احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

انقلاب في عصر العولمة والتدخل

من خلال ما سبق نستنتج أنه خلال أكثر من ثلاثة قرون تطور النظام الدولي من أجل هدف محدد هو ضمان سيادة الدولة، والذي قام على أساس أن تكتسب الدولة أهليتها من خلال السيادة بجانبيها الداخلي والخارجي. وجاءت أحداث التسعينيات لتغير النظام الدولي، بعد اتساع مدى التدخل وأسبابه خلال هذا العقد الذي شهد في النصف الأول منه أحداث ومواقف وأزمات حادة في العراق والصومال وتاهيتي ويوجوسلافيا السابقة ورواندا وليبيريا، وأما الأحداث الأخرى التي حدثت في النصف الأول فقد ارتبطت بعدد من القرارات ضد أفغانستان 1996- 1999م والسودان 1996م، ثم كوسوفو وتيمور الشرقية في1999 والبوسنة والهرسك. وتعتبر قرارات الأمم المتحدة في تلك الفترة نقطة تحول أسياسية بالنسبة لمفهوم السيادة وكيفية إدارة الأمن والسلام الدوليين. وعكس الاستخدام الجديد لصلاحيات مجلس الأمن الموجودة في الباب السابع للميثاق بدء مرحلة جديدة من الجهود لحماية البدل والمجتمع الدولي.
وبإعادة تعريف مفهوم التهديد للسلام والأمن الدوليين، وباعتبار أن الدول هي التي تكون المجتمع الدولي، أعاد مجلس الأمن صياغة المبدأ الحاكم الذي يحمي الدول والنظام الدولي الذي يعتمدون عليه، فالمبدأ القديم والمؤسس على مفهوم السيادة كان حماية الدولة ضد التدخل في شئونها الداخلية والحفاظ على النظام والاستقرار باتخاذ إجراءات لوقف العدوان الخارجي المسلح ضد الدول.
الآن تغير الحال، وتغيرت الاحتياجات وأصبح التحدي الذي يواجه السلام والأمن هو حماية النظام الدولي الذي تعتمد عليه الدول من الفوضى وعدم الاستقرار نتيجة ما قد يحدث من أحداث وقلاقل داخل بعض الدول الأخرى، الأولوية الآن هي منع الاضطرابات الداخلية في الدول من أن تنتقل عدواها إلى الجسد الدولي فتؤثر على غالبية الدول التي تعتمد عليها.
وقد تحول المجتمع الدولي عما كان يعرف في الماضي "بمجتمع الدول" Community of nations ليصير مجتمعا دوليا بالمعنى الدقيق international Community، وهو ما ترتب عليه أن إرادة هذا المجتمع لم تعد تتمثل فقط في المجموع الحسابي (الإيرادات الوحدات السياسية المكونة له) وإنما أصبحت له فوق ذلك وفي حدود معينة إرادة ذاتية مستقلة. وقد سوغ هذا التصور لبعض الباحثين القول بأن إرادة المجتمع الدولي -بهذا المعني المشار إليه ومعبرا عنه بصور شتي- أصبحت مصدرا من مصادر الالتزام في نطاق العلاقات الدولية المعاصرة. كما سوغ هذا التطور أيضا لفريق ثان من الباحثين الحديث في أن "البشرية" برمتها قد أصبحت شخصا قانونيا دوليا أو على الأقل بسبيلها لأن تكون كذلك. كما أضحى لهذا المجتمع الدولي من جهة ثالثة نظامه العام الخاص به، والذي يرتكن إلى مجموعة من القواعد القانونية الآمرة التي يحتج بها في مواجهة الكافة ولا يجوز قانونا وكمبدأ عام الاتفاق على مخالفتها.
وقد سارت التطورات العديدة التي شهدها النظام الدولي في عقوده الأخيرة في اتجاه تقليص دور السيادة الوطنية وإيلاء أهمية خاصة للعمل الجماعي في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة. وبرغم أن حق الدولة في العمل بقوانينها وحقها في أن تكون في مأمن من التدخل الخارجي لم يسلب تماما، فإن القداسة التي أحاطت بها كمظاهر أساسية لسيادة الدولة لم تعد كما كانت من قبل، وأصبح لممارسة الحقوق شروط من منظور المساءلة الدولية ليس كحقيقة واقعة ولكن من ناحية المبدأ على الأقل، لقد تم تدويل السيادة.
تدويل السيادة
واشتملت عملية تدويل السيادة على توسيع لأبعادها الخارجية فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة معينة أدت إلى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة، أهمها ألا يتسبب من جراء تلك الحقوق إحداث اضطراب في النظام العالمي. وفي كثير من الحالات التي حدث فيها ذلك، مارس مجلس الأمن السلطات المخولة له متجاوزا الحقوق التقليدية للسيادة. وأكد الإجراء العسكري الذي اتخذه حلف الناتو تجاه كوسوفو، الواقع الجديد بأنه قد أصبح ممكنا أن تقوم دولة ما بهذا العمل عندما لا تقوم الأمم المتحدة ومجلس الأمن باتخاذ الإجراءات الكافية.
ويعتبر وضع كوسوفو وتيمور الشرقية تحت السلطة الكاملة لإدارة دولية انتقالية بتكليف من الأمم المتحدة من أكبر العلامات وضوحا على وجود صورة للسيادة الدولية؛ لذلك فإن شرط الاعتراف بسلطة الدولة العليا لم يعد يرجع فقط إلى الشعب، ولكن إلى حقيقة أن الدولة ليست عنصرا للفوضى والاضطراب في المجتمع الدولي.
ويعني مفهوم تدويل السيادة وجود نظام لمساءلة الدول في حالة تعسفها الشديد في ممارسة حقوق السيادة. وقد تأكد هذا الشرط الجديد لسيادة الدولة عندما صرح السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان أنه لم يعد هناك حصانة للسيادة.
ومن جهة أخرى نجد أن كوفي أنان في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها. وبهذا الطريق يكون أنان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.
ومفهوم السيادة بهذا الشكل لا يمكن أن يستقر ويستقيم، فليس هناك ما يبرر لأي دولة، حتى لو كانت الدولة العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية (المتحدث الرسمي باسم حقوق الإنسان) أن تدعي الحق في تغيير أي نظام سياسي في أي دولة أخرى، بل ليس للأمم المتحدة نفسها مثل هذا الحق، ذلك أن القبول بهذا العمل لا يعني الحلول نفسها في تقرير مصيره والتحكم بمصالحه الخاصة، ولكنه يهدد أكثر من ذلك القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي حتى الآن وهي سيادة الدولة وحريتها. ولا يغير من هذا كون النظام المستهدف نظاما استبداديا قائما على القوة المحضة وناكرا لجميع الحقوق المعرفية والسياسية لمواطنيه.
لكن رفض التسليم لأي دولة ولأي تكتل أو تحالف دولي مهما كان نوعه ومسوغات تشكيله بالتدخل باسم المجموعة الدولية أو باسم مصالحه الخاصة لتغيير نظام سياسي استبدادي وظالم في بلد ما لا يعني في الوقت نفسه وينبغي ألا يعني القبول باستمرار مثل هذا النظام ولا يقلل من المسئولية الدولية في عدم القضاء عليه، فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى النذالة والجبن وانعدام المسئولية الجماعية على مستوى المجموعة الدولية بأكلمها.
وبالتالي فلا يوجد شيء يمكن أن يبرر اليوم استمرار نظم تجرد شعوبها من حقوقها وتسومها سوء العذاب بذريعة السيادة القومية تماما، كما أنه لا شيء يمكن أن يبرر ترك شعب يخضع للاحتلال ويجرد من حقوقه وموارده ومستقبله معا كما هو الحال في فلسطين وفي العديد من المناطق الأخرى، وأخيرا ما حدث بالعراق (في القرن الحادي والعشرين) بذريعة الأمن أو الحرب ضد الإرهاب، ففي الحالتين تقع المجموعة الدولية في ذنب الضلوع مع الظلم والتقاعس عن مد يد العون لبشر يتعرضون لأخطار محدقة.. إذن فلا يمكن لمبدأ السيادة أن يستقر إلا إذا رافقه مفهوم التضامن الإنساني الذي يحدد شروط استخدامه بحيث لا يتحول إلى أداة لإخضاع شعوب وجماعات وإذلالها وتسخيرها لخدمة أهداف خاصة، سواء أكان ذلك بالقوة المهنة أم بالتحالف والتآمر مع قوى خارجية، وهو حق يرتب على جميع الدول مشتركة واجب السعي لإنقاذ الشعوب التي اغتصبت حقوقها الأساسية المعروفة، سواء أكان ذلك من قوى داخلية أو خارجية لا فرق.
وللأسف بدلا من العمل على تطوير آليات في هذا الاتجاه على مستوى المجموعة الدولية، نجحت بعض الأطراف في بداية التسعينيات من القرن الماضي في الحصول على تصويت المنظمة الدولية على حق سمي "حق التدخل الإنساني" كان من نتيجته إجهاض مفهوم التضامن اللازم والواجب على المجموعة الدولية تجاه الشعوب المستضعفة، لصالح إضفاء المشروعية الدولية على تدخل دول المجموعة الأطلسية في المناطق والمواقع التي تجد أن لها مصلحة قومية أو إقليمية واضحة في التدخل فيها، وبحسب ما تتطلبه هذه المصالح لا ضمان حقوق الشعوب ولا حريتها وسيادتها.
والواقع أن تفاوت الدول من حيث الموارد والإمكانيات جعل بعض الباحثين يميزون بين السيادة كمفهوم قانوني بمعنى وحدة الخطاب القانوني وعمومية القاعدة القانونية الدولية بالنسبة لجميع المخاطبين بها وبدون أدنى تمييز، والسيادة كمفهوم سياسي بمعنى القدرة الفعلية أو الحقيقية للدولة على رفض الخضوع لأي سلطة أخرى غير سلطتها هي، بالضبط مثل مفهوم المواطنة في الداخل. فقد تكون الدولة مستقلة قانونا، ولكنها عاجزة عن إشباع احتياجات مواطنيها؛ وهو ما يعرضها لضغوط وتأثيرات بعض الدول الأخرى؛ الأمر الذي يجعل استقلالها منقوصا، وبالتالي تعجز عن مباشرة بعض مظاهر سيادتها. وفي ظل العولمة تخضع الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر لتأثير قوى السوق، وهذه بدورها تخضع لتأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة.
ومن بين التطورات الدولية التي صاحبت العولمة تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية وذهب البعض إلى أن النظام أحادي القطبية يؤدي إلى انتهاك سيادات الدول. وعلى سبيل المثال لم يكن من الممكن أن يحدث لسيادة العراق ما يحدث لها الآن من اتتهاكات لو استمر النظام الدولي الثنائي القطبية. ومن التغيرات الأخرى المصاحبة للعولمة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم، وأدى ذلك إلى أن أي حدث يقع في أي منطقة من العالم يكون له صداه في غيره من المناطق دونما اعتبار للحدود السياسية أو لمبدأ السيادة الإقليمية. وترتب على ذلك العديد من المظاهر السلبية تجاه سيادة الدولة، فلم تعد هناك خطوط فاصلة بين الشأنين الداخلي والخارجي وأصبحت الدولة مسئولة مسئولية دولية مباشرة ليس فقط عن أفعالها غير المشروعة التي يترتب عليها حدوث ضرر مادي للدول الأخرى أو لمواطني هذه الدول، وإنما تسأل أيضا عن أفعالها المشروعة التي تصدر عنها إعمالا لمبدأ السيادة وفي نطاقها الإقليمي التي يترتب عليها حدوث ضرر للغـير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق