تعتبر ظاهرة التقويم من الظواهر الأساسية التي يجب أن يعنى بها كل الفاعلين التربويين، حيث أن نتائج الاختبارات تعد من الوسائل الضرورية لتقويم العملية التعليمية ككل. ومن ثمة نتساءل : ألم يحن الوقت بعد للتفكير بصورة جدية في دوسيمولوجيا docimologie خاصة بالفلسفة ؟
نقول ذلك، لما لاحظناه على ما يشوب سلاليم التصحيح من عبارات فضفاضة، قد تجعل الإجابة الواحدة تأخذ علامات (أو نقطا) تتنوع بعدد المصححين. ومن ثمة تصبح نتائج الاختبارات رهينة الذاتية والانطباعية، بدل أن يتم الاعتماد على تقويم موضوعي يعتبر بحق شبكة تحدد بدقة الخطوات، والمهارات وعناصر الإجابة...الخ.
من المعلوم أن تقنين عملية التقويم في مادة الفلسفة، تعارضه نظرة تقليدية تسند حجتها على قناعة نظرية، ألا وهي أن الفلسفة تتسم بالتنوع والاختلاف... وهذا من الأسباب التي جعلت الفلاسفة يؤسسون فلسفات تتسم بالتميز. لكن التساؤل المطروح هنا هو: هل المطلوب من التلميذ أن ينشئ فلسفة مميزة وأصيلة ؟ أم أن المطلوب منه هو أن يوظف مكتسبات معرفية بطريقة ومنهجية أصيلة ؟ (أي منهجية تميز مادة الفلسفة عن باقي المواد التعليمية الأخرى).
هذا لنخلص إلى القول أن التفكير في إيجاد تصور مشترك حول طبيعة الإنشاء، وطبيعة مقاربة النص أضحت من الأمور التي يجب التفكير فيها بطريقة جدية، ليس لتقييم إنجازات التلاميذ فحسب، ولكن لتقييم عمل المدرسين أنفسهم. فالنتائج المحصل عليها في مادة الفلسفة - اليوم - لا تعكس، في اعتقادنا، لا عمل التلميذ ولا مجهود المدرس.
إن ما سيرد في السطور اللاحقة خطاب موجه لتلاميذ السنة النهائية من التعليم الثانوي. إلا أن هدفنا من نشره تحدوه رغبة صادقة في فتح نقاش جاد ومسؤول مع الإخوة المدرسين والمؤطرين التربويين والعاطفين على الفلسفة، من أجل توحيد التصور حول طبيعة الكتابة في مادة الفلسفة، بغية الحد من النتائج التي كثيرا ما تضر بالمجهودات التي نبذلها جميعا.
والله ولي التوفيق
يجب أن تكون الإجابة على أسئلة الامتحانات كتابة واعية نتحكم فيها ولا نتركها لعوامل خارجية أو الصدفة أو الحظ ... وهذا أمر يمكن أن نعممه على مقاربة النص والإنشاء في مادة الفلسفة. ومن ثمة كان لزاما علينا أن نقوم بالتخطيط للكتابة من خلال تقسيم الزمن المخصص للإجابة إلى فترات نمارس داخل كل واحدة منها وظيفة محددة. وبتعبير أوضح، علينا أن نمارس الإجابة من خلال جدولة زمنية، نمارس داخل كل فترة من فتراتها نشاطا معينا. وعليه، فإننا نرى أن مقاربة أي موضوع في الفلسفة يجب أن تتم من خلال أربع فترات زمنية رئيسية هي : فترة القراءة الكلية للموضوع ، فترة وضع التصميم العام للإجابة، فترة التحرير، فترة المراجعة.
ا) فترة القراءة الكلية للموضوع
هي في الواقع لحظة تأمل في الموضوع، قصد اكتشاف الأطروحة التي يعرضها، أو الإشكالية التي يريد طرحها...الخ. ومن ثم لابد أن نعيد قراءة الموضوع المرات الضرورية، وألا ننشغل أبدا بما يحدث حولنا لأنه يتصادف أحيانا أن بعض الأفراد يكتفون بقراءة أولية سريعة ويشرعون في تحرير الإجابة، فنحاول بدورنا أن نفعل مثلهم. إن العواقب التي تترتب عن مثل هذا السلوك كثيرة، أهمها عدم فهم الموضوع، وهو أمر ينجم عن الانسياق وراء كلمات من النص - مثلا - أو في أحسن الأحوال أفكار ثانوية، فينتج عن ذلك، إما الخروج عن الموضوع، وإما كتابة "موازية" للمطلوب بدل أن تكون مقاربة له.
ب) فترة وضع تصميم كلي للمقاربة:
علينا أن نحاول تحاشي الكتابة المباشرة/علينا أن نتحاشى التحرير المباشر على المسودة (ورقةالوسخ)، لأن ذلك يلزمنا القيام بعمليتين ذهنيتين : إحداهما تتجلى في استدعاء المعلومات المناسبة، والأخرى تتجلى في البحث عن التعبير المناسب لاستغلال تلك المعلومات. ويترتب عن ذلك لا محالة "قمع" كثير من الأفكار وإرجاعها إلى الذاكرة فتتعرض للنسيان. وسنضطر بالتالي إلى إنتاج مقاربات مليئة بالحشو والاستطراد. هكذا تظهر أهمية وضع تصميم شامل للمقاربة، باعتباره تفكير كلي، وتخطيط شامل للموضوع، وتحديد لأهم المراحل التي ستمر منها فترة الكتابة. كما يجنبنا التصميم الرجوع، في كل لحظة وحين، إلى معاودة قراءة الموضوع كلما أحسسنا بنضوب الأفكار في الذهن.
لقد أثبت التجربة أن كثيرا ممن يشرعون في الإجابة دون الاعتماد على تصميم قبلي، سرعان ما يلجئون إلى نقل ما كتبوه من المسودة إلى ورقة الإجابة (ورقة التحرير)، ثم التناوب على الورقتين، مما يجعل موضوعاتهم عبارة عن حشو واستطراد. فطريقة التناوب تلك قد تنفع في الإختبارات ذات الأسئلة المتفرقة وليس في المقاربات ذات الطبيعة الإنشائية.
ج) فترة التحرير :
تشمل فترة التحرير لحظتين هما : لحظة التحرير على المسودة، ونعتبرها فترة بحث عن التعبير المناسب والسليم، لبلورة التدرج الفكري المعتمد في التصميم.إلا أنها - في ذات الوقت - تفكير في إيجاد اللحمة المناسبة لتسلسل الأفكار وترتيبها المنطقي. ثم تليها لحظة النقل النهائي إلى ورقة الإجابة (ورقة التحرير)، وهي لحظة ذات أهمية كبرى لأن ورقة الإجابة، تمثل في الحقيقة "الوجه" الذي سنظهر به أمام المصحح. ومن ثمة، لابد من الإعتناء بورقة التحرير شكلا ومضمونا. لذا لا يجب أن تكون عملية النقل عملية سلبية تقوم بها الذات بطريقة ميكانيكية في غياب أي وعي. وإنما علينا استحضار قدراتنا الذهنية ونفكر فيما ننقل ونعيد صياغته عند الضرورة ونصحح الأخطاء الإملائية والنحوية.
د) فترة المراجعة :
إن مراجعة ورقة الإجابة قبل إرجاعها أمر هام يمكننا من تصحيح "أخطاء السهو"، وبالتالي إعادة كتابة بعض الكلمات بخط أوضح ومقروء. لذا يجب أن تكون هذه العملية في الربع الساعة الأخير من الزمن المخصص للإجابة.
وختاما لهذه التوجيهات نقول بأن علينا أن ندرك بأن أسئلة الاختبارات ليست أسئلة تعجيزية. فالامتحان تحضير واستعداد ذهنيين، وبالتالي استغلال مناسب للزمن المخصص للإجابة. كما أن هذه التوجيهات لا تخص مقاربة النص فقط، أو مادة الفلسفة بالتحديد، وإنما هي توجيهات يمكن أن تصدق على أية مقاربة ذات طبيعة إنشائية.
منهجية الكتابة في مادة الفلسفة
إن منهجية الكتابة في مادة الفلسفة تتجسد عمليا في مجموع الخطوات العامة التي تهيكل الموضوع، وتشكل العمود الفقري لوحدته وتماسكه. وبما أن الأسئلة تتنوع في السنة النهائية إلى أشكال ثلاثة :
-
النص الموضوع
-
القولة-السؤال
-
السؤال المفتوح
وسنحاول فيما يلي إعطاء تصور عام حول كل طريقة على حدة :
يجب اعتبار النص المادة التي سينصب عليها التفكير، لذا تجب قراءته قراءة متأنية للتمكن من وضعه (النص) في سياق موضوعات المقرر؛ وبالتالي اكتشاف أطروحة المؤلف وموقعتها داخل الإشكاليات المثارة حول قضية أو إشكاية أو مفهوم... ويجدر بنا أن نشير، في هذا المقام، إلى أن منهجية المقاربة يحددها السؤال المذيل للنص، علما بأن النصوص عادة ما تطرح في السنة النهائية للتحليل والمناقشة بالنسبة لجميع الشعب. وعليه، نرى أن منهجية مقاربة النص لا تخرج من حيث الشكل على أية كتابة إنشائية (مقدمة ـ عرض ـ خاتمة)، إلا أن لمقاربة النص الفلسفي خصوصيات تحددها طبيعة مادة الفلسفة نفسها. وسنعمل في التالي على بسط هذه منهجية هذه المقاربة على ضوء تلك الخصوصيات.
1) طبيعة المقدمة :
إن المقدمة تعتبر مدخلا للموضوع، لذا يجب أن تخلو من كل إجابة صريحة عن المطلوب، حيث يفترض ألا توحي بمضامين العرض، لأنها بهذا الشكل تمنع من استكشاف ما هو آت، وخصوصا لأن المقدمة ستكتسي شكل إجابة متسرعة.
كما أن المقدمة تعبير صريح عن قدرات وكفايات عقلية، يمكن حصرها في الفهم (الأمر يتعلق هنا بفهم النص وفهم السؤال)، وبناء الإشكالية. وعليه، يجب أن تشتمل (=المقدمة) على ثلاث لحظات أساسية يتم فيها الانتقال من العام إلى الخاص : أي من لحظة تقديم عام هدفه محاصرة الإشكالية (cerner la problématique ) التي يتموقع داخل النص، تليها لحظة التأطير الإشكالي للنص، وبالتالي موقعته (=النص) داخل الإطار الإشكالي الذي يتحدد داخله، ثم الانتهاء بلحظة ثالثة تتمثل في طرح الإشكالية من خلال تساؤلات يمكن اعتبارها تلميحا للخطوات التوجيهية التي ستقود العرض.
علما بأن طرح الإشكالية ليس مجرد صيغة تساؤلية، وإنما هو طرح للتساؤلات الضرورية والمناسبة، والتي يمكن اعتبار الكتابة اللاحقة إجابة عنها. هكذا يمكن الاقتصار (أحيانا) على تساؤلين أساسيين : تساؤل تحليلي(يوجه التحليل)، وتساؤل نقدي تقويمي (يوجه المناقشة)، علما بأن هناك أسئلة أخرى يمكن اعتبارها ضمنية نهتدي بها داخل فترات من العرض، حفاظا على الطابع الإشكالي للمقدمة.
إن المقدمة – إذن - ليست استباقا للتحليل، ذلك ما يحتم الحفاظ على طابعها الإشكالي، ومن خلال ذلك الحفاظ على خصوصية مرحلة التحليل التي يفترض أن تكون لحظة تأمل في النص، من أجل الوقوف على الطرح المعروض داخله وإبراز خصوصياته ومكوناته.
2) طبيعة العرض :
يمكن اعتبار العرض إجابة مباشرة على الإشكالية، ومن ثمة فإن العرض يتضمن لحظتين كتابيتين أساسيتين، هما لحظتا التحليل والمناقشة.
2-1 لحظة التحليل :
إن هذه المرحلة من المقاربة عبارة عن قراءة للنص من الداخل لاستكشاف مضامينه وخباياه، وبالتالي تفكيك بنيته المنطقية وتماسكه الداخليين، كأننا نحاول أن نتأمل عقلية المؤلف لفهم الأسباب التي جعلته يتبنى الطرح الذي تبناه، ويفكر بالطريقة التي فكر بها. ومن ثمة، لابد من توجيه التحليل بالأسئلة الضمنية التالية : ماذا يصنع المؤلف في هذا النص، أو ماذا يقول؟ كيف توصل إلى ذلك؟ ما هي الحجاج التي وظفها للتوصل إلى ما توصل إليه؟
فالسؤال الضمني الأول يحتم إبراز الموقف النهائي للمؤلف من الإشكالية التي عالجه و/أو إبراز طبيعة أهمية الإشكالية التي أثارها... والسؤال الضمني الثاني يدفع إلى التدرج الفكري مع المؤلف، والسير معه في أهم اللحظات الفكرية التي وجهت تفكيره. أما السؤال الضمني الأخير هو سؤال يستهدف الوقوف عند البنية الحجاجية التي تبناها المؤلف، وبالتالي الوقوف عند الحجاج الضمنية والصريحة التي وظفها لدعم أطروحته، وتحديد خصوصيتها، وطبيعتها...
فالتحليل – إذن - هو لحظة تأمل في المضامين الفكرية للنص وهو في الآن ذاته لحظة الكشف عن المنطق الذي من خلاله بنى المؤلف تصوره.
2ـ2 لحظة المناقشة :
إن المناقشة لحظة فكرية تمكن من توظيف المكتسب المعرفي، بشكل يتلاءم مع الموضوع وبطريقة مناسبة...
يجب التأكيد، في هذا المقام، على أن المعلومات المكتسبة تؤدي دورا وظيفيا ومن ثم يجب تفادي السرد والإستظهار... وبعبارة أخرى، علينا أن نستغل المعلومات الضرورية بالشكل المناسب، بحيث يصبح مضمون النص هو الذي يتحكم في المعارف وليس العكس. هكذا سنتمكن من اعتبار المناقشة شكلا من أشكال القراءة النقدية لأطروحة النص، التي تكتسي غالبا صورة نقد داخلي و/أو خارجي تتم فيه مقارنة التصور الذي يتبناه النص بأطروحات تؤيده وأخرى تعارضه، وذلك من خلال توظيف سجالي نحرص من خلاله على أن نبرز مواطن التأييد أو المعارضة.
3) طبيعة الخاتمة :
يجب أن تكون الخاتمة استنتاجا تركيبا مستلهما من العرض، أي استنتاجا يمكن من إبداء رأي شخصي من موقف المؤلف مبرر(إن اقتضى الحال) دون إسهاب أو تطويل. فمن الأهداف الأساسية التي يتوخاها تعلم الفلسفة تعلم النقد والإيمان بالاختلاف.
ونستطيع فيما يلي اختزال ما سبق في جدول يمكن الاسترشاد به من أجل بناء تصميم (هيكلة) للمقاربة الكتابية للنص:
منهجية مقاربة النص
مراحل المقاربة | الخطوات المنهجية | أهم المهارات والكفايات | ||||||||
المقدمـة | تقديم عام هدفه محاصرة الإشكالية | الفهم | ||||||||
العــرض | التحليل
المناقشة | الفهم المقارنة | ||||||||
الـخاتـمة | استنتــاج ورأي شخـصي | الاستنتاج |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق