عبد الحي أزرقان*
لاشك أن العنوان الذي اخترناه لهذه المداخلة يثير تساؤلا أساسيا. إنه يفيد البحث في عملية التأسيس وبالضبط في شكلها المتعدد. وحينما نقول إن العنوان يثير تساؤلا فذلك لا يرجع إلى كون الموضوع المطروح هنا يقر بتأسيس متعدد في الوقت الذي عودتنا فيه الفلسفة على ربط التأسيس بالوحدة والواحد، وإنما يرجع إلى كون الموضوع الذي نطرحه يقر بمسألة التأسيس ذاتها عند فيلسوف اهتم بالاختلاف. ونحن نعلم أن الفلسفة المعاصرة المتمثلة في الاختلاف تقوم على مفاهيم مغايرة، إن لم نقل مناهضة ومناهضة لمفهوم التأسيس. إنها تستند إلى الهدم والتفكيك واللاتأسيس (Défondation-déstruction-déconstruction) كيف يمكن الحديث عن التأسيس عند دولوز إذن؟ هل ظلت فلسفته بعيدة عن هذه المفاهيم المذكورة أعلاه والتي تحتل مكانة رئيسية في فلسفة الاختلاف؟ ثم بأي معنى يمكن الحديث عن التأسيس في فلسفة دولوز أو انطلاقا من فلسفة دولوز؟.
* نعتقد أن مسألة التأسيس واردة بشكل واضح في فلسفة دولوز، وأن ما يميزه بالضبط عن باقي فلاسفة الاختلاف، وبالخصوص عن هيدجر، هو منحاه نحو إمكانية التأسيس، وربما نحو ضرورة التأسيس، ولكن انطلاقا من مبادئ تتناقض بشكل كلي مع فلسفة الهوية وتسمح للاختلاف بأن يكون المبدأ الأول.
لا ندعي طبعا الدفاع عن هذه الفكرة انطلاقا من كل كتابات دولوز. إننا سنقتصر على نصوص معدودة جدا وهي الاختلاف والتكرار والريزوم وحوارات.
كما لا ندعي أن هذه الكتابات تطرح مسألة التأسيس بطريقة واحدة. سنحاول أن نبين كيف ينتقد فيلسوفنا فكرة الأساس في الكتاب الأول وكيف يذهب في المقال الثاني إلى محاولة التأسيس انطلاقا من الفلسفة الجديدة أي فلسفة الاختلاف. وإذا أشرنا أعلاه إلى وجود فرق بين دولوز وفلاسفة الاختلاف فذلك لأن دولوز، في نظرنا، لا يبعد الفلسفة عن المسألة الإيتيقية والسياسية كما هو الشأن مثلا بالنسبة لهيدجر، هذا بالإضافة إلى أن الاهتمام بالتأسيس عنده لا ينفصل عن الاهتمام بالديمقراطية كإطار وكفضاء لممارسة الاختلاف أو لتحقيق الاختلاف. فبقدر ما يؤكد هيدجر على عدم اقتناعه بانسجام الديمقراطية كنظام سياسي مع عصر التقنية (Réponses et questions P:42)، بقدر ما يميل دولوز إلى اعتبار الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع. (Qu’est-ce que la philosophie? Instituts et institutions/ introduction).
سنتابع موضوع التأسيس عند دولوز في كتابه الاختلاف والتكرار لننتقل فيما بعد إلى النص المنشور كمقدمة لكتابه Mille plateaux بعد أن تم نشره كمقال مستقل.
لا يتحدث دولوز بشكل مباشر عن التأسيس في الاختلاف والتكرار. إنه يثير بالأحرى مسألة الأساس في إطار تناوله للطرح القديم للاختلاف، وبالضبط للطرح الذي يربطه دائما بالهوية وبالمتطابق (Identité-le même) أي بفلسفة التمثيل (la représentation). ولا يتناول مفهوم الأساس بشكل مباشر إلا في خاتمة الكتاب. ما علاقة الأساس بالهوية أو المتطابق؟ أو ما علاقته بالتمثيل؟
لا يخفى على المهتمين بتاريخ الفلسفة المكانة التي يحتلها كل من النموذج والكل والواحد والمتطابق والهوهو والمتساوي في الفكر الفلسفي. غالبا ما يخصص الفيلسوف جزء هاما من كتاباته لقديم تصوره لهذه المفاهيم، أو لأحدها، باعتبارها الموضوع الحق للفلسفة. وإذا كان الفيلسوف يبتدئ بهذا العمل فذلك لأن صياغة معرفة بصدد هذا الموضوع تكون مسألة أساسية لضمان منطلق للمعرفة والفعل معا. وهذا هو معنى إيجاد أساس. لا يفيد الأمر طبعا بالنسبة للفيلسوف أن يقوم بمجرد افتراض. إنه مقتنع (ويسعى إلى إقناع الآخرين بذلك) بأن الأساس هو بالضبط، بالنسبة إليه وللآخرين، بالنسبة لعصره ولعصر غيره، ذلك الموضوع الذي كشف عنه وحدد مميزاته التي تأتي الهوية والوحدة والتساوي والتطابق في مقدمتها.
وبعد صياغة الفيلسوف لمعرفة إيجابية ووضعية بصدد الأساس، تصبح معرفة المواضيع الأخرى ممكنة وسهلة في الوقت ذاته. تكون المقاييس آن ذلك واضحة. فالمواضيع المراد معرفتها ستقاس على الواحد والمتطابق. وإذا كانت مخالفة له فإن محمولاتها ستكون متعارضة مع محمولات الواحد، كما أن الأحكام التي ستصدر بصددها ستكون قائمة على التماثل، أي تعمل على تحديد درجة مماثلتها للأساس.
هكذا سميت المعرفة المقدمة بصدد الأساس وبصدد المواضيع التي تقاس على الأساس بالمعرفة التمثيلية. إنها معرفة تتجاوز التقديم، ويرفض أصحابها أن تكون مجرد تقديم، لأنها ستكون بذلك مجرد معرفة تجريبية. إنها معرفة تمثيلية لأنها تسعى إلى تمثيل الأساس، أي إلى أن تتمتع بالخصائص المذكورة أعلاه والتي يتمتع بها الأساس. فتحل بذلك محله ويصبح الحصول عليها بمثابة الحصول على الأساس ذاته. إنها معرفة تقرب الموضوع الذي تهتم به من الأساس بدل أن تقدمه هو في حد ذاته، مما يجعلها تعمد في تحديدها لموضوعها إلى ما يوحده بالأساس أو ما يبعده عنه، أي أنها تركز على مدى تمثيل الموضوع للأساس.
يتضح معنى الأساس أكثر في خاتمة كتاب الاختلاف والتكرار حيث يحدد دولوز ثلاث معاني أخذها المفهوم عبر تاريخ الفلسفة. يقول: "إن الأساس هو عملية اللوغوس أو السبب الكافي، ويأخذ من حيث هو كذلك ثلاث معاني. إن الأساس في معناه الأول هو المتطابق أو الهوهو. إنه يتمتع بالهوية الأسمى تلك التي يفترض أنها تنتمي إلى المثال. (...) ولا يتحدد الأساس بتاتا، في معنى ثاني، بعد تشييد عالم التمثيل، من طرف الهوهو. حيث يصبح الهوهو خاصية داخلية للتمثيل ذاته، كما يصبح التشابه هو علاقته الخارجية مع الشيء.(...) ينبغي أن يفعل الآن الأساس داخل التمثيل من أجل تمديد حدوده إلى اللامتناهي في الصغر وكذلك إلى اللامتناهي في الكبر. تنفذ هذه العملية بواسطة منهج يضمن واحدية المركز بالنسبة لجميع المراكز الممكنة والمتناهية للتمثيل، كما تضمن التقاء كل وجهات النظر المتناهية للتمثيل، وتعبر هذه العملية عن السبب الكافي. ليس هذا الأخير بالهوية ولكنه وسيلة كي نُخْضِعَ للهوهو وللمقتضيات الأخرى للتمثيل ما كان ينفلت منهم من الاختلاف بالمعنى الأول(...) ويتحد المعنيان الإثنان للأساس مع ذلك في معنى ثالث. التأسيس هو فعلا دائما طي وثني وإعادة ثني، أي تنظيم نظام الفصول والسنوات والأيام... التأسيس بهذا المعنى الثالث هو تمثيل الحاضر، أي إحضار الحاضر وتمريره في التمثيل "المتناهي أو اللامتناهي". ولتلخيص المعاني الثلاثة السابقة يقول دولوز "إن التأسيس هو دائما تأسيس التمثيل"(1). (الاختلاف والتكرار 51-50-349)
يتضح من خلال تحديد دولوز للأساس أن هذا الأخير مقرون بفلسفة الهوية، وأن عملية التأسيس لا تنفصل عن فكر الهوية والمركز الواحد. كل فكر وكل ممارسة يقومان على مبدإ الأساس سيعطيان الأولية لسيادة الواحد ولسيادة الهوية، ويكونان بذلك فكرا أو ممارسة قائمين على النفي والإقصاء. لا مجال داخل هذا النوع من الفكر والممارسة للبناء خارج النفي وبالضبط نفي كل ما هو مختلف. وحينما يتم تحديد هذا الأخير فإنه لا يتحدد إلا انطلاقا من علاقته بالهوهو. كما أن نشاط ما هو مختلف ينحصر دائما في خدمة ما هو متطابق، ونشاط المتطابق لا يخرج عن إطار إخضاع كل ما هو مختلف لرغباته وحاجياته وأهوائه، ولم لا لاسيتهاماته
هكذا نجد دولوز يفصح عن رفضه لمفهوم الأساس كمبدإ موجه للفكر وللممارسة. والسبب واضح طبعا، إنه يتنافى في نظره مع المبدإ الحق السائد وسط الموجودات. "لا يسمح العود الأبدي، يقول دولوز، بأي تشييد للتأسيس والأساس –Fondation-fondement-، إنه على العكس من ذلك يحطم ويبدد كل أساس ويكون عبارة عن هيئة تقيم اختلافا بين الأصلي والمشتق، بين الشيء والأشباح. إنه يضعنا أمام غياب شمولي للأساس (l’effendement universel). وينبغي أن نفهم من غياب الأساس تلك الحرية المستغنية عن الوساطة، حرية الأساس، ذاك الاكتشاف للأساس وراء أي أساس آخر، تلك العلاقة بين ما لا أساس له وغير المؤسس (le sans fond et le non-fondé)، هذا الانعكاس المباشر لما يرفض الصورة وللصورة العليا التي تشكل العود الأدبي"(2) ص92.
كيف يمكن الحديث إذن عن تأسيس متعدد في فلسفة دولوز إذا كان هذا الأخير يربط الأساس والتأسيس بفلسفة الهوية، ويربط فلسفة الاختلاف بغياب الأساس؟ ثم ألسنا هنا أمام إعادة فكر هيدجر مادام أن كاتب الوجود والزمان هو صاحب هذه الإشكالية: التأسيس واللاتأسيس؟ التأسيس بالنسبة لفلسفة الهوية والميتافيزيقا، واللاتأسيس بالنسبة لفلسفة الاختلاف؟
نعتقد أن أصالة فكر دولوز تكمن بالضبط في انتهائه إلى إمكانية التأسيس، وربما إلى ضرورة التأسيس رغم انتقاده لمسألة الأساس ورغم ربطه لهذا الأخير بفلسفة الهوية، مما يجعل فكره يختلف في نظرنا عن فكر هيدجر، ويبتعد عنه، رغم التقارب الذي يبدو بينهما فيما يخص إشكالية التأسيس واللاتأسيس. لنحاول توضيح الفكرة الثانية قبل التعرض للفكرة الأولى لأن تبيان الفرق بين دولوز وهيدجر بصدد مسألة الأساس سيساعدنا على ضبط النقطة الأولى وعلى تطويرها.
صحيح أنه من الصعب ألا يقيم قارئ دولوز وهيدجر علاقة بينهما فيما يخص هذه المسألة حينما يقرأ مثلا عند الأول "إن الوجود هو الذي يشكل الاختلاف بالمعنى الذي يفيد بأنه يقال عن الاختلاف"(3) (صD.R57) أو حينما يقرأ "إن الاختلاف وراء كل شيء ولكن لا يوجد أي شيء وراء الاختلاف"(4) (صD.R80). لابد وأن يذكرنا هذين القولين بتأكيد هيدجر على كون الوجود فعلا أساس الموجودات ولكنه أساس بدون عمق وبدون أساس، وكذلك بتأكيده على كون الوجود لا يتحدد إيجابيا ولا سلبيا لأنه سيكون بذلك عبارة عن موجود، أنه يظل دائما شيئا آخر بالنسبة للموجود، ويعطيه بعدا آخر غير الأبعاد التي يتمتع بها في لحظة تحديده يتمتع الوجود بالنسبة لهيدجر بالاختلاف في داخله، وذلك الاختلاف هو الذي يسمح له بأن يكون متجاوزا لما نحدده فيه ويتستر بالنسبة لما يظهر ومنسحبا بالنسبة لما هو حاضر. ثم كيف لا يمكن استحضار هيدجر حينما يعمد دولوز إلى تحديد معاني الأساس والتأسيس؟ على الأقل حينما يقر بوجود معاني ثلاثة لهذا المفهوم أي العدد ذاته الذي يحدد فيه هيدجر معنى الأساس والتأسيس؟
يعطي هيدجر بدوره المعاني الثلاثة الآتية للتأسيس: 1- أسّس بمعنى نصّب وشَيَّد. 2- أسّس بمعنى أخذ قاعدة وتأسيس. 3- أسّس بمعنى منح أساسا و"عَلَّلَ"(1) هذا مع العلم أن معنى التأسيس لا ينحصر في هذه المعاني الثلاث حتى وإن تم التركيز عليها لوحدها حيث يقول هيدجر قبل ذكرها ما يلي: "نسمي العلاقة التي تجمع منذ البداية الحرية والأساس، الحرية والسبب، فعلا "التأسيس"، تمنح الحرية في فعل التأسيس هذا هي ذاتها وتأخذ أساسا. غير أن فعل التأسيس هذا الذي يتجذر في التعالي بتفرع إلى تحولات متعددة. ثلاثة منها تأتي على الشكل الآتي"(5). [التشديد من عند الكاتب].
إن أفضل وسيلة ينبغي الاعتماد عليها للمقارنة بين دولوز وهيدجر بصدد مسألة التأسيس هي التركيز على الهاجس الذي يحمله كلاهما أثناء تناوله لهذا الموضوع. فإذا كان الفرق واضحا فيما يخص المنطلق فإنه من الصعب أن يكون هناك التقاء في الطرح أو في النتائج. لنحدد إذن هدف هيدجر من طرحه لمسألة التأسيس.
أولا: لأنها توضح بشكل كبير تناوله للوجود وتحديده لمعناه. إذا كان هيدجر يجمع بين التأسيس واللاتأسيس فذلك لأنه يريد فعلا الحفاظ على الوجود [الأساس] لكي لا يختزل الفكر في الموجودات وحدها، والسقوط من ثم في النظرة التقنية التي تساوي في نهاية المطاف فكرة الضبط التام والسيطرة والسيادة. لا يمكن أن يكون الأساس إذن منحصرا في الموجودات. كل من حاول الاهتمام بالموضوع فعليه أن يتجاوز الموجودات نحو أساس آخر، أعمق وأشمل، ألا وهو الوجود. غير أن التوجه نحو الوجود في عملية التأسيس يبين أنه لا يعمل على التأسيس بقدر ما يفعل عبر اللاتأسيس. لا ينبغي فهم علمه هذا على الطريقة الهيجلية ومنحه قوة سلبية وإرادة وعقلانية يكون شغلها الشاغل هو الهدم والتحطيم والاحتواء.. يفيد اللاتأسيس هنا مرة أخرى الطعن في فكرة السيطرة والسيادة التامتين. يساهم الوجود في اللاتأسيس لأنه يبين من حي لآخر خطأ الفكرة السابق، حيث يسحب الأسس التي تم وضعها رغم كل ما تتمتع به من قوة. ولا يفيد سحب الأسس دائما زوالها. وقد يفيد فقط انحصارها في عصر معين، أو في مجال معين كما قد يعني انحطاطها وتقهقرها بشكل تام. هذه هي الفكرة التي يلخصها فاتيمو Vatimo حينما يقول: "تفيد العلاقة الخاصة بين التأسيس واللاتأسيس التي نجدها في الوجود والزمان أن البحث عن معنى الوجود لا يمكنه في نهاية المطاف أن تحتل مكانة "قوية"، وإنما تفيد فقط منح اعتبار للعدمية كحركية يدور الإنسان، الدازاين، عبرها بعيدا عن المركز نحو س(6).
ثانيا: لقد تناول هيدجر مسألة الأساس لانتقاد النظرة الميتافيزيقية للكائن الإنساني، أو الانتقاد الميتافيزيقا المتمثلة في فلسفة الذات. لهذا وقع اختياره على المعاني الثلاث السالفة الذكر، إذ أنها ترتبط كلها بالكائن الإنساني.
يحاول هيدجر في إطار هذه النقطة أن يبين كون التأسيس مرتبطا ارتباطا وثيقا بالكائن الإنساني، بحيث يمكن أن نتجرأ على القول: إن التأسيس يدخل في إطار البنيات الوجودية للدازاين، مادام أن المعنى الأول للتأسيس يفيد التنصيب ووضع مشروع لهذا يقول هيدجر: "إذا كانت هذه الطرق في التأسيس تنتمي إلى التعالي، فواضح إذن أن أسماء مثل "نصب" أو "أخذ قاعدة" لا يمكنها أن تأخذ معنى وجوديا عاديا، إذ ينبغي منحها معني ترانسندتاليا"(7) 144.
يذهب هيدجر إذن بعيدا فيما يخص الإقرار بالحرية الإنسانية. لا تؤسس هذه الأخيرة في مجال بعينه، أو في لحظة بعينها، أو في مرحلة دون أخرى، أي فقط حينما تقرر ذلك وتأخذ المبادرة. إنها تؤسس دائما وباستمرار في مختلف مجالات حياتها. غير أن الإقرار بهذه الحقيقة لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى النظر إلى الحرية على أنها سيدة ذاتها وحاكمة نفسها ومحيطها. يعترف هيدجر للحرية بوجودها عند أصل كل تأسيس، ولكنه يفعل ذلك ليثبت في الوقت ذاته ما يسميه بتناهي الكائن الإنساني. فكون الإنسان موجود في العالم يُغْنِي بدون شك وجوده فيما يخص إمكانياته، ولكنه يعمل في الوقت ذاته على التقليص من إمكانياته. "يكون مشروع الإمكانات، بفضل ما يشكل وجوده الرئيسي، كل مرة أكثر غنى من الامتلاك الموجود سلفا عند ذلك الذي يشرع. ولكن إذا كان هذا النوع من الامتلاك ينتمي إلى الوجود الإنساني، فذلك لأن هذا الأخير يشعر، أثناء تخطيطه لمشروعه، بأنه وسط الموجود. ونظرا لهذا الأمر ذاته، اعتبارا لوجوده الخاص الفعلي فقط، تسحب منه بعض الإمكانيات الأخرى... يعمل التعالي كتنامي وكحرمان في آن واحد. أن يكون مشروع العالم، في الوقت الذي يفيد فيه دائما التنامي، لا يحصل على قوة ولا يصبح امتلاكا إلا عبر الحرمان، معناه أن هناك "شهادة" ترنسندنتالية على التناهي الذي هو خاص بحرية الوجود الإنساني"(8) [التشديد من عند الكاتب Questions I p:147].
ولعل تأكيد هيدجر على الحرمان من الإمكانيات وعلى انسحابها هو الذي يجعل اعتباره للحرية كأساس للأساس يبتعد عن فكرة إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض كما يقول هونري بيرو(9). ويجعلها تقوض فلسفة الذات. إذا كانت الحرية هي أساس الأساس ولكنها لا تستطيع مع ذلك التحكم فيما تؤسسه، وإذا كانت تتعرض للحرمان فالأمر راجع إلى الوجود. هناك دائما بعد ينفلت [ينسحب] من عملية التأسيس التي تقوم بها الحرية ويساهم في اللاتأسيس لأن هذا الانفلات يفعل فعله، وما يجعل منه انفلاتا هو بالضبط دوره الفعال في عملية التأسيس، فعالية تؤدي إلى زعزعة التأسيس وإلى سحبه. ليس هذا البعد شيئا آخر عُبِر الوجود. هذا هو ما يفسر ابتداء هيدجر في طرحه لمسألة الأساس بربطها بالوجود والحقيقة وانتهائه إلى الموضوع نفسه في ذات الوقت.
لقد اهتم هيدجر إذن بمسألة الأساس لإعطاء معنى جديد للوجود وبالضبط لجعل هذا الأخير يعرف الاختلاف في الوقت الذي يبدو فيه متطابقا. هناك اختلاف أنطولوجي يمنع الهوية من أن تتحقق كهوية تامة. إذا كان الوجود يجمع بين الهوية والاختلاف فإنه يجمع بذلك بين الحضور والانسحاب، وبين الظهور والتستر، ومن ثم فإنه يجمع في الوقت ذاته بين التأسيس واللاتأسيس. إن اهتمام هيدجر بالتأسيس إذن كان فرصة بالنسبة إليه لدعم فكرة قوية في فلسفته هي فكرة الانسحاب والتستر المرتبطين بالوجود أو اللذين يفرضهما الوجود على الموجودات.
أما حينما ننتقل إلى دولوز فإننا نلاحظ أن انتقاده للأساس يأتي دائما من كون هذا الأخير ينطوي على فكرة المركز ويتوخى منه ربط الفكر والفعل الإنسانيين بالمركز وتوجيههما نحو المركز. وحينما يقول دولوز باللاأساس فإنه يقصد فقط إبعاد هذا التصور الذي يرتب كل شيء وفق الواحد أو المتطابق أو المركز. كما أن اللاأساس أو غياب الأساس يكون من فعل العود الأبدي، أو بالأحرى يكشف عنه، حينما يبين لنا أن القوة التي ينطوي عليها التكرار، وتفعل في ظله، لا علاقة لها بأساس ثابت، لأنها تتدفق في الحقيقة من عمق كائنات لا تتوقف عن التعبير عن ذاتها.
إن انشغال دولوز بالأساس واللاأساس يهدف على عكس انشغال هيدجر إلى تحرير الموجودات من الوجود وإلى جعل الاختلاف مصدر إثبات الموجودات لذاتها، والتعبير عن نفسها، بدلا من أن يكون قوة حاجبة. لدي رغبة في قول ما يلي: إذا كان الأساس يرتبط عند هيدجر بفعل الوجود فإنه يرتبط عند دولوز بفعل الموجودات، وذلك لأن الوجود عند الأول اختلاف بينما يقال عند الثاني بصدد الاختلاف وحده. هذا ما يعبر عنه دولوز حينما يقول: "هل يكفي أن نقيم تعارضا بين المتطابق والهوهو لكي نفكر في الاختلاف الأصلي وننتزعه من الوساطات؟ (...) يعطي هيدجر إشراقا جديدا لتواطؤ الوجود. ولكن هل ينجز التحول الذي ينبغي أن يقال وفقه الوجود المتواطئ عن الاختلاف فقط، والإلمام من ثم بالموجود وحده؟ هل يتصور الموجود بالطريقة التي تجعل هذا الأخير ينفلت حقا من كل تبعية تجاه هوية التمثيل؟ لا يبدو ذلك إذا أمعنا النظر في نقده للعود الأبدي النيتشوي"(10). (صD.R91) التشديد من عند الكاتب.
ننتقل الآن بعد هذا التوضيح الخاص بالفرق الكائن بين دولوز وهيدجر فيما يخص تصورهما للتأسيس إلى الجواب عن السؤال المطروح أعلاه: كيف يمكن الحديث عن التأسيس عند دولوز بعدما تبين لنا رفضه للأساس؟
نعتمد هنا على مجموعة من النقاط ذات أهمية متفاوتة ولكنها تبين كلها حضور مسألة التأسيس في فلسفة دولوز.
نستخلص أولى هذه النقاط من نص سبق الاستشهاد به أعلاه "لا يسمح العود الأبدي بأي إقامة للتأسيس والأساس: إنه على العكس من ذلك يحطم ويبدد كل أساس يكون عبارة عن هيئة قد تقيم اختلافا بين الأصلي والمشتق، بين السيء والأشباخ"(11) (صD.R92).
إن الأساس الذي يحطمه العود الأبدي هو الأساس الذي يحافظ على الأصل كمقياس وكنموذج. هذا بالإضافة إلى أن الحديث هنا يتم في مستوى أول، مستوى ما يسميه دولوز بالعماء (Le chaos) إنه يفضل الحديث عن المستوى العمائي بدلا من المستوى الأنطولوجي. إن الأساس مرفوض إذن في مستوى محدد هو مستوى العماء.
أما النقطة الثانية فإنها تكمن في حديث دولوز عن مجموعة من الأفكار ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند وصفه للشبح في مقابل مقولات التمثيل. إنها أفكار تتنافى مع مفهوم الأساس كما حددناه قبل قليل، ولكنها لا تتنافى مع عملية التأسيس التي تأتي في المستوى اللاحق لمستوى العماء. أفكار تبين بدورها المكانة التي يوليها للموجودات في عملية التأسيس، وهي العمق الذي تنتظم فيه القوى الحادة المشكلة ثم السلسلات المتباينة التي تشكلها، ثم الإصرار على ما يسميه بـ"الرائد المعتم" (Le précurseur sombre) الذي يجعلها تتواصل فيما بينها، وأخيرا المزاوجات التي تحدث بين الموجودات وبين قواها، وكذلك الحركات الناتجة عنها بالقوة(12) (ص356 انظر D.R وكذلك ص342 وص70).
وتتعلق النقطة الثالثة بتأكيد دولوز على مسألة الإثبات بدلا من النفي. تعمل الموجودات على مستوى العماء على إثبات ذاتها كموجودات مختلفة. لا وجود لقوة وسطها تختزل فعلها في نفي هذه الاختلافات. يكون النفي حصيلة الاصطدامات بين القوى التي تسعى إلى إثبات ذاتها ولا وجود لنفي آخر غيره.
لهذا فالعدم لا وجود له في الأصل على مستوى الاختلاف. يأتي العدم في مستوى ثاني، وبذلك فهو لا يستحق تسمية العدم أو اللاوجود (nom être). "الإثبات أسبق، إنه يثبت الاختلاف والمسافة(...) ليس الإثبات هو أن نحمل، وإنما هو العكس تماما، أي نزل الثقل والتخفيف. إنه ليس بالسلب الذي ينتج شبحا من الإثبات كمادة بديلة، فهو بدوره ظل ولكن بمعنى النتيجة(13) (D.R ص77). إن الإثبات الذي يتم تصوره بهذا الشكل يتنافى فعلا مع الأساس الذي يسعى إلى السير بالاختلاف نحو المتطابق، ولكنه لا يتنافى في نظرنا مع التأسيس.
تبين كل هذه النقاط وجود فوضى على مستوى العماء، أي يبين غياب الأساس، ولكنها لا ضرورة الإبقاء على الفوضى أي لا تبين رفض التأسيس. يطور دولوز مسألة الاختلاف والإثبات في كتابه الاختلاف والتكرار بالاعتماد على فلسفة نيتشه، ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى تغييب مفكر آخر انشغل به وتأثر به فيما يخص مسألة الإثبات. إنه سبينوزا. لقد اهتم دولوز كثيرا بميتافيزيقا سبينوزا على العموم وبفلسفته الخاصة بالقانون الطبيعي حيث تحتل الرغبة والقوة مكانة هامة فيما يخص الإثبات. ولقد كان هدف سبينوزا من التشديد على الرغبة والقوة في نسج العلاقات الاجتماعية هو بالدرجة الأولى التوصل إلى طريقة جديدة في التشريع، ولم يكن بتاتا هدفه هو رفض التشريع.
وإذا كان دولوز لا يرفض التأسيس فإنه يضع شروطا للتأسيس الجديد، شروط تحافظ على الاختلاف كتعددية. ويتضح هذا الأمر في نظرنا في مقالة الريزوم. لقد قام بابتكار هذا المفهوم بالدرجة الأولى من أجل تحديد إمكانات وشروط التأسيس بالنسبة لفلسفة الاختلاف. إنه يتناول في هذا المقال مبادئ فلسفة الهوية وهي: مبدأ الترابط والتباين ثم مبدأ التعددية (وليس المتعدد) وأخيرا مبدأ القطيعة العديمة المعنى(14) (صMille plateaux 16) أي أن حدوث قطيعة في وسط معين لا يعني أن الاستمرارية ينبغي أن تحافظ على المعنى السائد أو الاتجاه السائد. إنها تأخذ المعنى الذي ينشأ مع حدوثها، ولا تجعل بالضرورة معنى سابقا.
تسير هذه المبادئ الأربعة في اتجاه واحد هو الطعن في المركز والسعي نحو فرض اللامركزية. إنها الوسيلة الوحيدة للسماح للجزئي بإثبات ذاته كجزئي والانتظام وفق مقاوماته ومقتضياته، وفق قوته ورغبته. ولعل ما يؤكد هذه الفكرة بشكل قوي هو إبدال دولوز هذه المرة للوجود est بالرابطة et بدلا من إثارة الموجود كما لاحظنا سابقا.
تأخذ عملية التأسيس إذن طابعا متعددا عند دولوز لأن فكره المتناول لهذه المسألة ينتقد بشدة مفاهيم فلسفة الهوية لما يترتب عن تلك المفاهيم من تراتبية وتبعية على مستوى التنظيم، ليضع في الوقت ذاته مفاهيم تجعل التنظيم يتم بطريقة أفقية على اعتبار أن المستوى الأفقي هو أنجع وسيلة لمسايرة الغنى والصخب الملازمين للاختلاف، وعلى اعتبار أنه أكثر تناسبا كوسيلة للتعامل مع الصراعات الحقيقية، بدل التصدي للتناقضات المفتعلة المنسوبة دائما لطبيعة الواحد والمركز.
وهذا ما يقصده دولوز بإحلال الجغرافيا محل التاريخ. الأولى وحدها تناسب المستوى الأفقي وتسمح بإقامته، أما الثاني فإنه لا يتمكن من التخلص بشكل كلي من المستوى العمودي سواء أخذنا به في شكل خطي أو دائري أو حقبي. الجغرافيا وحدها تسمح بالتأسيس انطلاقا من الرابطة وet، أما التاريخ فإنه يظل رهينا دائما بفعل الوجود est. ذلك لأن الرابطة وet تسمح في عملية التأسيس للعناصر المترابطة بالفعل انطلاقا عن قواها المندفقة منها بينما لا يستمر فعل الوجود est على جعلها تكتفي بتلقي ما يوزعه عليها من قوة لتوظفها في محاكاته والتشبه به. بمعنى آخر لا يمكن للوجود أن يتخلص من السيادة حتى وإن كان يزعزعها لأن قوة الوجود هي قوة لا تنفصل عن السلطة. تتم زعزعة السيادة انطلاقا من قوى متباينة ومختلفة قائمة داخل الوسط الذي ستسود فيه وليس انطلاقا من سلطة أو سلطات أخرى تعمل على مواجهتها. هذا هو مغزى الجذر المتقطع في نظرنا وهذا هو معنى التأسيس المتعدد الذي اخترناه كعنوان لمداخلتنا.
الهوامش
1) جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ص51-50-349.
2) المرجع نفسه، ص92.
3) المرجع نفسه، ص57.
4) المرجع نفسه، ص80.
5) المرجع نفسه، ص144.
6) Watimo, vers une autologie du declui, in revue Critique, jan. Fev. 1985, p. 94.
7) هيدجر Questions I، ص144.
8) المرجع نفسه، ص147.
9) H. Brault, Heidegger : Une experience de pensée, éd. Gallimard, p. 429.
10) جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ص91.
11) المرجع نفسه، ص92.
12) المرجع نفسه، ص356، وص342، وص70.
13) المرجع نفسه، ص13.
14) جيل دولوز وفليكس غاتاري، Mille plateaux، ص16.
* ) أستاذ الفلسفة – كلية الآداب – فاس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق