الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
الفصل الثاني: خصائص الممارسة الاجتهادية عند الغزالي.
سوف نحاول من خلال هذا الفصل تلمس الموقف العام الذي نجده عند الغزالي من الاجتهاد كمحدد أساسي للأنا المعرفي وكممارسة تحمل في طياتها الموقف الحقيقي من الآخر،المناوئ على صعيدي المعرفة والسلوك.
وسنسعى لتحديد هذا الموقف من خلال حديثنا عن “التقليد” و”الترجيح”. ففضلا عن المكانة الهامة التي يحتلها حين الحديث عن الاجتهاد في أصول الفقه الأشعري عموما وفي المستصفى خصوصا،فإنهما يساعدان على تحقيق بعض الغرض الذي نرسمه.
1- الموقف من التقليد
يعرف الغزالي التقليد فيقول:”التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع”.(1)
إن في طيات هذا التعريف دفاع عن “العقل”وعن ممارسة النظر و الاجتهاد كفعلين عقليين. والخطاب مصاغ كذلك بشكل يفند دعاوي الحشوية والتعليمية اللذين يجعلون من التقليد وسيلة أساسية لحصول المعرفة”الحقة”،أما الاستدلال والنظر فهما فعلان محرمان لا يقودان سوى إلى الخطأ والتناقض.
لن نفهم الغزالي إذا، والحالة هذه ،إلا إذا قابلنا ما يقوله بالأطروحة الأساسية لدى الخصم الباطني القاضية بتعطيل عمل العقل وتقديم استقالته لصالح “الإلهام” و”العصمة”…وما إلى ذلك.ويورد الغزالي مجموعة من الردود والاستدلالات لإبطال دعوى الخصم حيث يذهب إلى أن التقليد هو”قبول قول بلا حجة” وحيث “لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بديل فالإتباع فيه اعتماد على الجهل “.(2) أضف إلى ذلك أن إيجاب التقليد عند الحشوية والتعليمية لا يعتمد على نظر أو دليل بل لا يبقى إلا أن يكون إيجاب التقليد عندهم بالتحكم حسب عبارة أبي حامد. ولن يكون هذا “التحكم”سوى وضع سياج مغلق أمام انطلاق العقل ومغامرته لمعانقة الخطأ والصواب ؛تلك القضية التي جند الأشاعرة طاقاتهم الفكرية للدفاع عنها. يمكن في هذا الإطار إذن، تسجيل ملاحظة أساسية وهي أن العقل الأشعري في كثير من جوانبه وفي تناوله لهذه المسألة أو تلك، يحدد بالسلب أي بمقابلته بالأفكار والدعاوي التي ينادي بها الخصم الباطني (الشيعي بالخصوص).
ومع كل ما ذكرناه، فإن دفاع الأشعرية هو دفاع عن عقل ذي طبيعة خاصة؛ ليس أبدا عقلا محضا منطقيا (بالمعنى الفلسفي) بل هو ذو خاصية وطبيعة “بيانية”(3) حيث ” الكلمة الفصل تكون للنقل وتؤول إليه. بل إن النقل هو الذي يعين للعقل ماهيته وطبيعته ويعين له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه “.(4)
إن الغزالي يدعو إلى التسلح بالعلم وممارسة النظر(بالمعنى الأشعري)، وعدم التقليد إلا بحجة ظاهرة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. والمجتهد إذا وصل في اجتهاده حول مسألة ما إلى حكم معين، فلا يجوز له أن يقلد مجتهدا آخرا مخالفا له، بل عليه أن يعمل بما غلب ظنه عليه ما لم يخالف نصا أو دليلا قاطعا. هذا بالرغم من “ضرورة الوقت” اقتضت في زمن الغزالي، أن يحكم بتنفيذ حكم المقلدين كما يصرح بذلك أبي حامد نفسه.(5)
أما العامي أو المجتهد العاجز عن الاجتهاد في مسألة ما لجهل بعلم من العلوم، لا مندوحة عنه في تحصيل الحكم، فيجوز لهما التقليد وترك الاجتهاد. بيدأنه لا يعني تقليد أي كان بل تقليد مجتهد استوفى كل شروط الاجتهاد. من هنا فإنتاج المعرفة أو إصدار الحكم، لا يخرج عن دائرة العقل كما يضبطه الخطاب الأصولي ويقنن له ثوابته وموجهاته المحورية.
وتقوم التفرقة بين العالم- المجتهد والعامي- الجاهل على أساس معرفي، ذلك أن العامي هو في منزلة العاجز عن العلم وعن الظن بنفسه، ومن ثم وجب عليه التقليد، أما المجتهد فلا يجوز له التقليد لأنه وإن كان عاجزا عن العلم فهو غير عاجز عن الحكم بظنه. فهو – أي المجتهد – قادر بنفسه على التوصل بصدد بعض المسائل إلى اليقين، وبصدد البعض الآخر إلى الظن. وظنه أولى بظن غيره، لذا لم ” يجز له اتباع ظن غيره “، كما ” لا يجب على المجتهد اتباع المجتهد “.(6)
إن الاجتهاد إذا يقوم لدى الغزالي على أساس ظني، ونتائجه نسبية. وهو ما يفسر بالذات دفاع أبي حامد عن اللاتقليد بين المجتهدين وعن شرعية الاختلاف بينهم. أما العوام من المسلمين فيجب عليهم اتباع العلماء واستفتائهم، ولا يجوز لهم الاجتهاد من غير علم ولا توفر لشرط الاجتهاد. وذلك معلوم من إجماع الصحابة؛ فقد ” كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد “.(7) وحيث أن اشتغال كل الناس بممارسة العلم والحصول على رتبة الاجتهاد هو من المحال، ومما يمكن أن تتعطل به أمور الدنيا ومعاش الناس، وجب على العوام اتباع ما يفتي به المفتي. ولا يكون ذلك تقليدا لأن التقليد قبول قول بلا حجة، وليس كذلك اتباع المفتي فإنه مما انعقد الإجماع عليه بالحجة والدليل. وهكذا يميز الغزالي بين التقليد والاستفتاء؛ فالأول يقوم على الجهل واللاحجة، بينما الثاني فهو كخبر الواحد لا يعدم أن يكون مستندا إما على أدلة سمعية أو عقلية.
وإذا كان على العوام اتباع العالم المفتي، فلا يكون ذلك إلا حينما يتأكدون من حسن خلقه وتمام علمه، فالعلم والعدالة شرطان أساسيان لقبول الفتوى من المفتي. وهذا ما أثبتناه أيضا عند حديثنا عن شروط الاجتهاد؛ إذ لاحظنا اقتران الأساس المعرفي بالأساس الأخلاقي أثناء التنظير والتشريع للممارسة الاجتهادية، وهو ما يستدعي في نظرنا ضرورة البحث عن مكانة الأخلاق وعن العلاقة بين الأخلاقي والمعرفي داخل المنظومة الفكرية الأشعرية.
2- الأدلة والترجيح:
بخصوص مراتب الأدلة بالنسبة للمجتهد، يجعل الغزالي الإجماع في المرتبة الأولى؛ فهو أول شيء يجب أن ينظر فيه المجتهد لأنه لا يقبل النسخ بينما الكتاب والسنة يقبلانه. فهو بهذا المعنى ” دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ “.(8) هكذا نلمس الحضور القوي لفكرة الإجماع أثناء فعل الاجتهاد، وهو الحضور الذي يتأسس على ما يسميه الجابري ب “سلطة السلف” الذي هو ” سلطة جميع العصور السابقة، سلطة الماضي “العادة”…”.(9) أما في المرتبة الثانية فنجد الكتاب والسنة المتواترة معا، ذلك أن كل منهما يفيد العلم القاطع. وفي المرتبة الثالثة عمومات الكتاب وظواهره. ثم أخيرا نجد أخبار الآحاد والأقيسة، وهو ما ينعته أبو حامد بمخصصات العموم.
هكذا فالعقل الأصولي الأشعري، كما نجده لدى الغزالي، يستند على العموم ويحكم به ما لم تأت حالة من الحالات فتعمل على تخصيصه. كما أنه يستند على “الظاهر” ما لم ينتف فيلجأ بعدها إلى “الباطن”‘ باطن النص عبر العملية التأويلية التي تخضع لشروط وضوابط الفكر الأشعري.
وفي الأحوال كلها نجد أن الإجماع ” هو الذي يؤسس “الخبر” متواترا كان أو غير متواتر. فهو –أي الإجماع- يمنح خبر التواتر إيجاب العلم والعمل، كما يمنح خبر الآحاد سلطة إيجاب العمل به…”.(10) ويستند الغزالي على الإجماع في تأكيد وجوب الترجيح بين الظنين، فلا يجوز التوقف أو التخيير مع وجود إمكانية الترجيح بينهما. وهكذا فقد عمد السلف الصالح إلى الترجيح بأن قدموا ” بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم “.(11) ويسوق الغزالي على ذلك أمثلة كثيرة؛ منها تقديمهم خبر أزواج النبي على غيرهن من النساء، وتقوية أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، وغير ذلك من الأمثلة.
والترجيح لا يكون بين نصين قاطعين بل يكون بين نصين ظنيين. فالظنيات تتفاوت فيما بينها من حيث الضعف والقوة، أما القطعيات فلا ترجيح كما لا تعارض بينها وإنما يقدم بعضها عن الآخر بالنسخ، فيكون المتأخر منها ناسخا للمتقدم.
وفي حالة الجهل بالتاريخ يصبح صدق الراوي مظنونا حينما يتعلق الأمر بأخبار الآحاد، فيقدم ” الأقوى في نفوسنا ” ، أما إذا تعلق الأمر بالقواطع و ” أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما “.(12) من هنا فالتعارض بين خبرين قاطعين محال، لأن التعارض يعني التناقض فلابد أن يكون أحدهما كاذبا. وحيث الكذب محال في الخبر القاطع، فالتعارض لا يمكن أن يكون إلا فيما هو ظني أو من الظنيات. وفي حالة التعارض يستحيل الجمع بين الحكمين، فلا بد من:
- أن يكون أحدهما كاذبا.
- أو أن يكون أحدهما ناسخا للآخر.
- أو أن يجمع بينهما القرآن على حالتين بأن يوجب مثلا الصلاة في حالة القدرة ولا يوجبها في حالة العجز.
ويؤكد الغزالي أنه إذا تعارض دليلان وكان الترجيح بينهما صعبا، لزم التباحث والتناظر بشكل حثيث حتى الوصول إلى الترجيح. وإذا كان هذا الأخير ميؤوسا منه مع كثرة المباحثة اختار المجتهد الدليل الذي شاء، ” فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة “.(13)
والترجيح عند الغزالي، فيما يخص تعارض خبرين أو أكثر، يستند على معايير ترجع إما إلى المتن والسند أو إلى أمور خارجة عنهما. أما تلك التي تتعلق بالمتن والسند فيحصرها أبو حامد في سبعة عشر، نذكر منها:
- أن يكون الراوي معروفا باليقظة وقلة الغلط.
- أن يكون الخبر منسوبا نصا وقولا، فذلك أقوى.
- أن يكون الراوي صاحب الواقعة التي بموجبها يتم الترجيح.
- أن يكون الخبر مطابقا لعمل أهل المدينة.
وفيما يتعلق بكثرة الرواة فإنها تقوي الظن وتبعث على الترجيح، وإن كان بالإمكان أن يكون الراوي الواحد أكثر تيقظا وضبطا من الرواة الكثر، فذلك متروك أمره إلى غلبة الظن عند المجتهد.
أما فيما يتعلق بالأمور الخارجة عن المتن والسند، والتي يعتمد عليها في الترجيح بين خبرين، فيجعلها الغزالي خمسة، نسوقها كما يلي:
أ- أن يحسن ” كيفية استعمال الخبر في محل الخبر؛ كقوله لا نكاح إلا بولي مع قوله الأيم أحق بنفسها من وليها، لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الإذن لا في العقد “(14) وإن كان اللفظ يعمهما معا.
ب- أن يكون أحد الخبرين يمس أحد الصحابة بسوء، فيكون ذلك مدعاة لضعفه مما يلزم إبعاده وترجيح الخبر الثاني.
ج- أن يكون ” أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه “(15)، فيكون الأول أضعف والثاني مرجح الأخذ به.
د- أن يكون أحد الخبرين منصبا حول الحكم المتنازع فيه والآخر أبعد عن ذلك بقليل أو كثير، فيكون الأول أقوى.
ه- وأخيرا، يتم ترجيح الخبر الذي يحوز إثباتات أكثر وأقوى، إثباتات يؤكدها الواقع وتدعمها التجربة.
هكذا نجد لدى الغزالي تأكيدا واضحا على ضرورة الترجيح بل ووجوبه عند تعارض الأدلة، ولا يمتنع عنه إلا بعد بذل أقصى الجهود للوصول إلى ذلك. أما حينما يتعذر الترجيح لدى المجتهد بعد استفراغ الجهد، فيلزمه اللجوء إلى التخيير والعمل بأي الدليلين شاء.
ومن هنا فالعقل الأصولي ينتهي إلى تقديم “استقالته” لصالح النقل؛ فهو إذ يلجأ إلى التخيير فإنما يتساوى عنده الخبران المتعارضان فيقضي بتجويز أحدهما على الآخر، وهو ” إذ ينتهي إلى إعلان فتح باب الاحتمال والتجويز، متى تعارض دليلان أو أكثر واستفرغ المجتهد وسعه وما قصر، فهو إنما يفعل ذلك لكي ينهي الرحلة كلها ويقفل الدائرة، دائرة النظر التشريعي، بالرجوع إلى عين النتيجة التي قررها المتكلم في رحلته الأولى أي الرجوع إلى النقل مصدرا والسمع طريقا “.(16)
تلك كانت النتيجة المعرفية التي انتهينا إليها من خلال رصد أهم المعطيات المتعلقة بالترجيح الخاص بالعلل، وإن كنا نرى أن الفعل المعرفي في كليهما هو نفسه، يفضي إلى نفس الخلاصات الإيبستمولوجية؛ تلك المتعلقة أساسا بمسيرة العقل الأصولي وآليات عمله حيال ما يرد عليه من معارف وأخبار نقلية.
يحدد الغزالي العوامل التي من أجلها تقدم علة على أخرى في خمسة عناصر، يمكن تلخيصها في ثلاثة رئيسية:
أ- ما يرجع إلى الأصل.
ب- ما يرجع إلى العلة نفسها.
ج- ما يرجع إلى الطريق الذي تثبت به العلة، كالنص أو الإجماع أو الأمارة.
وهذه العناصر جميعها يقسمها الغزالي إلى قسمين رئيسيين:
أ- ما يرجع إلى قوة الأصل.
ب- ما لا يرجع إلى قوة الأصل.
بخصوص القسم الثاني، المتعلق بالترجيح الذي لا يرجع إلى الأصل، نجد أبا حامد يحصره في قرابة عشرين وجه يرجع أغلبها إما إلا العلة ذاتها وإما إلى أمور خارجة عنها. فأما التي ترجع إلى العلة نفسها فكأن تكون لازمة فترجح على التي تختفي في بعض الأحوال، أو تكون موجبة لحكم وزيادة فترجح على التي لا زيادة فيها، أو تكون موجبة لحكم أخف فترجح على التي توجب حكما شاقا أو العكس…الخ،وأغلبها يعلق عليها الغزالي بأنها ترجيحات ضعيفة.(17)وأما التي ترجع إلى أمور خارجة عن العلة فأهمها الترجيحات الأربعة التالية:
- قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون، فيعتبر والحالة هذه موجبا للترجيح عند من لا يرى ذلك إجماعا. أما من يرى ذلك إجماعا فيسقط الترجيح، لأن الإجماع ملزم للقطع ولا ترجيح في القطعيات. أما إذا لم يكن قول الصحابي قد انتشر فهو موجب للترجيح عند البعض وغير ملزم عند البعض الآخر.
- الترجيح العائد إلى العلم بوجود العلة، ” فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة “(18).والغزالي يقرن هنا بين العلم و الظن ويسوي بينهما ولا غرابة في ذلك ،إذ أن الترجيح في جوهره فعل ظني/ تقريبي.
- الشبه الواقع بين حكم العلة وحكم موجود في الأصل، فإنه يصلح لترجيح العلة الأكثر شبها للأصل عن تلك البعيدة عنه.ومفهوم الشبه هذا يذكرنا بالاستدلال بالمثل ،ذلك الذي نجده عند المتكلم الأشعري. وهو ما يؤكد المبدأ المعروف عند الأصوليين،أعني مبدأ إجراء الأصل في الفروع.
- الترجيح اعتمادا على الموافقة مع الخبر المرسل أو مع خبر قال به بعض العلماء. ويشترط فيه أن لا يكون قاطعا بل أن يكون مما يجوز الاجتهاد فيه.
أما القسم الأول،المتعلق بالترجيح الذي يرجع إلى قوة الأصل، فيؤكد فيه الغزالي على ثابت أساسي لدى العقل الأصولي وهو الذي سبقت الإشارة إليه من حيث أن الترجيح لا يكون في القطعيات بل في الظنيات،وبموجبه يشير الغزالي إلى أن الترجيح يكون هنا بين علتين مظنونتين وليس بين أصلين معلومين.
وما يرجع إلى الأصل من الترجيح الخاص بالعلل،يمكن تلخيص مختلف المعايير التي يستند عليها من خلال المفاضلة الحاصلة بين حدي الأزواج التالية:
- الضرورة والنظر. - الناسخ والمنسوخ. - الخبر والقياس.
- التواتر والآحاد. - العام والخاص. - المتفق والمختلف.
- الكثرة والقلة. - الظاهر و الباطن. - النقل و العقل.
وهكذا إذا شئنا التفضيل قلنا : إن العقل الأصولي وهو يخوض “مغامرة” الترجيح يجد نفسه أمام مجموعة من المصادر المتعارضة التي يكشف عن نفسه من خلال تفضيله لإحداها على الأخرى. وهو ما يجعل هذا التفضيل أو الميل ذا دلالة ابستيمولوجية قصوى، من حيث هو يرسم للعقل حدوده ويبين عن مصادر المعرفة التي يستقي منها مبادئه.
وإذا كان الكلام هو أحد المصادر الأساسية التي يقوم عليها علم أصول الفقه،بالإضافة- إلى اللغة والفقه،وهو ما يجمع الأصوليين جميعا – أشعرية وغيرهم- على القول به، فإن حضور الأسس و المبادئ التي تقررت في علم الكلام- وهو العلم الكلي من العلوم الدينية كما يقول الغزالي نفسه –(19) هو حضور قوي. مما يجعلنا نستخلص مع الأستاذ بنسعيد ب”أن العقل في أصول الفقه لا يزال يحضر و يفعل على غرار ما فعله في أصول الدين وحضر به : فحضوره حضور رديف للنقل ومتأخر عنه، وما قام به من تأجيل لقواعد وتأسيس لمبادئ كلية هو”يجريه” في الفرع “.(20) يتضح ذلك في تقديم الغزالي للعلة الثابتة بعلم ضروري على تلك التي تثبت عن طريق النظر والاستدلال،وهو الأمر الذي تقرر في الكلام قبلا؛ ذلك أن العلم الضروري موجب للتكفير بينما العلم النظري غير موجب لذلك (وإن كان موجبا للإثم). ثم عن الخبر المتواتر أقوى من خبر الآحاد،” فإن العمل بخبر واحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي‘ والآخر (الخبر المتواتر) حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة”.(21)
أما باقي الترجيحات، فنجد الأصل الذي لا يقبل النسخ مقدما على الأصل الذي يحتمله، والعام الذي لا يقبل التخصيص مقدما على العام الذي يدخله التخصيص، كما أن كثرة الرواة موجبة للترجيح على قلتهم لمن يظن ذلك. وإذا كان الخطاب ظاهرا /صريحا كان أولى الأخذ به من الخطاب الذي يحتاج في إثباته إلى دليل، والذي اتفق على تعليله يقدم على ما لم يتفق على تعليله بأن تطرق إليه الاختلاف.أضف إلى ذلك أن الخبر يقدم على القياس على الخبر، وهو ما يفضي في كل الأحوال إلى نتيجة حتمية هي تقديم النقل أو ما يقوم مقامه على العقل وإمكانياته الذاتية.
إن هذه الأسبقية تجعل العقل يقضي بما أقره النص وأثبته ولو على الظاهر، كما أنه –أي العقل- يتكيف مع معطيات النقل ويجيز كل ما أتى به. بل إن العلة ذاتها لا تثبت إلا عن طريق السمع، فهي لا تعدو أن تكون أمارة نصبها الله علامة على الحكم؛ فهي غير موجبة في ذاتها ما دامت أفعال الله غير معللة ولا يجب عليه شيء. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: ” أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها، فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها، إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل؛ فليس إيجابها لذاتها “.(22)
وإذا كانت العلة علامة، فهي ” غير مصرح بها. بل إنما يلتمسها المستدل فيما قد يكون هناك من أمارات يعتقد أن الشارع أناط الحكم بها “، ومن ثم ف” التعليل في الفقه … إنما يقوم على الجواز لا على الوجوب. وبالتالي فوظيفته لا تتعدى المقاربة “.(23) والمقاربة إذا كانت تعني شيئا، فإنما تعني إمكانية الاختلاف في التعليل مادامت الأمارة رمز قد يفسر بهذه الكيفية أو تلك. وقد نلمس هذه الإمكانية أيضا في زوج “المتفق والمختلف” الذي أشرنا إليه سابقا حين حديثنا عن الترجيح الذي يرجع إلى الأصل، ذلك أن العقل الأصولي وإن كان يميل إلى “الاتفاق” والمتفق فيه ويرجحه فهو يبقي على إمكانية للاختلاف والمختلف فيه.
إن مقاربة الأصولي تقوم على منطق خاص تنتفي فيه الضرورة المنطقية (بالمعنى الفلسفي)، فيبقى المجال واسعا أمام الترجيح والتجويز، مما يجعل ” التعليل، عند الأصولي الأشعري، هو في عمقه قول بالتجويز. والقول بأن الأخذ بالترجيح، حين تكافؤ دليلين، إنما هو قول بالتجويز (جواز كل منهما) “.(24) وهو ما يجعل هذا المبدأ، مبدأ الجواز أو التجويز، المبدأ الرئيس داخل النظام المعرفي الذي يتحرك داخله العقل الأصولي الأشعري عامة والعقل الأصولي لدى الغزالي بصفة خاصة.
هوامش الفصل الثاني: حدأحد
1- الغزالي؛ المستصفى، الجزء الثاني، ص 387.
2- نفس المصدر والصفحة.
3- بالمعنى الذي استخدمه الجابري في ” نقد العقل العربي “.
4- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1992. ص148.
5- الغزالي؛ المستصفى ،ج2، صص 383-384.
6- نفسه، ص385.
7- نفسه، ص 389.
8- نفسه، ص 392.
9- محمد عابد الجابري؛ بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986،ص 132.
10- نفسه، صص 123-124.
11- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 394.
12- نفسه، صص 393-394.
13- نفسه، ص 371.
14- نفسه، ص 397.
15- نفس المصدر والصفحة.
16- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… نفس المعطيات السابقة.
17- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 406.
18- نفسه، صص 400-401.
19- نفسه، ص 5.
20- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري، نفس المعطيات السابقة، ص 172.
21- الغزالي؛ المستصفى… ص 399.
22- نفسه، ص 280.
23- الجابري؛ بنية العقل العربي… ص 173.
24- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… ص 319.
خاتمة:
خلال تناولنا لأهم الموضوعات التي يتمحور حولها الحديث عن الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي، قمنا بعمل مزدوج هو ذلك الذي أبنا عنه في مقدمة هذه الدراسة، ويتعلق الأمر أساسا بمهمتين رئيسيتين:
· أولا: التركيز الشديد والدقيق على النص، باعتباره شكل الأرضية التي اشتغلنا عليها وانطلقنا منها. وهكذا تجنبنا كل قراءة خارجية أو تأويل ينوب عنا في قراءة النص، وقمنا فقط بإجراء بعض المفاهيم والمبادىء من خلال الفحص عن فعاليتها داخل تضاعيف النص وعباراته.
· ثانيا: حاولنا، في حدود معينة، القيام بالمقاربة الإيبستمولوجية التي توخينا من خلالها الكشف عن طبيعة العقل الأصولي، على الأقل في تناولنا لموضوع الاجتهاد، فعثرنا بالفعل على مبادئ محددة تؤسس للعقل فعله المعرفي وترسم له آفاقه واستشرافاته.
ويجدر بنا في هذه الخاتمة أن نلم الشتات، ونقوم بتلخيص مركز لتلك المبادئ والسمات العامة المميزة للعقل الأصولي عند الغزالي أثناء تناوله لمبحث له أهميته داخل أصول الفقه الأشعري، وهو المتعلق بالاجتهاد وعمل المجتهدين.
وسنسوق أهم تلك المبادئ والمحددات دون التفصيل فيها مادام قد تكفل العرض الذي قمنا به بتبيانها والبرهنة عليها في الكثير من المواضع. ويمكن تقديمها كما يلي:
1- حضور اللغة كسلطة معرفية قوية في عمل الأصولي/المجتهد. وهو ما يجعل عمل العقل ينطلق من اللفظ إلى المعنى وليس العكس.
2- صعوبة الفصل بين المعرفي والأخلاقي عند المجتهد؛ حيث نجد أن للفعل الأخلاقي ثقله وحضوره القوي كشرط من شروط ممارسة الاجتهاد.
3- حضور النص كسلطة معرفية أساسية، ذلك أن عمل المجتهد ينصب على النص ويتم بتوجيه منه.
4- يكون العقل في تناوله للعديد من المسائل تابعا للنقل ورديفا له.
5- الإجماع والخبر من أهم المصادر التي يرتكز عليها عمل المجتهد.
6- عمل المجتهد ينشد في آخر المطاف الدلالة الشرعية، وليس أبدا الدلالة العقلية المطلقة.
7- وهو ما يجعل النتائج التي يصل إليها يغلب عليها الطابع الظني.
8- كما يعبر الترجيح والاختيار –اللذان ينتهي إليهما المجتهد عند تعارض الأدلة- على انتفاء الحتمية والضرورة (بالمعنى المنطقي) في الاجتهاد، وميل العقل إلى الترجيح والتجويز.
9- ومبدأ التجويز/الجواز ينتج عنه مبدأ التبرير حينما يتعلق الأمر بالتشريع والتدبير للعمل والواقع، لاسيما حينما يعمل المجتهد على التركيز على مفاهيم من مثل “المصلحة” و”ضرورة الوقت” وغيرهما. وهو الأمر الذي يفسر‘ في نظرنا، حضور الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في تفكير الغزالي حتى في الأمور الأكثر “فقهية”. ولا غرابة في ذلك، فالغزالي نفسه يجعل الفقيه عالما ” بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات… وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة “.(1)
10- إن الغزالي المتكلم كان حاضرا في أصول الفقه؛ يفسر ذلك حضور الكثير من المبادئ والكليات التي تقررت في علم الكلام أثناء مزاولة العمل الفقهي الأصولي، وفد أشرنا إلى بعضها في مواضع من هذه الدراسة.
11- ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن الكثير من المبادئ التي يصدر عنها عقل المجتهد والعديد من القضايا التي يدافع عنها، يمكن تحديدها بالسلب وذلك من خلال مقابلتها بما يصدر عنه “الآخر” ويدافع عنه؛ والمتمثل أساسا في الخصم الباطني من جهة، والمعتزلي من جهة أخرى.
هوامش الخاتمة:
1- أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، دار المعرفة، د.ت، بيروت، الجزء الأول، صص
17-19.
قائمة المراجع:
- ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثالث، دار الفكر، بيروت.
- بنسعيد سعيد العلوي، الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي.
- الجابري محمد عابد، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986.
- الغزالي أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، دار الفكر.
- الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
- الغزالي: دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط
سلسلة ندوات ومناظرات رقم 9،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق