احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

السيادة وفلسفة الدولة

فكرة السيادة ليست خالية تماما من أوجه الغموض والاضطراب، ويرجع هذا الغموض والاضطراب في الأغلب والأعم إلى عدم التفرقة بين السيادة والدولة ذاتها، الغموض الواقع بين ما هو قائم فعلا وبين ما يريد الناس أن يتحقق للدولة وبها. فهناك مثلا مدرسة ألمانية متطرفة في نظرتها إلى السيادة وضرورة أن توجد في صورتها الكاملة المثالية، وتهدف هذه المدرسة إلى تبرير السلطة المطلقة للدولة، كما كانت سياسة بروسيا التقليدية. ويعتبر هيجل الفيلسوف الألماني الكبير من رواد هذه المدرسة، وقد استمرت أصداء هذه المدرسة فيما بعد ووجدت لها أنصارا أقوياء في عهد النازية والفاشية.
وهناك صعوبات واضطراب في التفرقة بين النظرية القانونية في السيادة والتطبيق والواقع السياسي. فالنظرية القانونية للسيادة تضع السلطة القانونية النهائية في يد شخص محدد أو مجموعة من الأشخاص. وفي هذه الحالة فإن سلطة من يملك السيادة لا يعلي عليها وهو يمتلك السلطة والقوة لفرض الطاعة لإرادته ورغبته. ولكن المشكلة هنا هي أين يمكن أن توجد هذه السلطة النهائية؟.
وبالطبع فإنه لا توجد إجابة واحدة كافية للرد على هذا التساؤل؛ فهي تختلف في الواقع من بلد لآخر، بل إنها لا تظل ثابتة في البلد الواحد.
كما أنه يجب التفرقة بين السلطة الحقيقية ومصدر هذه السلطة؛ فهناك فرق واضح بين القول بأن الشعب هو مصدر كل السلطات، والقول بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه فعلا.
ومما لا شك فيه أن هناك علاقة وثيقة بين السيادة السياسية والسيادة القانونية، وإلى جانب السيادة القانونية والسيادة السياسية فقد توجد بعض التغيرات والمفاهيم الأخرى للسيادة مثل السيادة الشعبية Sovereigaty popular والسيادة القانونية de jure والسيادة الواقعيةde facto.
وقد ظهرت فكرة ومبدأ السيادة الشعبية في القرن السادس عشر والسابع عشر بصفة خاصة، كتعبير عن استياء الشعب ورفضه للسلطات المطلقة والظالمة للملوك واعتمادهم على نظرية الحقوق ويعطي مبدأ السيادة الشعبية، للشعب السيادة النهائية ويعتبر روسو رائد الداعين لها وقد أصبحت فيما بعد شعارا للثورة الفرنسية.
أما تعبير السيادة القانونية de jure فهي في أساسها تنبني علي القانون وهي ترتبط بحق الحكم والاستحواذ على الطاعة في المجتمع، ويستحوذ الشخص (أو مجموعة الأشخاص) الذين يمارسون السلطة من الناحية الفعلية ولو مؤقتا، على طاعة جزء كبير من الشعب يكون هو صاحب السيادة الفعلية de facto والذي قد لا يكون هو نفسه صاحب السيادة القانونية de jure، وقد يعتمد صاحب السيادة الفعلية على السلطة والسلطان المادي أو المعنوي في فرض نفوذه وحكمه.
خصائص السيادة
الاتجاه العام لكثير من الكتاب هو أن السيادة لها خمس خصائص هي أنها:
1- مطلقة: بمعنى أنه ليس هناك سلطة أو هيئة أعلى منها في الدولة فهي بذلك أعلى صفات الدولة ويكون للدولة بذلك السلطة على جميع المواطنين، ومع ذلك فإنه مما لا شك فيه توجد عوامل تؤثر على ممارسة السيادة يمكن اعتبارها، حدودا قانونية، فحتى الحاكم المطلق لا بد أن يتأثر بالظروف التي تحيط به سواء كانت هذه الظروف اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية كما يتأثر أيضا بطبيعته الإنسانية، كما يجب أن يراعى تقبل المواطنين للقوانين وإمكان إطاعتهم لها.
2- شاملة: أي أنها تطبق على جميع المواطنين في الدولة ومن يقيم في إقليمها باستثناء ما يرد في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية مثل الدبلوماسيين وموظفي المنظمات الدولية ودور السفارات. وفي نفس الوقت فإنه ليس هناك من ينافسها في الداخل في ممارسة السيادة وفرض الطاعة على المواطنين.
3- لا يمكن التنازل عنها: بمعنى أن الدولة لا تستطيع أن تتنازل عنها وإلا فقدت ذاتها، يقول روسو: "لما لم تكن السيادة سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها مما لا يمكن التنازل عنه، إن صاحب السيادة الذي ليس سوى كائن جماعي لا يمكن أن يمثله غيره؛ فالسلطة مما يمكن نقله ولكن الإرادة لا يمكن نقلها والواقع أنه إذا لم يكن من المتعذرات أن تلتقي إرادة خاصة في نقطة مع الإرادة العامة فإنه من المستحيل على الأقل أن يكون هذه الالتقاء ثابتا ومستمرا" الفصل الأول – الكتاب الثاني).
4- دائمة: بمعنى أنها تدوم بدوام قيام الدولة والعكس صحيح، والتغير في الحكومة لا يعني فقدان أو زوال السيادة؛ فالحكومات تتغير ولكن الدولة تبقى وكذلك السيادة.
5- لا تتجزأ: بمعنى أنه لا يوجد في الدولة الواحدة سوى سيادة واحدة لا يمكن تجزئتها. ويقول "روسو" إن السيادة لا تتجزأ؛ لأن الإرادة إما أن تكون عامة وإما ألا تكون كذلك، فهي إما إرادة الشعب في مجموعه وإما إرادة جزء منه فقط، وفي الحالة الأولى تكون الإرادة العامة المعلنة عملا من أعمال السيادة ولها أن تسن القوانين، وفي الحالة الثانية ليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال الإدارة ولا تكون إلا مرسوما على أكثر تقدير".
مصدر السيادة ومنطلقها
ولكي نكمل تصور مفهوم السيادة بشكلها التقليدي يجب أن نتحدث عن الأساس الذي قامت عليه السيادة؛ فالسيادة إرادة لها خاصية خاصة بها وهي أنها إرادة عليا مستقلة ولا يمكن تقييدها، إلا أنها إرادة إنسانية، فكيف يمكن تفسير أن هذه الإرادة الإنسانية تسمو على سائر الإرادات الإنسانية الأخرى، وهذا السؤال أجابت عليه النظريات المختلفة، وهي:
1- النظريات الثيوقراطية:
هي النظريات التي ترجع مصدر السيادة إلى الله، في القرن الخامس أبدعت الكنيسة تبريرا لحقها في السيطرة النظرية المعروفة باسم "نظرية الحق الإلهي" (ومذهب آباء الكنيسة) مؤادها أن الحكم لله وحده لله وأنه يختار لأدائه في الأرض من يشاء فيصبح حاكما بأمر الله. في المقابل أبدع أنصار الملوك في مواجهة الكنيسة نظرية أخرى في السيادة هي نظرية "العناية الإلهية" والتي تذهب إلى أن إرادة الله توجه شئون الناس وعقولهم وإرادتهم على وجه مباشر إلى أن تصبح السلطة في يد واحد منهم، فهو لا يكسبها بجهد ولا يستحقها لأمر خاص به ولا يتلقاها من أحد من الناس، ولا من الله أيضا، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه.
وهما نظريتان لم تكونا مقصورتين على تبرير الاستبداد بالسلطة في أوربا وحدهما، ولا هما مقصورتان على تبريره في القرون الأوربية الوسطى فقط، وإنما انتحل الخليفة المنصور العباسي (714هـ- 775) "مذهب آباء الكنيسة" حينما خطب في مكة المكرمة فقال: "أيها الناس أنا سلطان الله في أرضه" وانتحلها أباطرة الصين قديما، فكان الإمبراطور هو ابن السماء. كما انتحل معاوية بن أبي سفيان الأموي (602-680) نظرية العناية الإلهية لتبرير استبداده بالسلطة دون الخليفة المنتخب، حيث قال: "لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر (الولاية) ما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن عليه لغيره".
وفي العصر الحديث استخدم غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا "نظرية الحق الإلهي" حينما قال في عام 1910م إن الله هو الذي ولاه الملك، وفي عام 1926م حين قال إن تولية الملك حق إلهي، وسار هتلر ديكتاتور ألمانيا على النهج نفسه قبيل أن يبدأ الحرب الأوربية الثانية حين وجه الشكر إلى العناية الإلهية التي اختارته زعيما لألمانيا (28 إبريل 1939م)، وكذلك ديكتاتور أسبانيا فرانكو، حين أمر في عام 1947 بصك عملة تحمل عبارة "فرانكو القائد بعناية الله". وهناك اليوم من ينتحل سلطة الرب تحت عنوان معسكر الخير ومعسكر الشر والحرب الصليبية الجديدة.
وفي مواجهة هاتين النظريتين استمدت الثورة الفرنسية نظرية حركة التنوير في السيادة فأسندتها إلى الشعب، وصاغتها في المادة من دستور 1791 "السيادة واحدة، غير قابلة للتجزئة أو الانتقال أو الاكتساب بالتقادم وهي تخص الأمة وليس لأي جزء من الشعب أو أي فرد أن يدعي ممارستها".
2- النظــريات الديمقراطـية:
تقوم على أساس أن السيادة مصدرها الشعب وأهم النظريات الديمقراطية هي نظرية العقد الاجتماعي التي تقول بوجود حياة فطرية تسبق قيام الجماعة وأن الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة قد تم بناء على عقد اجتماعي بين الأفراد بقصد إقامة السلطة الجماعة.
3- النظرية الإسلامية:
وهي التي تجمع بين المصدر الشرعي للحق السيادي من ناحية، أي ضرورة وجود السلطة وانتظام الناس في نسق يقوم على الاختيار والبيعة وتحكيم دستور وقانون مصدرهما الكلي مبادئ الشريعة الإسلامية من ناحية، والرقابة الشعبية الصارمة وحق الناس في خلع الحاكم وتولية غيره إذا ثبت خروجه عن الشرعية.. فالنظام الإسلامي كما أسماه أبو الأعلى المودودي نظام "ثيو- ديمقراطي"، وهو ما فصل فيه بامتياز الفقيه الدستوري المعاصر البارز عبد الحميد متولي، وكتب فيه العلامة عبد الرزاق السنهوري، وأيضا فصله الأستاذ توفيق الشاوي في كتابه فقه الشورى والاستشارة، فمن أراد التفصيل فليرجع لهؤلاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق