ماذا عن احتمالات المستقبل؟ وإلى أي مدى يمكن القول بأن فكرة السيادة الوطنية بسبيلها الآن إلى التلاشي أو الانهيار في ظل أوضاع التواصل المستمر والاعتماد المتبادل المتنامي بين مختلف مناطق العالم وليس فقط بين دولة؟. يمكن الإجابة على هذا السؤال بشقيه في نقطتين: أولاهما أن الاتجاه نحو تقليص دور السيادة الوطنية في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة سيأخذ في الاطراد والتزايد علي الأقل خلال المستقبل المنظور ويعزى ذلك إلى كون أن العديد من التطورات التي سلفت الإشارة إليها لا تزال فعالة ومؤثرة في تشكيل بنية النظام الدولي في وضعه الراهن.أما النقطة الثانية التي نود الإشارة إليها هنا، وفي معرض الإجابة عن السؤال المطروح، فمؤداها أن التسليم بالاستنتاج السابق ينبغي ألا يفهم منه أن مبدأ السيادة الوطنية -وفكرة الدولة القومية من أساسها- بسبيله إلى الاختفاء، فالراجح حتى الآن هو أن التطورات الراهنة في النظام الدولي لن تأتي على المبدأ المذكور تماما فالسيادة الوطنية ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية ذاتها وتقديرنا أنه لم يجرؤ أحد حتى الآن على القول بأن هذه الدولة القومية ستنهار، بل إن العكس يبدو أنه الصحيح وأن أقصى ما يمكن لهذه التطورات الجارية في النظام الدولي المعاصر أن تفعله هو أن تنال من طبيعة الوظائف أو الأدوار التي تضطلع بها الدولة بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي. وطالما بقيت الدولة فستبقى معها رموزها الأساسية ومنها مبدأ السيادة ولكن بعد تطويعه بما يتناسب والأوضاع والظروف الدولية المستحدثة.وان كان هذا لا يمنع أن نتناول طرح المفكرين والباحثين لرؤى مستقبل السيادة الوطنية في ضوء المتغيرات الحادثة خاصة العولمة. وقد وضع الباحثون أربعة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السيادة الوطنية هي:
1- سيناريو اختفاء السيادة:
يرى أنصار السيناريو أنه كما حلت الدولة محل سلطة الإقطاع تدريجيا منذ نحو خمسة قرون، سوف تحل اليوم الشركة متعددة الجنسيات تدريجيا محل الدولة والسببان الشركات متعددة الجنسية تسعى خلال تلك المرحلة إلى إحداث تقليص تدريجي في سيادة الدول، بما يؤدي إلى اختفاء مفهوم السيادة، ثم الدولة القومية ذاتها في مرحلة لاحقة، وستكون الوظيفة الجديدة للدولة خدمة المصالح المسيطرة وهي في الأساس مصالح الشركات الدولية العملاقة.والواقع أن فكرة تلاشي سيادة الدولة، ثم اختفاء الدولة القومية في مرحلة لاحقة من الأفكار الشائعة في تاريخ تطور الفكر السياسي، حيث قالها ماركس والفوضويون ومع ذلك لم تنته السيادة ولم تتلاش الدولة القومية.
2- سيناريو استمرارية السيادة:
يرى أنصار هذا السيناريو أن التطورات الراهنة في النظام الدولي لن تأتي على السيادة تماما؛ فالسيادة الوطنية ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية ذاتها، وأقصى ما يمكن للتطورات الجارية في النظام الدولي المعاصر أن تفعله هو أن تنال من طبيعة الوظائف أو الأدوار التي تضطلع بها الدولة بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي.
3- سيناريو الحكومة العالمية:
يذهب هذا السيناريو إلى أن هناك تغييرا سيحدث في مفهوم السيادة الوطنية، حيث ستتنازل الدولة القومية عن سيادتها لصالح حكومة عالمية منبثقة من نظام عالمي ديمقراطي، حيث تغير العولمة طرح فكرة الحكومة العالمية ليس باعتبارها حلا بعيد المنال وإنما باعتبارها عملية في طور التكوين.
4- سيناريو التفكيكية:
يتوقع أنصار هذا السيناريو أن الدول القومية لن تكون قادرة على مباشرة مظاهر سيادتها على إقليمها بسبب تفككها إلى عشرات وربما إلى مئات من الدول القومية الصغيرة، تارة تحت دعوى التعبير عن هويات من حقها أن تعبر عن نفسها، وتارة أخرى تحت دعوة توطيد صلة المواطنين بالسلطة، وربما احتجاجا على تحيز النظام الدولي الجديد لجماعات دون أخرى، وعلى الرغم من تزايد الحروب الأهلية والنزعات الانفصالية؛ وهو ما يجعل حدوث هذا السيناريو محتملا، فإن ثمة تحفظات أخرى تلاحقه، فلا بد أن قوى مضادة ستعمل على مرحلة هذا السيناريو بسبب خطورته الشديدة.
خلاصــة:
نخلص إلى عدة حقائق قائمة على البحث التاريخي في تطور مفهوم السيادة، أهمها أن مبدأ السيادة دائم مستمر لا يتغير، إلا أن صورتها وحقيقتها والمسئوليات التي تنهض بها تتغير مع الزمن أو يعاد توزيعها. ولا تعني التطورات الحادثة الآن نهاية مفهوم السيادة، ولكن تعني أن السيادة قد تغير مفهومها وتم إعادة توزيعها.. فقبل الثورة الفرنسية كانت السيادة ملكا للأباطرة والملوك ثم انتزعها الثوار ومنحوها للشعب، وصاحب ذلك موجة عارمة من استغلال الشعوب اعتدادها بنفسها. أما التطورات العالمية الحالية فقد أدت إلى تدويل السيادة وتوسيع نطاقها بحيث لم تعد خاصة بالشعب والدولة وحدها ولكن يشارك فيها المجتمع الدولي ممثلا في القوى المتحكمة به.
أما ما يشار إليه في الفقه القانوني عادة بمبدأ المساواة في السيادة أو مبدأ المساواة بين الدول المستقلة ذوات السيادة، فإنما هو مبدأ نظري ويكاد يكون العمل في الغالب والواقع على غير ذلك.
ومؤدى ذلك أن السيادة ترتبط ارتباطا وثيقا من حيث طبيعتها ومدى اتساع أو ضيق نطاق تطبيقها بقدرات الدولة وإمكاناتها الذاتية، أي أن القوة -باختصار- شرط من شروط ممارسة السيادة والحفاظ عليها، وهو ما يثير في النهاية قضية العدالة الدولية على كافة الأصعدة،
احدث المواضيع
الاثنين، 23 نوفمبر 2009
السيادة الوطنية.. رؤية مستقبلية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق