يسرني أن أقدم للقراء الأعزاء تلخيصا لكتاب قرأته سابقا، للمفكر العربي المشهور ذي النزعة التجريبية الوضعية زكي نجيب محمود. والكتاب تحت عنوان: “ديفد هيوم”، دار المعارف بمصر 1958. وسأركز في تلخيصي هذا على نظرية المعرفة عند دفيد هيوم على وجه الدقة.
إن أول ما يلفت الانتباه في فلسفة هيوم المعرفية، هو حديثه عن أصل المعارف الإنسانية أو مصدر الأفكار. وهنا يقسم هيوم الإدراكات العقلية إلى قسمين:
أ- الانطباعات: وهي إدراكات أكثر وضوح وأقوى أكثر.
ب- الأفكار: وهي إدراكات أقل وضوح وأضعف أثر.
و سواء تعلق الأمر بالانطباعات أو الأفكار، فإن لهما نفس المصدر هو الخبرة الحسية، وما الاختلاف الموجود بينهما إلا في درجة الوضوح وقوة الأثر. وفي هذا السياق يقول هيوم: “وهكذا تكون كافة أفكارنا التي هي إدراكات خافتة، صورا تحاكي انطباعاتنا التي هي إدراكات ناصعة”.
هكذا فإذا شاءت الفكرة أن تكون صحيحة فإن عليها ان تقبل أن نعود بها إلى انطباعاتنا الحسية المباشرة، وما لم يقبل ذلك فهو من الأفكار التي لا يجب ان نركن إليها على أنها صواب.
ويقسم هيوم الأفكار إلى نوعين؛ بسيطة ومركبة. فأما البسيطة فهي تلك التي لا يمكن تحليلها، أما المركبة فهي ما يمكن تحليلها إلى عناصر جزئية أبسط منها. هكذا ففكرتي عن لون البرتقالة، أو طعمها، أو رائحتها مثلا، هو من الأفكار المباشرة الصادرة عن انطباعاتنا الحسية، وهذه الانطباعات الجزئية هي التي سيؤلف الذهن بينها فيما بعد ليكون فكرة البرتقالة كفكرة مركبة.
من هنا فالمبدأ الأساسي في فلسفة هيوم هو التالي: كل فكرة صحيحة ومشروعة لا بد أن تجد مصدرا لها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة.
انطلاقا من هذا المبدأ يتساءل هيوم عن مشروعية ما يسمى بالألفاظ الكلية المجردة، مثل لفظ “إنسان”. فإلى أي شيء أشير بالكلمة العامة المجردة “إنسان”؟
لقد انقسم الفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال إلى ثلاثة مذاهب رئيسية:
أ- الفلاسفة “الشيئيون” بزعامة أفلاطون:
وهم يرون أن لفظ “إنسان” يشير إلى “شيء” حقيقي قائم بذاته في عالم المثل؛ فهو فكرة عقلية مثالية ومجردة تعتبر النموذج الذي نسخ على منواله هؤلاء الأفراد الذين نراهم في هذه الدنيا.
ب- الفلاسفة “التصوريون” بزعامة أرسطو:
ويرى أصحاب هذا التصور أن اللفظ المجرد “إنسان” لا يشير إلى أي فرد من الأفراد الذين ندركهم في هذا العالم الحسي، كزيد وعمر وخالد، ولكنه يشير إلى تصور عقلي مجرد مستخلص من هؤلاء الأفراد عن طريق عمليتي التجريد والتعميم. فلفظ “إنسان” بهذا المعنى هو تصور عقلي مجرد يشير إلى كل أفراد بني الإنسان دون أن يقتصر على واحد منهم بعينه.
ج- الفلاسفة “الاسميون” وهيوم زعيم من زعمائهم:
يرى أصحاب هذا المذهب بأن المعرفة تستمد من هذا العالم التجريبي الحسي، وبأن معارفنا لا تأتي إلا فردية جزئية في أساسها. وعليه فكلمة “إنسان” لا تشير إلا إلى واحد من الأفراد الآدميين الذين أنطبع بهم، أتخذه ممثلا لسائر أشباهه؛ وبهذا يكون اللفظ الكلي “إنسان” هو كأي اسم آخر أسمي به هذا الفرد أو ذاك، ومن ثم سمي هذا الفريق “بالاسميين”.
هكذا نلاحظ أن الاسم الكلي عند هيوم هو اسم يشير إلى صورة ذهنية جزئية (أي “فكرة” باصطلاح هيوم) ناتجة عن مجموعة من الانطباعات الحسية، والانطباع في هذه الحالة لا يكون إلا لمؤثر جزئي بكامل فرديته لا تعميم فيه ولا تجريد.
من هنا فالفكرة الكلية المجردة، مثل فكرة “الإنسان”، هي فكرة منبثقة عن فرد بعينه ثم اختيرت لتمثل سائر الأفراد. وبالتالي فهذا التعميم الذي يطالها لا يضيف عناصر جديدة إلى طبيعتها.
فواضح إذن أن هيوم، وانطلاقا من نزعته التجريبية، يرجع أصل كل الأفكار، مهما بلغت من الإغراق في التجريد، إلى الخبرة الحسية، وما لا يرجع من الأفكار إليها فهي باطلة ولا أساس لها من الصحة.
ومن المبادىء الأساسية التي ترتكز عليها فلسفة هيوم هو قوله بمبدأ “ترابط الأفكار”؛ ومفاده أن أفكارنا مترابطة، بحيث أن الواحدة منها تستدعي الأخرى في نوع من الانتظام والاطراد.
يقول هيوم: “يبدو لي أن ثمة مبادىء ثلاثة فقط يجري بمقتضاها الترابط بين الأفكار وهي: التشابه، والتجاور في زمن الوقوع أو مكانه، والعلة والمعلول”. ومعنى ذلك أنه يكون بين فكرتين ترابط ، بحيث تستدعي إحداهما الأخرى ، إذا كانا متشابهتين؛ كأن تذكرك صورة فوتغرافية لزيد بصورته الواقعية التي سبق لك أن رأيتها وانطبعت بها حسيا. كما قد يذكرك مكان ما، لقاعة سينمائية مثلا، باسم مقهى معين نظرا لما بينهما من تجاور في المكان. كما ينبني الترابط بين فكرتين أيضا انطلاقا من مبدأ العلية؛ كأن يذكرني كسر بركبتي بمباراة في كرة القدم وقع لي فيها حادث كان هو السبب في ذلك الكسر، وأنا أتذكرهما متلازمين نظرا لما بينهما من علاقة العلة بالمعلول.
وانطلاقا من مبدأ التشابه، يقدم دفيد هيوم تفسيرا حسيا لمبدأ الهوية أو الذاتية. فهذا المبدأ الأخير ناجم عن مجموعة من الانطباعات الحسية المتعددة والمتشابهة بحيث يدمج بينها الذهن فيعطي انطباع على أن هذا الشيء الذي انطبعنا به لعدة مرات هو نفسه في كل مرة. ومثال ذلك أنه تحدث لنا مجموعة من الانطباعات المتتابعة في الزمن والشديدة التشابه فيما بينها عن شيء اسمه الشمس، فيعمل الخيال على دمجها وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد، لكن في الحقيقة فتلك الانطباعات مستقلة عن بعضها البعض، والتشابه الشديد بينها هو الذي يجعلنا نتوهم أنها تدل على شيء واحد هو الشمس مثلا. وهذا التوحيد لما هو متعدد في الأصل هو الذي يتولد عنه ما يسمى بمبدأ الهوية.
فلمبدأ الهوية إذن أصل حسي عند هيوم، خلافا لما ذهب إليه أنصار النزعة العقلية من أنه مبدأ فطري ومتأصل في العقل. فهذا المبدأ يفترض عند هيوم انطباعين حسيين على الأقل، يتتابعان في الزمن وفي لحظتين مختلفتين، ونظرا لتشابههما أقول عن الانطباع الثاني بأنه هو هو بعينه الانطباع الأول، ولو أنهما في الحقيقة مختلفين، فينشأ في ذهني من جراء ذلك ما يسمى بمبدأ الهوية.
وإذا كان هيوم يقدم تفسيرا تجريبيا لفكرة الهوية، فهو يفعل نفس الشيء بخصوص الأفكار المرتبطة بالذاكرة والخيال. هكذا يميز هيوم بين ثلاثة درجات في وضوح الأفكار؛ فهناك أفكار أكثر وضوح ونصاعة هي تلك الناتجة عن انطباعات حسية في لحظة وقوعها، وهناك أفكار أقل وضوح نظرا لتباعدها الزمني عن الانطباع الأولي الأصلي، بينما نجد أفكارا أخرى غامضة وخافتة نظرا لتباعدها الشديد عن الانطباع الحسي الأولي التي كانت مصدرا له. وهذا النوع الأخير من الأفكار هو الذي ننعته بالخيال، أما الأفكار من النوع الوسط فنسميها ذاكرة.
فالتمايز القائم إذن بين أفكار الذاكرة وأفكار الخيال هو متعلق فقط بدرجة الوضوح وقوته؛ ذلك أن كليهما يرتد في آخر المطاف إلى الخبرة الحسية. هكذا فمهما تخيلنا من الأفكار فإن ذلك لن ينفصل عما عشناه في الماضي من أحداث حقيقية؛ فأفكار الذاكرة تكون أكثر وضوح من أفكار الخيال التي تكون غامضة وخافتة بسبب تقادمها وابتعادها عن منشئها الأصلي المتمثل في الانطباعات الحسية.
وإذا كان هيوم يجعل الفرق بين الذاكرة والخيال في التفاوت في درجة الوضوح، فهو لا يجعل هذا التفاوت هو الأساس الوحيد للفرق بينهما، بل يقدم أساسا آخر يتمثل في كون الخيال لا يتقيد بنفس الترتيب الذي كانت الانطباعات قد جاءتنا به أول مرة، على حين تتقيد الذاكرة بذلك الترتيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق