضع تبعية للشعرية.
الرمزية الصريحة والأسطورة التنظيم الرمزي في الكتابة
لقد وقفنا في التحليل السابق عند أحد طرفي الدائرة الرمزية الذي هو السمة الثقافية للرمز المشار إليه إذن. وسننتقل من الآن فصاعدا إلى القطب الآخر المتمثل في البنية "التشابهية" للرمز من وجهة نظر نزعته السيما نطيقية. والحال أن هذه البنية لا تتكشف إلا عندما تنفصل الرمزية في المستوى الأخير عن البنيات الاجتماعية الأخرى لكي تصبح طبقة couche متميزة داخل الحقل الثقافي، وأن هذا الانفصال قد تم مع الأدب المكتوب. غير أنه منذ المرحلة الشفوية، أمكننا رؤية الرمزية تتكثف في الأنشطة الشفوية المستقلة والقابلة للتحديد على الوجه الأكمل. فالرموز التي سنتحدث عنها الآن، تستجيب لهذا الاعتبار المزدوج: فالنزعة السيما نطيقية التشابهية من جهة هي متكشفة بشكل واضح فيها، وهي من جهة أخرى تتجسد في أفعال Actes اللغة المحددة بشكل دقيق، حيث أن الكتابة لا تجد صعوبة في تثبيتها حتى وإن كان لها وجود شفوي قد يم قبل أن ينقشها الكتاب المحترفون على لوحة صلبة، ويعطوها وجودا نصيا. فهذه الرمزية الصريحة والمتميزة هي الرمزية بمعناها الحقيقي.
حصول معنى ثان بواسطة معنى أول
نقصد مؤقتا بالبنية التشابهية Analogique، بنية العبارات "بمعناها المزدوج" حيث يحيل فيها المعنى الأول إلى معنى ثان. وهذا الأخير هو الذي يقصده الفهم فقط، دون أن يتمكن مع ذلك من الوصول إليه مباشرة. يعني بوجه آخر أنه بواسطة المعنى الأول سنوظف فيما بعد المجاز كالذي يميز لحظة التجديد السيما نطيقية بشكل خاص. وفي هذه اللحظة نعتبر أن الوظيفة الإجمالية للرمز وبالخصوص امتداده، هي أكثر شمولية من تلك المتعلقة بالمجاز، مادامت تشبه وظيفة الأساطير المأخوذة بمعنى حكايات الأصول.
كنت قد نقبت فيما مضى في "رمزية" الشر في منطقة التعابير الرمزية المبنينة جيدا بصفة خاصة، مثل تعابير الإقرار بالشر، وعلى وجه الخصوص تعابير الإقرار بالذنوب في لغة التقليد الكنسي المسيحي. فرمزية الإقرار قد تبوأت إذن مكانة في النشاط اللغوي المحدد بكيفية مضبوطة، والذي له قوته الخاصة الغير معبرة Illocutionnaire والمتمثلة في الإقرار. وكنت قد أشرت في تلك المرحلة إلى سمتين كبيرتين لهذه الرمزية التي أنوي إعادة وضعها اليوم في قالب أكثر اتساعا.
رمزية مبنينة
فالسمة الأولى لهذه الرمزية هي بالتأكيد طابعها "المبنين". ويمكن فعلا الكشف عن طبقات عديدة من بين رموز الشر الأولى المقر به Confessé، إذ نصادف في أدنى درجته، رمزية الطاهر والنجس المرتبطة بطقس التطهر الذي لا تختلط فيه الطهارة والوضوء أبدا بأدران الجسد. فالقذارة هي مثل الوسخ دون أن تكونه، وأن رمزية طقوس الطهارة هي التي تـكشف - على الصعيد العملي- المهمة الرمزية المتضمنة في تمثل التعفن، قبل أن تعين القوانين الدينية أو المدنية حدود الطاهر والنجس، وأن النصوص الأدبية سواء كانت إغريقية أو عبرية، تضفي قوة لغة قابلة للنقل Transmissible على الإحساس القاتم. فجناس أفلاطون في "كراتيل" هو مفيد في هذا الصدد: أبو لون هو الإله الذي ينظف Apolouôn، ولكنه أيضا الإله الذي يفوه بالحقيقة الأنطولوجية Haploun. فإذا كان الصدق والحالة هذه يمكن أن يكون طهارة رمزية، فإن كل شر هو لوثة Tache رمزية. فالشر في درجته القصوى يتميز بشكل ترابطي بكونه ذنبا "أمام الله" وخطيئة. وهذا مناقض لروح المسيحية ذات المصادر الرمزية العظيمة. ولهذا السبب فهو يعبر عن نفسه في أكبر عدد من الصور:خطأ الهدف، واتباع الطريق الملتوية والتمرد وصيرورة الزنا والانحناء للريح وللعاصفة ولتفاهة الفراغ ولكل الرموز التي لها مقابلها في رمزية الغفران كالهداية والتكفير عن الإثم والطاعة والإخلاص بشكل موثق وهو ما عبرت عنه Jeremie بقولها:"إأذن لي بالتوبة وسأتوب". وأخيرا يتميز الشر أيضا في مرحلة أكثر تهذيبا بجوانية الإثم. إنه الذنب في صورته الجنائية.
وهكذا رأت رموز جديدة النور: كعبء الخطيئة واستبداد الحيرة وقرار الإدانة من لدن قاض يحكم بشكل تعسفي.
ويمكن القول صراحة إن هذا الصرح الرمزي ينحو نحو المستوى المفهومي لحرية العبد Serf-libre التي تأخذ كل دلالتها من الرمزية نفسها بموجب العمل الدؤوب لإعادة التأويل الذي به يصب مستوى رمزي في آخر. فالمفهوم ليس سوى "النواة" "Telos" القصدية لهذه السيرورة الشاملة لإعادة التأويل.
رمزية من طبيعة سردية
أما السمة الثانية للرمزية فليست أقل أهمية في تحليلنا اللاحق، ولن نتناولها ثانية إلا في خانة: الرمز والسرد، إذ من الملاحظ في الواقع أن هذه الرمزية الأولى لن تكون هي نفسها مستساغة لنا إلا عبر رمزية من درجة ثانية ومن طبيعة سردية أساسا هي رمزية "أساطير" البداية والنهاية. وأنا آخذ هنا لفظة أسطورة بالمعنى الذي نجده عند "مرسيا إلياد" مثل حكاية الأحداث المؤسسة (بكسر السين) الطارئة In Illo Tempore، وهو ما أسميته قبلا بحكاية الأصول. إذ من المؤكد أن الأسطورة ليست أسطورة إلا بالنسبة إلينا نحن المحدثين الذين كونا فكرة عن زمن تاريخي، به زمن الأصول ليس أكثر تنسيقا مما ليس(ه) مشهد الأحداث المؤسسة مع الفضاء الفيزيائي والجغرافي المحصي تجريبيا. غير أن فقدان الوظيفة التفسيرية السببية Etiologique للأساطير يعري بالضبط وظيفتها الرمزية التي لا يستسيغها في عريها التام إلا وعي ما بعد نقدي post-critique. فلفهم الأسطورة كأسطورة يتعين فهم ما أضافته إلى وظيفة الأساطير الأولى التبشيرية بفضل بنيتها السردية الأصلية. وهكذا تتمثل الوظيفة الأولى لأساطير الفناء والخراب والضلال الإلهي والعصيان والرد عليها في أساطير الإعلاء والإلهام والمغفرة كما هي مرتبة، في إضفاء وحدة العالم المادي على الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك فالسرد يولد حركة ودينامية وتوجيها من البداية إلى النهاية: تاريخ نموذجي يعبر (بتسكين العين) تواريخنا. وبشكل جوهري فالأسطورة تعطي تأويلا سرديا للغز الوجود، يعني التنافر بين الخير الأصلي للخلق والشر التاريخي الذي ينعيه الحكماء. فالأسطورة تحكي، كحدث طارئ على أصل الأزمان، الصدع la faille الذي تكشف عنه الحكمة.
الأسطورة والأليغوريا (Allegorie)
والحال أن هذه الرموز المنقولة بواسطة الأسطورة ليست أكثر قابلية للترجمة إلى لغة مباشرة وأدبية، من الرموز الأولى، وهذا ما يميز الأسطورة عن الأليغوريا، إذ من الممكن مبدئيا تعويض الأليغوريا Allegorie بخطاب مباشر مفهوم من طرفه هو نفسه. وبمجرد وضع هذا النص الأول تصبح الأليغوريا غير ضرورية. إنه السلم الذي نزيحه بالرجل بعد أن نتسلقه. فبوظيفتها الثلاثية المتمثلة في الشمولية الصلبة والتوجيه المؤقت والاستكشاف الوجودي Existentielle والأنطولوجي Ontologique، تبرز الأسطورة سمات الشرط الإنساني الذي لن يستطيع أي تراث يعبر بوضوح مضاهاته أو أن يسد مسده. فالأسطورة حسب عبارة "شيللينج" في "فلسفة الميتولوجيا" تدل على ما تقوله: فهي ذات دلالة حقيقية وليس أليغورية (مجازية)
Le mythe signifie ce qu’il dit : il est tautégorique et non allégorique.
فاستبعاد التأويل الأليغوري Allégoriques لا يقتضي استبعادا لكل تأويل، سواء أحدثت الأسطورة عمليات سردية جديدة لها نفسها قيمة تأويلية كمـا أظهر ذلك Frank Kermode في"Genesis of secrecy"، أم أن مثل هذه الأسطورة تثير Susciter مواجهة مع أساطير عصر آخر مثل ما بيـن الحكاية التوراتية المتعلقة بالعصيان وحكايات الخـراب من نمط أورفي-أفلاطوني Orphico_Platonicien وأن عمل التأويل يقتضي Suscite خطابا في المستوى شبه مفهومي كما مع معتقد Dogme الذنب الأصلي عند القديس أوغسطين، أم أخيرا أن التأويل يقتضي استكشاف حقل التجربة المفتوح من طرف الأسطورة، مانحا هذه الأخيرة تحقيقا وجوديا قابلا للمقارنة بالاستنتاج الترنسند نتالي لمقولات الفهم عند كانط. لكن هناك شيئا لا ننتظره من التأويل هو أنه يجدد كمال التجربة التي تحددها Designer الأسطورة في صورة لغز. ويمكن القول صراحة إن الأسطورة تشهد على اتفاق حميمي بين الإنسان ومطلق الوجود، بين الطبيعي والخارق للطبيعة. وباختصار فهي تشهد على وجود سابق على الانفصال. لكن وبالضبط لأن هذه الوحدة ليست معطاة في أي حدس، حيث لا تكون إلا دالة ومروية وربما لنفس السبب فإن الأسطورة هي نفسها مقسمة Scindé إلى عصور عديدة، وتركيزات سردية متميزة، التي ولا واحد منها مساو لقصد Visée الأسطورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق