أحمد العلمي*
لقد اهتم جيل دولوز بالفيلسوف ابن سينا، فما هي الأسباب التي حددت هذا التوجه؟ وكيف يمكن لفيلسوف عاش في القرون الماضية، وينتمي إلى حضارة مغايرة أن يستقطب اهتمام فيلسوف معاصر كجيل دولوز؟ ما عسى فلسفة الشيخ الرئيس، ابن سينا، أن تفيدنا وهي الفلسفة التي خاضت في إشكالات لم تعد هي إشكالاتنا؟.
* يتعلق الأمر في هذا البحث بدراسة طريقة دولوز في قراءة فلسفة الشيخ الرئيس، وتتبع الإشكالات التي أثارت اهتمامه. ويتعلق الأمر كذلك بمعرفة ما إذا كانت طريقة دولوز في التحليل تنساق ومنوال تاريخ الفلسفة أم أنها سطرت لنفسها مسارا آخر، مسارا قادرا على بناء حقول فلسفية بين دولوز وابن سينا يتعذر إدراك ما يتم وما يحدث فيها، يعطي للفلسفة السينوية بعدا خلاقا قادرا على امتلاك الراهنية بين الفلسفات المعاصرة. ويتعلق الأمر في الأخير بمعرفة كيف يمكن للطريقة الدولوزية أن تكون نافعة ومفيدة للفكر العربي المعاصر في محاولاته -منذ أكثر من قرن- إحداث قناطر وجسور مع الفكر العربي الكلاسيكي.
لم يكتب دولوز الشيء الكثير عن الفلسفة العربية، ولم يخصص سوى نصين لابن سينا، النص الأول موجود في كتاب منطق المعنى(1)، والنص الثاني، أكثر اقتضايا، موجود في كتاب اسبينوزا وفلسفة التعبير(2). بينما يتضمن كتاب حوارات(3) إشارة تفصح عن تمجيد دولوز للشيخ الرئيس.
وفي كتاب اسبينوزا وفلسفة التعبير، يشير دولوز إلى ابن سينا في إطار حديثه عن الماهية والوجود عند اسبينوزا. وقد تناول هذا الأخير هذه المسألة عندما تطرق لمعضلة الأحوال المتناهية. فلكل حال ماهية تترتب عن الله، الجوهر الفرد، فالله، حسب اسبينوزا، هو العلة الفاعلة لكل حال. وليس الله علةً فاعلةً لوجود الأشياء فحسب، بل هو كذلك علة لماهياتها. "فعندما يبين اسبينوزا أن ماهية حال لا تفيد الوجود، فإنه بالتأكيد يريد أن يقول أولا إن الماهية ليست علة وجود الحال. لكنه يريد أن يقول كذلك إن الماهية ليست علة وجودها الخاص"(4). لابد من الإشارة إلى أن إضافة الوجود إلى الماهية هاته، التي ورثها سبينوزا عن دان سكوت Duns Scot وابن سينا، تقابل في آن واحد التوجه الأرسطي والأفلاطوني. وهي، أولاً، تختلف عن التوجه الأرسطي، لأن هذا الأخير يوحد الوجود والجوهر، وحدة تترتب عنها فلسفة الحكم؛ وهي، ثانيا، تختلف عن الفلسفة الأفلاطونية، التي كانت بالتأكيد تميز الماهية عن الوجد، لكنها تجعل من هذا التمييز انفصالا يفيد تعاليا حقيقيا. فالماهية تتعالى عن الوجود الفعلي والحقيقي لشيء ما. إن عالم المثل يجمع الماهيات الخالصة والكامنة، في حين يكتفي عالم الحس باحتضان الموجودات المنحطة وغير قابلة للضبط والنظام. هناك إذن في هذه الإشكالية الوجود والماهية -كما هي مطروحة عن ابن سينا ودان سكوت واسبينوزا-، تجاوزٌ فعليٌ للأفلاطونية وللأرسطية. ومن جهة أخرى لا تعني هذه الإشكالية أن الأحوال المتناهية عند اسبينوزا هي عبارة عن أشياء ممكنة وجائزة تحت رحمة إرادة إلهية مطلقة عمياء تفعل ما تشاء. لا يتعلق الأمر بإعادة إنتاج أحكام الدين المسبقة التي تطمح إلى إخضاع وجود الأشياء إلى قوة إله متعال. فالأحوال المتناهية عند اسبينوزا تتمتع بالوجوب والضرورة. والأمر الذي يؤسس ويبني هذا الوجوب، هو استحالة تصور فرق واقعي بين الوجود والماهية. "لا يعني هذا بتاتا أن هناك فرقا واقعيا بين الماهية ووجودها الخاص؛ فالفرق بين الماهية والوجود مؤسس تأسيسا عندما يفترض للماهية علة تكون هي ذاتها متميزة. وعند ذاك توجد الماهية بالضرورة، لكنها توجد بفضل علتها (وليس بفضل ذاتها). نتعرف هنا على مبدإ لأطروحة شهيرة لدان سكوت ولأطروحة، تعود، إلى أقدم من ذلك، لابن سينا: فالوجود يلازم الماهية لزوما ضروريا، لكن بفعل علة هاته؛ إنه إذن ليس محتوى أو متضمنا في الماهية؛ إنه زائد عليها. ولا يكون زائدا عليها مثل فعل متميز تمييزا واقعيا، وإنما كمثل تحديد نهائي يترتب عن علة الماهية. وبكلمة واحدة، للماهية الوجود الذي تستحقه بفضل علتها(5).
يتعلق المشكل الذي يجمع اسبينوزا ودان سكوت وابن سينا بوجوب الماهيات المتناهية، أو بالممكنات، حسب تعبير الشيخ الرئيس. كيف يمكن الجمع بين زيادة الوجود على الماهية ووجوب العالم. فإذا كان الكون مركبا من الموجودات التي يكون وجودها زائدا على ماهياتها، فكيف يمكنها ألا تكون مجرد إمكانات بدون وجوب وضرورة؟ غير أن المشكل يحيل بشكل أعمق على إشكال أونطولوجي ومنطقي. وبالفعل فقد اضطر ابن سينا، في مواجهة هذه المعضلة، إلى إبداع صنف جديد من العلة. لقد اعتادت الفلسفة قبل ابن سينا أن تميز بين صنفين من الموجودات. تلك التي تتمتع بالوجوب، الله؛ وتلك التي تكتفي بالإمكان، المخلوقات. ويظل كل صنف مطابقا لنفسه لا مغيِّر لحكمه. وافتراض قلب للحقائق أمر مستحيل حسب كل المتكلمين ورجال الدين، بل ومجمل الفلاسفة. إذ كيف يمكن للوجوب أن يصبح ممكنا أو العكس؟ هكذا يبدو الممكن والواجب كعالمين متناقضين ومتقابلين. فحضور الطرف الأول رفع للطرف الثاني. يناسب هذا التصور الفكر الديني بكل تنوعاته، إذ غايته الأولى والأخيرة هي الحفاظ على الواجب الخالق لكل شيء، إذ أن تطابقا كل عالم مع نفسه هو الذي يحفظ تعالي الخالق وسموه. والواقع أن في عمق هذا التصور يكمن منطق ثنائي صارخ، منطقٌ لا يستطيع أن يتصور إلا صنفين من العلل: العلة الواجبة، والعلة الممكنة اللذان يطابقان نوعين من الوجودات، الوجود الواجب والوجود الممكن، هكذا ينتهي هذا المنطق إلى إقامة هوة سحيقة بين الوجودين.
سيواجه ابن سينا هذه الهوة الأونطولوجية في مجمل فلسفته، فإذا كان العالم يتكون من موجودات ممكنة، فإن هاته الأخيرة تتمتع بوجوب ما، لا يعني هذا أن الممكن من حيث هو ممكن يصبح واجبا من حيث استقباله لفعل علة واجبة. فالممكن في ذاته يصبح واجبا بفضل علته، هناك إذن منزلة بين المنزلتين، حالة وسطية بين الوجوب في الذات والإمكان في الذات، وهي حالة الممكن في نفسه والواجب بغيره، واجب الوجود. فلا يلحق الوجوب الممكن إلا من الخارج، من العلة الواجبة. وهكذا تصبح الثنائية العلية المعتادة ثالوثا عليا، بل، وكذلك، ثالوثا منطقيا وأونطولوجيا. الواجب في ذاته، والممكن في ذاته، والممكن في ذاته والواجب من طرف غيره، من العلة الواجبة. فمن وجهة نظر الأرسطية، يطيح هذا الثالوث بمبدإ اللاتناقض. وبالفعل، فقد انتقد ابن رشد، وهو "الأرسطي الوفي"، هذه الحالة المستهجنة بين الممكن والواجب(6). غير أن الأمر ليس كذلك، إذ ليس الممكن من حيث هو ممكن هو الذي يصبح واجبا. فمن حيث هو ممكن يظل دائما ممكنا، أي أنه ينفر من الوجوب. وإذا أصبح واجبا فلأنه يستقبل فعل وأثر علة واجبة. إذن يصبح الممكن واجبا، لا من حيث هو ممكن، وإنما من حيث كونه يستقبل فعل علة واجبة.
وبالجملة، فبفضل هذا التصور الجديد استطاع ابن سينا تفادي مخاطر الفرق الواقعي بين الماهية والوجود، وإبداع مجال لاأفلاطوني ولاأرسطي. فإذا كان حقيقة أن وجود الممكن زائد على ماهيته، وإذا كان حقيقة أن كل ما عدا واجب الوجود يحتوي في أحضانه، منذ الأزل، على طبيعة جائزة وممكنة لن يستطيع تغييرها، فإن كل ماهية تتمتع بالوجود الذي تستحق بفضل الوجود الواجب الذي يلزمها. حقيقة أن الوجود يلحق الماهية كعرض خارجي، لكنه يعرض بشكل واجب وضروري. وكي نتكلم كالشيخ الرئيس، فالوجود يلازم الماهية.
إن الأمر الذي أثار إعجاب دولوز في مسألة الماهية والوجود، هو أولاً وقبل كل شيء قلب الأفلاطونية وتجاوز الأرسطية اللذان تحققا من طرف كل من الشيخ الرئيس ودان سكوت واسبينوزا. ونحن نجد عندهم جميعا إِبداعا خلاقا لمجال أونطولوجي خارج الأفلاطونية والأرسطية. حقيقة أن هناك تمييزا بين الماهية والوجود، لكن هناك كذلك لزوما. غير أن الأمر الذي أثار اهتمام دولوز كذلك في هذه الإشكالية، هو إبداع هذا الممكن بالذات والواجب بالغير، هذا التوسط، وهذا "البين-بين" هو الذي يرسم خطوط أونطولجيا جديدة. هذا الذوق الفلسفي نحو المفاهيم التي تمر بين المتعارضات والمتقابلات الذي يميز دولوز يتحقق مرة أخرى بصدد تصور سينوي أكثر إثارة وثورية، وهو التصور الشهير الذي علق باسم ابن سينا وأصبح علامة على نبوغ الشيخ الرئيس في الفلسفة، وهو تصوره للماهية. وهنا سيقيم دولوز علاقة مباشرة مع هذا المفهوم جاعلا من ابن سينا طرفا في الفلسفة المعاصرة ومحاورا جديدا في الحقل الفلسفي الراهن. وقد شكل كتاب دولوز الشهير، منطق المعنى، معالم هذا المشروع الهائل والمثير. لكن قبل تقديم عمل دولوز حول ابن سينا، نرى أنه من الواجب علينا، أولا، عرض -ولو بعجالة- نظرية ابن سينا في الماهية وتسجيل اللحظات الفلسفية الهامة التي قطعتها.
* * *
تبدو نظرية الماهية عند ابن سينا كإحدى أهم إسهاماته في تاريخ الفلسفة. فقد كانت مفخرته في كل كتبه، وظل اسمه عالقا بها خلال مجموع الفلسفة الإسلامية بل وتعداه إلى الفلسفة المسيحية. وهي بالفعل إبداع خلاقٌ ملأ الدنيا وشغل الناس. الماهية هي الأمر الذي يحدد الشيء ويعطيه قواما واتساقا وتمييزا. "فإن لكل أمرٍ حقيقة هو بها ما هو، فللمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض"(7). "إنه من البين، يقول ابن سينا، أن لكل شيء حقيقة هي ماهيته"(8). فكل ما هو موجود له ماهية يكون بها هو هو، والماهية، الإنسانية مثلا، تكون متحققة عند كل الناس، والسؤال المطروح هو التالي: هل الإنسانية خاصة، لا تتحقق إلا عند زيد مثلا؛ أم أنها كلية، تحمل على زيد وعلى كل الناس؟ وإذا افترضنا أن الإنسانية خاصة فإنها لن تُحْمَلَ ولن تُطْلَقَ على كل الناس. غير أن هذا يناقض العيان. فنحن نعرف بالمشاهدة أن الإنسانية لا تحمل على زيد فقط، وإنما تحمل وتطلق على كل الناس. وهكذا نخلص إلى هذه النتيجة: إن الماهية، سواء كانت إنسانية أو غيرها، ليس خاصة ولا يمكنها أن تكون خاصة. لنفرض الآن أن الإنسانية كلية، أي لا تحمل على زيد فقط بل على كل الاس. فالأمر الذي يكون كليا يحمل على كثيرين، لكن أليس تحديد الكلي، من حيث هو كلي، أن يكون كليا، أي ألا يكون خاصا؟ أليس من طبيعة الكلي أن تستحيل عليه الخصوصية؟ إذا كان هذا هكذا، فإن الماهية التي افترضنا أنها كلية يستحيل أن تكون مقولة على الشيء الخاص، أي على الموجود الخاص المحدد، وافتراض ذلك مكابرة للأعيان. إذ أننا نعرف بالمشاهدة أن الإنسانية، وهي ماهية، تقال عن الموجودات الخاصة، كعمرو وزيد. وهكذا يخلص الشيخ الرئيس إلى القول: إن الماهية ليست كلية، ولنقرأ ابن سينا نفسه في كتاب الشفا: "فالكلي من حيث هو كلي شيء، ومن حيث هو شيء تلحقه الكلية شيء. فالكلي من حيث هو كلي هو ما يدل عليه أحد هذه الحدود، فإذا كان ذلك إنسانا أو فرسا فهناك معنى آخر غير معنى الكلية وهو الفرسية. فإن حد الفرسية ليس هو حد الكلية، ولا الكلية داخلة في حد الفرسية، فإن الفرسية لها حد لا يفتقر إلى حد الكلية لكن تعرض له الكلية. فإنه في نفسه ليس شيء من الأشياء البتة إلا الفرسية، فإنه في نفسه لا واحد ولا كثير ولا موجود في الأعيان ولا في النفس ولا في شيء من ذلك بالقوة وبالفعل على أن يكون داخلا في الفرسية، بل من حيث هو فرسية فقط. بل الواحدية صفة تقترن إلى الفرسية؛ فتكون الفرسية مع تلك الصفة واحدة.
وكذلك للفرسية مع تلك الصفة صفات أخرى كثيرة داخلية عليها، الفرسية -بشرط أنها تطابق بحدها أشياء كثيرة- تكون عامة، ولأنها مأخوذة بخواص وأعراض مشار إليها تكون خاصة. فالفرسية في نفسها فرسية فقط"(9).
يحقق ابن سينا، كما فعل ذلك في إشكالية زيادة الوجود على الماهية، قلبا للأفلاطونية. وانتقادات الشيخ الرئيس لنظرية المثل الأفلاطونية شهيرة في تاريخ الفلسفة(10). فالحياد يضع الماهية في مجال لامتعال ولا أفلاطوني. فالماهية محايدة عند ابن سينا. ليست كلية وليست خاصة، إنها ماهية فقط. "فإذا جعلنا الموضوع في المسألة هوية الإنسانية من حيث هي إنسانية كشيء واحد، وسئل عن طرفي النقيض، فقيل: أواحد هو أن كثير؟ لم يلزم أن يجاب لأنها من حيث هي هوية الإنسانية شيء غير كل واحد منها، ولا يوجد في حد ذلك الشيء إلا الإنسانية فقط.
وأما أنه هل يوصف بأنه واحد أو كثير، على أنه وصف يلحقه من خارج، فلا محالة أنه يوصف بذلك، ولكن لا يكون هو ذلك الموصوف من حيث هو إنسانية فقط، فلا يكون من حيث هو إنسانية هو كثيرا بل إنما يكون كأن ذلك شيء يلحقه من خارج"(11). لذلك فالماهية من حيث هي ماهية ليست بواحد ولا كثير، وإنما هي ماهية فقط.
وقد شكل هذا التصور الجديد والخلاق للماهية مفهوما اخترق الأحقاب والعصور، بل وحتى الفرق الكلامية والفلسفية. بل أن خصومه لم يترددوا في استجلابه لأنساقهم. وخير مثال على ذلك المتكلم الأشعري الشهرستاني، خصم ابن سينا، رغم أن هذا المتكلم كان يطمح إلى تحطيم فلسفة الشيخ الرئيس في كتاب مصارعة الفلاسفة، فإنه لم يتردد عن أخذ نظريته في الماهية واستعمالها من أجل الدفاع عن مذهب أصحابه ضد نظرية الأحوال التي قال بها أبو هاشم الجبائي(12). غير أن بهاء مفهوم الماهية سيتجاوز حدود الفلسفة الإسلامية إلى الفلسفة المسيحية، محققا بذلك دخولا شرعيا في حقل تاريخ الفلسفة من بابه الواسع.
إن المفهوم الخلاق والأصيل لا يفقد أبدا قوته وحيويته. ذلك هو مسار وقدر مفهوم الماهية لابن سينا. وبالفعل فقد وجد استعمالا واستثمارا في الفلسفة المسيحية عند دان سكوت الذي لم يخف إعجابه به والدفاع عنه ضد أعدائه وخصومه. والواقع أن دان سكوت لا يكتفي بالرجوع إلى هذا المفهوم بشكل سلبي، بل إنه يقوم بتحويل معناه وباستثماره في إشكال جديد، إشكال الوجود. وهكذا سيقوم دان سكوت بربط مفهوم حياد الماهية عند ابن سينا بمشكل الوجود، فاتحا بذلك الباب لأونطولوجيا جديدة.
وبالفعل سيعمل دان سكوت على إقران مفهوم الحياد الذي ربطه ابن سينا بالماهية مع مفهوم الوجود. وبذلك سيصبح مفهوم الحياد الذي سطره الشيخ الرئيس نقطة انطلاق، في الفلسفة المسيحية، لأنطولوجيا تواطئ الوجود التي مازالت تحمل توقيع دان سكوت.
لقد رأينا أن الماهية عند ابن سينا لا تبالي بالكلية كما أنها لا تبالي بالخصوصية. هذه المنزلة هي التي أثارت انتباه دان سكوت وحركت طموحه للظفر بتصور جديد للوجود. ويمكن عمله بالأساس بنقل مجال هذا المفهوم إلى حقل الوجود. يقول إيتيان جيلسون في بسط ذلك: "يمكن للعقل لإنساني، في شروطه الحالية، أن يتصور الوجود دون تصوره كمتناه أو لامتناه، كمخلوق أو لامخلوق، وبالتالي فمفهوم "الوجود" هو مفهوم متميز عن هذه الأمور الأخيرة. وبالتأكيد فهو مُتَضَمَّن في إحداهما، لكن لا أحد منهما يكون متضمنا فيه، فمن حيث هو هو فإنه ليس هذا وليس ذاك(...). إنه "محايد" بالنسبة لهما؛ وباختصار، إنه متواطئ"(13). فمن "الحيوان فقط" ("animal tantum") ننقل إلى "الوجود فقط" ("esse tantum"). يستثمر دان سكوت إذن هذه النظرية في فلسفته، لكن بعد تغيير مجال إجرائها وعملها؛ إنها تقدم له وسائل مفهومية من أجل الدفاع عن أحادية معنى الوجود ضد المذاهب التي تقيم اشتراكا وتناسبا للوجود والتي تقحم التراتب والتعالي في معانيه. يقوم دان سكوت إذن باستعمال أونطولوجي للنظرية السينوية.
في كتاب الإختلاف والتكرار، مَجَّدَ جيل دولوز فلسفة دان سكوت لكونه دافع عن أحاديه معنى الوجود. "لم تكن هناك أبدا سوى قضية أونطولوجية واحدة: الوجود متواطئ. ولم تكن هناك سوى أونطولوجيا واحدة، أونطولوجيا دان سكوت، لأنه قد استطاع جمل الوجود المتواطئ إلى أعلى مستوى من اللطافة، مع احتمال جعله مجردا"(14). يميز دولوز بين ثلاثة لحظات أساسية(15) في "بناء تواطئ الوجود. الأولى يمثلها دان سكوت. ففي كتاب، "Opus oxoniense"، وهو كبر كتاب في الأونطولوجيا الخالصة، يتصور الوجود كمتواطئ، غير أن الوجود المتواطئ يُتَصَوَّر كوجود محايد، neuter، لامبال بالنسبة لللاتناهي وللتناهي، للمفرد وللكي، للمحدث ولغير المحدث"(16). لقد رأينا كيف استعمل دان سكوت حياد الماهية عند ابن سينا في هذا التواطئ المتعلق بمفهوم الوجود.
قد يبدو أن مشكل تواطئ الوجود مشكل مجرد وبعيد عن الاهتمامات الفعلية والواقعية للفلسفة وللحياة، غير أن الأمر ليس على هذا المنوال. إنه في واقع الأمر يتضمن عواقب أساسية لا تمس مستوى الفلسفة فحسب، بل ومستوى السياسة والإيتيقا. فالنقاش الحاد حول التواطئ يتجاوز الإشكالات النظرية المجردة. فقبل الوجود، السياسة، كما يقول فيلكس غاتاري. وبلغة سياسية، يقيم تعدد معاني الوجود، الذي ناهضه كل من دان سكوت واسبينوزا ودولوز، تراتبا سياسيا ومجالا إمبراطوريا يعمل وفق تعال وتصور عمودي. إنه "تَعَالٍ وَوُجُود عموديٌّ ودولةٌ إمبراطوريةٌ في السماء أو فوق الأرض..."، في حين أن تواطئ معنى الوجود، الذي ينادي به كل من دان سكوت واسبينوزا ودولوز، يفيد مجالا سياسيا يعمل عبر امتداد محايث لقوى الحياة الخلاقة، وعبر خلق مجالات من الحرية المحايثة للتفردات الواقعية والفعلية . أما تناسب الوجود الذي يعود منبعه إلى أرسطو، والذي جعل منه ابن رشد مفهومه الأساس، فإنه يعني توسطا سياسيا يُخْضِع القوى الحقيقية للحياة ويجعلها تمر بالضرورة من خلال مطهر سياسي، وتوسط قانوني، حزبي، جمعوي، إلخ. في حين أن التواطئ، تواطئ معنى الوجود، يحمل مباشرة ولدون واسطة على الماهيات المنفردة والمتعددة والمختلفة، أي على قوى الحياة الفعلية والواقعية. هكذا نرى أن نشيد تواطئ الوجود الذي يغنيه دولوز يجد انطلاقته مع الشيخ الرئيس، ابن سينا، ودان سكوت. فكل من زيادة الوجود على الماهية وتواطئ معنى الوجود يفيدان معا مجالا لاأفلاطونيا ولا أرسطيا.
ومع ذلك، ورغم أهمية هذا التصور فإن موقف دان سكوت يسجن مفهوم الوجود في حياد لا يرضي متطلبات أونطولوجيا الإثبات والصيرورة التي يقول بها جيل دولوز. "فمن أجل ضمان حياد قوى التناسب في الحكم، فإن (دان سكوت) بادر إلى تحييد مفهوم الوجود داخل مفهوم مجرد. لذلك فإنه تصور فقط الوجود المتوطئ. ونرى الخصم الذي يسعى إلى الهروب منه، تبعا لمتطلبات المسيحية: وحدة الوجود التي سيسقط فيها لو لم يكن الوجود العام محايد"(17). فالوجود، بالنسبة لجيل دولوز، إثبات لا حياد، صيرورة لا تطابق، اختلاف لا تماثل. ومن هنا نخلص لا محالة إلى النتيجة التالية: كون الوجود إثبات وصيرورة، دفع دولوز إلى فك الارتباط، الذي أقامه دان سكون، بين الوجود الحياد، وبتعبير آخر، بين الحياد الذي يلحق ماهية ابن سينا وطبيعة الوجود. فالوجود أكثر من الحياد؛ إنه إثبات، صيرورة، اختلاف وتكرار. والحال أن دولوز إذا استبعد نظرية حياد الوجود، فإنه لن يبعد مع ذلك حياد الماهية كما تبدو وتتبلور عند الشيخ الرئيس. بل أنه سيحتفظ بثروتها الفلسفية. والواقع أن نصوص دولوز تجعلنا نلمس أنه يرى في نظرية ابن سينا حول حياد الماهية إمكانات فلسفية وأونطولوجية هائلة لا تتوافق وفلسفة الاختلاف فحسب، بل أنها تغنيها وتثريها بِنَفَسٍ جديد. وهكذا فإذا كان لهذا المفهوم السينوي من "حقيقة" فإنها تكمن أساسا في "خصبها، لأنها تعطي للمشاكل حلا أفضل"(18)، "وتجعلنا نسمع تغيرات جديدة ورنات غير معروفة، وتقيم تقطيعات غير معهودة، وتحمل حدثا يحلق فوقنا"(19).
وقد دفعت هذه الاعتبارات بدولوز إلى البحث عن اقتران جديد لنظرية الماهية السينوية. وبالتالي لن يصبح الحياد في اقتران مع الماهية، كما كان الأمر عند ابن سينا، ولا مع الوجود، كما هو الشأن عند دان سكوت، وإنما مع المعنى. منطق جديد للمعنى، ولكن كذلك إيتيقا جديدة يريان النور.
* * *
إن عمل دولوز بصدد فلسفة ابن سينا لا يدخل ضمن اعتيادات تاريخ الفلسفة، باعتبار أن مجاله لا يتعلق بإعادة إنتاج فلسفة الشيخ الرئيس، ولا في وضع فلسفته ضمن سلسلة من التأثيرات المتعددة التي قد يتلقاها أو يكون قد مارسها على غيره. فما يبحث عنه دولوز في دراسته لفكر الشيخ الرئيس، وما ينقب عليه هو بالأساس النقط اللامعة والقوية في فلسفته، وبتعبير آخر المفاهيم الجديدة والأصلية التي تشرق كبلَّوْرات على صفيحة فلسفة ابن سينا. وطريقة دولوز في قراءة فلسفة الشيخ الرئيس متميزة وخاصة. وبالفعل فهي تسلك طريق انتقاء واختيار المفاهيم التي تبدو له قادرة على رسم خط جديد. وبالتالي فإنه سيعمل، كعادته على تحقيق "اقتناص" (Pick up) حيث يتم كسر الوحدة الأصلية للنص المقروء من أجل تطبيق أفكاره في تنسيقات جديدة"(20).
وقد شكلت الطريقة التي بواسطتها قرأ دولوز الفلاسفة ودرس فكرهم مفارقة فلسفية في حد ذاتها داخل تاريخ الفلسفة. ففي قراءته لفلسف اسبينوزا، مثلا عمد دولوز إلى جعل مفهوم التعبير النقطة البلورية في فلسفته. وبالفعل، "فباختيار تقديم عمل اسبينوزا في مجمله بمواجهته لمشكل واحد، مشكل "التعبير". وهو المشكل ذو معاني لابينتزية واضحة المعالم، فإن دولوز قد ابتعد منذ البدء عن الأشكال التقليدية لتاريخ الفلسفة، وعن هم هاته بالتكيف مع المعنى الحرفي للنصوص. وبالفعل فما يشكل تميز القراءة التي يقوم بها دولوز لاسبينوزا، تَمَيُّزٌ يخول له العثور على ذاته في داخل اسبينوزا لأنه كذلك تَمَيَّزُ اسبينوزا، وهو كون المفهوم الذي يعطيه قيمة لا وجود لأي صياغة أو طرح بارز له في كتاب الإيتيقا"(21).
لا يبدو أن القراءة التي قام بها دولوز لفلسفة ابن سينا قد اتبعت نفس السبيل. بل فهو على العكس من ذلك ركز على مفهوم سينوي قد شكل موضوع تعريفات متعددة من طرف الشيخ الرئيس وكان محط شروح ودراسات من طرف المهتمين بتاريخ الفلسفة والكلام سواء تعلق الأمر بالمسلمين أو بالمسيحيين. ألم يُشَكِّل اختيار دولوز لمفهوم سينوي شائع عودا ورجوعا لتخشبات تاريخ الفلسفة التي عمل دولوز في كل إنتاجاته جهدا وطاقة خلاقة للتنحي عنها؟
غير أن الأمر ليس على هذا المنوال، فإذا كان صحيحا أنه قد ركز على مفهوم شهير في تاريخ الفلسفة، فإنه لم يطمح إلى بلورة تفسير جديد ينضاف إلى التفاسير الموجودة في تاريخ الفلسفة؛ إن الأمر الذي يهم فيلسوف الاختلاف، دولوز، هو إقامة استثمار جديد لهذا المفهوم، توجه جديد قادر على إعطائه حياة وقوة جديدتين. وبالفعل "ليس أمامنا سوى خيار بين أمرين: إما تاريخ الفلسفة، وإما لَقْحٌ أفلاطون من أجل مشاكل لم تعد أفلاطونية"(22). وهكذا سيعمل دولوز على تحقيق لقحٍ سينوي من أجل مشاكل ليست بمشاكل سينوية. وهذا الجانب بالضبط هو الذي يمنح للفلاسفة الذين درسهم دولوز راهنية رائعة وخارقة. سيجد اسبينوزا راهنية أونطولوجية متميزة، مثلما ستصبح مفاهيمه أدوات ضد الدياليكتيك، ضد تجريدات الفلسفة الجوفاء. مثلما سيجد برغسون في كتابه الصورة-الحركة والصورة-الزمن شبابا وجِدَّةً تجعل منه مُنَظِّراً كبيرا في مجال الفن السينمائي. وسيجد ابن سينا مع دولوز راهنية متميزة كذلك. وهكذا سيصبح تاريخ الفلسفة عبارة عن ورشة عمل، عن تجريب واختيار. إذ لا يتعلق الأمر بتأمل مفاهيم تاريخ الفلسفة أو بالنظر فيها، بقدر ما يتعلق الأمر باستعمالها من أجل حل مشاكل حالية وراهنة، مشاكل تتعلق بحياتنا، هنا والآن. التحليل الفلسفي كاقتران وكاستثمار.
يبدو أن عمل دولوز حول ابن سينا يتخذ اتجاهين أساسيين. يتعلق الاتجاه الأول بربط فلسفة الشيخ الرئيس بالفلسفة الرواقية، في حين يتعلق الاتجاه الثاني بإيجاد اقترانات تمنحها حياة جديدة في الفلسفة المعاصرة.
والواقع أن العلاقة التي يقيمها دولوز بين ابن سينا والفلسفة الرواقية قد تبدو علاقة مفارقة من جهة نظر تاريخ الفلسفة. وبالفعل، فإذا كان ابن سينا قد يثير فلسفة المعلم الأول، أرسطو، والفكر المشائي عموما، وإذا قدم وانتقد بحرية نظرية المثل الأفلاطونية، وإذا احتفظ بعناصر أساسية من نظرية النفس الأفلاطونية، فلا يبدو أن نصوصه تشير إلى الفلسفة الرواقية. ولا يبدو أن مفهوم اللاجسمانيات ومفهوم الحدث، وهما المفهومان الأساسيان في الفلسفة الرواقية، قد وجدا استعمالا في كتابات الشيخ الرئيس. بل إن كل القرائن تدفعنا إلى الإثبات بأن فكره قد ظل بمنأى عن التأثير الرواقي المباشر. غير أن دولوز يكتشف، تحت ركام الظواهر، تشابهات سرية وصامتة بين الفلسفتين. وهكذا يتأسس التقاء بين فلسفة أهل الرواق وفلسفة الشيخ الرئيس عوض أن يحدث تأثير مباشر باعتبار أن المفاهيم الفلسفية تتبادل الصدى عوض أن تتسجل في تتال تاريخي وزمني.
والحال أن إحدى نقط التقاء الفلسفتين تكمن في طموحهما لقب الأفلاطونية. إذ يتعلق الأمر في الحالتين بالإطاحة بالماهيات والصور الخالصة دون السقوط في فخاخ التجريبية الساذجة. وقد حقق الرواقيون هذا المشروع بإبداع مفهوم الحدث événement، في حين أنجز الشيخ الرئيس المشروع نفسه بإبداع مفهوم الماهية L’essence. ويملك هذان المفهومان، الماهية والحدث، الخاصية نفسها، أي الحياد. فالماهية والحدث يوجدان في مجال محايد، مجالٌ يسمح لهما بتفادي المحسوس والمجرد، الأعماق والأعالي.
يأخذ حياد الماهية في التصور السينوي كما يفهمه دولوز بعداً إيجابيا وإثباتيا فليس الحياد سلبا. إنه لا يتضمن نقصا أو لا تحديدا. إنه ليس اللاتحديد المعروف في الفلسفة الشرقية كما قد نميل إلى القول مع هيغل(23)؛ مثلما أنه ليس هو اللاعمق الذي ينادي به الأفلاطونيون المحدثون. يتفادى دولوز كل هذه التأويلات التي لا تنتمي إلى الفلسفة السينوية، كما أنها لا تنتمي إلى المنطق الدولوزي. إن الحياد كما ورد عند كل من دولوز وابن سينا يفيض تحديدا وإثباتا. بالزيادة، لا بالخصاص، يحقق الحياد الإثبات. فإذا كانت الماهية محايدة، فلأنها تستطيع أن تكون "كل شيء في آن واحد"(24). هكذا نرى أن دولوز يوجه فهمه للنظرية السينوية بعيدا عن اتجاهات النقص والسلب التي تشكل عضد الفلسفة الدياليكتيكية. وباختصار فكان دولوز يقيم قراءة لاهيغيلية للفلسفة السينوية.
وقد استثمر دولوز مفهوم الحياد، الذي يطبع مفهوم الماهية عند ابن سينا، في مجالين أساسيين، مجال المعنى، Le sens. ومجال التميز، La singularité.
لقد بات من المعروف أن الفلسفة الدولوزية قد أتت بتصور جديد للمعنى وثيق الصلة بنقدها الصارم الموجه ضد كل من الفلسفة الترنسدنطالية، والفينومينولوجية، واللسانية، والمنطق القائم على مفهوم الإضافة. وتكمن دراسة دولوز للمعنى بتحليله للقضية المنطقية. وإذا كانت القضية تتضمن ثلاثة أبعاد التي هي الإشارة، La désignation -"إنها علاقة القضية مع حالة للأشياء الخارجية"-؛ والتجلي، La manifestation –"يتعلق الأمر بعلاقة القضية بالذات المتكلمة والمعبرة"-؛ والدلالة، La signification، -"يتعلق الأمر هذه المرة بعلاقة الكلمة مع المفاهيم الكلية أو العامة"-، فإن المعنى كما يكتشفه دولوز عند الرواقيين يكمن في بعد رابع للقضية. إنه "تعبير القضية... اللاجسمي فوق سطح الأشياء، كيان معقد لا يختزل، حدثٌ خالص يُلح في القضية أو يَثْبُتُ فيها"(25). ومن بين المفارقات الأساسية للمعنى، هناك مفارقة الحياد La neutralité. فالمعنى محايدٌ. إنه ليس كليا، ولا خاصا. هنا يرجع دولوز إلى نظرية الشيخ الرئيس في الماهية(26). هكذا نرى أن دولوز يحقق تحولا رائعا لنظرية ابن سينا بصدد الماهية. فمن مجال أونطولوجي نمر إلى مجال منطقي، منطق المعنى، والحدث. يملك المعنى عند دولوز الخصائص التي أطلقها الشيخ الرئيس على الماهية. إنهما معا يمتدَّان فوق السطح، فوق شاطئ الحياد الذي هو أصل ومنبع كل تحديد ممكن ومتصور.
وقد دفعت هذه الاعتبارات دولوز إلى إعادة النظر في إشكالية التميُّز la singularité. وهنا أيضا يتدخَّل مفهوم الحياد بقوة ليقدم تصورا جديدا أمام الفلسفة المعاصرة. إن الميتافيزيقا، شأنها شأن الفلسفة الترنسندنطالية، تضعنا أمام اختيار شبيه بذلك الذي واجه ابن سينا والذي دفعه إلى إحداث مفهوم الماهية. إنها "تفرض علينا" إما عمقا بدون اختلاف، لا عمق، لا وجود بدون تشكل، هوة بدون اختلافات وبدون خصائص – وإما موجودا متفردا بشكل سام، صورة متشخصة بشكل قوي. وخارج هذا الوجود أو هذه الصورة، فلن يكون أمامكم سوى السَّديم"(27). ومن أجل تفادي هذه الاختيار المفتعل، اضطر دولوز إلى إبداع تصور جديد لمشكل التَمَيّز. إن التميز حسب الفلسفة الدولوزية "حر، ومجهول ورحال يخترق الناس كما يخترق النباتات والحيوانات باستقلال عن مواد تَفَردفها وصور شخصياتها"(28). وإذا كانت التميُّزات مضبطة بهذا الشكل، فذلك لأن "حال المعنى هذا بأحداثه تميزاته يقدم حيادا لا ينفك عنه"(29). فالتميزات كحياد هي أصل وقاعدة نشوء كب التحديدات الممكنة. فالتميزات التي ليست بكلية ولا خاصة توجد، شأنها في ذلك شأن ماهية ابن سينا، على مستوى الحياد. إن التصورين معا، الماهية السينوية والتميز الدولوزي، خزان كل تفرد ممكن.
ومن جهة أخرى، تنفلت قراءة دولوز لمفهوم الماهية السينوية من كل قراءة نظرية محضة، إذ لا يتعلق الأمر بالنسبة إليه بوصف هذا المفهوم وتحديد محيطاته وحدوده. يتعلق الأمر في القراءة الدولوزية بالعثور على بُعد عملي للحياد، بُعد يتم نزعه من حدوده اللازمة له ويُؤخذ لا كنقطة ثابتة، وإنما كخط واتجاه قادر على رسم معالم إيتيقا جديدة. وهكذا يقيم دولوز استثمارا إيتيقيا لمفهوم الحياد. فمن الحيوان فقط، Animal tantum، ننتقل إلى الحدث فقط eventum tantum. ويحقق هذا التحويل تغيرا عميقا في الاتجاه الفلسفي. فمن المجال الأونطولوجي والمنطقي تنتقل إلى الحقل الإيتقي، إيتيقا الحدث، والحياد.
وبالفعل، إذا كان مفهوم الحيوان فقط Animal tantum يقصي الخطرين اللذين يتربصان به، تعالي الماهيات وتلاشيها في المحسوس الذي يختزل الماهية في كيان بدون عمق وسمك، فإن مفهوم الحدث فقط eventum tantum يجد نفسه أمام العمل نفسه، عمل ينضاف إليه بعدٌ عملي وانشغال إيتيقي. يتعلق الأمر بانتزاع حدث محايد، وهكذا ترتسم معالم إيتيقا عملية تأخذ على عاتقها تفادي الأخطار التي تتهدد الحياة. "نعيش بين خطرين: هناك من جهة التأوه الأزلي لجسدنا، الذي يقع دائما على جسد رهيف يقطعه، أو على جسد ضخم جدا يلفه ويخنقه، أو جسد لا يستساغ ويسمِّمُه، أو أثاث يصدمه، أو مكروب يلحق به دملا؛ ولكن هناك أيضا من جهة أخرى تهريج أولئك الذيم يقلِّدون حدثا خالصا ويحولونه إلى استيهام وينشدون الكرب والتناهي والخصي. ينبغي التوصل إلى "أن ننصب بين الناس وأعمالهم وجودهم السائد قبل حضور المرارة. كيف يمكن للمرء أن يرسم، بين صيحات الألم الفيزيقي وأناشيد المعاناة الميتافيزيقية، سبيله الرواقي الضيق، سبيلا يكمن في أن يكون في مستوى ما يحدث، وفي انتزاع شيء ما مما يحدث يتوفر على ابتهاج وعلى حي، انتزاع بصيص أو لقاء أو حدث أو سرعة أو صيرورة؟ سأستبدل ميلي نحو الموت الذي كان إفلاسا للإرادة، برغبة في الموت تكون انشراحا فائقا للإرادة. سأستبدل رغبتي البشعة في أن أكون محبوبا، بقوة في الحب: لا يعني ذلك إرادة غير معقولة لمحبة أي شخص أو أي شيء كان، ولا التوحد مع الكون، وإنما استخراج الحدث الخالص الذي يجمعني مع أولئك الذين أحبهم والذين لا ينتظرونني مثما أنني لا أنتظرهم، مادام أن الحدث وحده هو الذي ينتظرنا، الحدث فقط Eventum tantum"(30). بتفادي الخطرين الأساسيين، تلوح معالم هذا التصور الإيتيقي الجديد، وتأخذ قوة وتماسكا، وفي نص رائع، يرسم هنري ميلار Henry Miller خطوط هذه الإيتيقي الجديدة التي تحاول ترسيخ طريق رهيف ومكسر للفرح ولخفة الحياة. "إن النسور التي خفقت أجنحتها القوية في السماء لبعض الوقت قد سقطت فوق الأرض. لقد أصابنا الدوران بسبب خفقان وهدير أجنتها. امكثوا فوق الأرض، يا نسور المستقبل إن السموات قد استكشفت لكنها فارغة. وما يجثم تحت الأرض فارغ كذلك، مليئ فقط بالعظام والأشباح. امكثوا فوق الأرض، واسبحوا إذن بعض آلاف السنين!(31)" إن السباحة في شواطئ المحايثة هي التي ينشدها بسعادة وزهو هنري ميلار في هذا النص الرائع. فأن يعيش المرء حياد الحدث، يعني أن ينشرح ويلقي بنفسه، لا كذات أو كشخص، وإنما كتغير جوي – تيار هواء، "تغير في نبرة اللون، جزيئية متعذرة الإدراك، جموع خفية، ضباب أو كسحابة من القطرات" – فوق شواطئ المحايثة هاته التي تبعد التعالي والأعماق، الثقل والعصاب، وتحمل معها سعادة، وقوة، وخفة للحياة دائمة التجدد والصيرورة.
* * *
هكذا نرى أن مسار مفهوم الحياد لا يتحقق ضمن تاريخ جامد ومسبق التحديد، ,إنما داخل صيرورة فلسفية. فكل ظهوراته تفتح مجالا جديدا وغريبا، وتحقق تغيرا في الاتجاه؛ وكل اتجاه يثير انبجاسا من الصوت والضوء، من العواطف ومن الإدراكات الجديدة. ذلك هو قدر نظرية ابن سينا بصدد الحياد، فمن دان سكوت إلى دولوز، مررنا من استثمار أونطولوجي لمفهوم الحياد إلى استثمار منطقي وإيتيقي. لكن عبر كل هذه الاقترانات، وكل هذه الإشكالات، من نظرية زيادة الوجود على الماهية إلى تواطئ الوجود، ترن نبرة مشتركة، هي الرغبة في قلب الأفلاطونية.
وقد تبين لنا من خلال هذا البحث أن دولوز قد أقام مع الفكر السينوي علاقة تنفلت من قبضة تاريخ الفلسفة، وتبتعد عن التقليد التفسيري الذي عادة ما يهيمن على الدارسين. إنها في الواقع علاقة صادرة عن التقاء. فبين الفيلسوفين، يتأسس مجال من اللاتمييز قادر على إنتاج مفاهيم جديدة وإيحاء التقاءات جديدة. فنظرية حياد الماهية السينوية التي أثارت إبان فلسفة الحقبة الكلاسيكية اهتمام كل المتكلمين والفلاسفة تجد عند دولوز تطبيقا في مشكل منطق المعنى، ومشكل التمييز، ومشكل الإيتيقا. إن ابن سينا، الذي ينتمي إلى القرن الحادي عشر، يكتسب مع دولوز حداثة رائعة تجعله يلجُ باب الحوار الفلسفي المعاصر.
وتقدم هذه العلاقة التي يقيمها دولوز مع ابن سينا أمام الفكر الفلسفي المعاصر، بل وحتى أمام الفكر العربي الحالي إمكانات كبيرة لخلق ممرات جديدة تربط الحاضر بالماضي الفلسفي. وبالفعل إذا كان الفكر العربي المعاصر يركن في الوقت الراهن تحت وطء أزمة خانقة تفرض عليه تشنجا وتخشبا بدون خلاص، فإن سبب ذلك يعود، في أحد أسبابه، إلى انعدام وجود قناطر عبور واقترانات جديدة مع ماضيه الفلسفي، اقترانات من شأنها إعادة خلق وابتكار الماضي، والحاضر ومنح قوة جديدة للمستقبل، ويمثل لنا عمل دولوز حول ابن سينا دليلا ونموذجا من الممارسة الفلسفية التي ينبغي على الفكر العربي القيام بها بكل إلحاح في الوقت الراهن.
الهوامش
(1) جيل دولوز، منطق المعنى، القضية، مينوي، باريس، 1969.
(2) جيل دولوز، اسبينوزا ومشكل التعبير، مينوي، باريس، 1969.
(3) جيل دولوز وكلير بارني، حوارات، فلاماريون، الطبعة الجديدة، باريس، 1996، ص.81.
(4) جيل دولوز، اسبينوزا ومشكل التعبير، ص.175.
(5) المرجع نفسه، ص: 176.
(6) ابن رشد، تهافت التهافت، الفصل الثامن، نص ورد في كتاب الوجود والماهية لإيتيان جيلسون، قران باريس، 1978، ص.71 انظر النص العربي في طبعة سليمان دنيا، الطبعة الثالثة، مصر، ص.602-603 وكذلك ص.154-155 "ويمكن أن ينقلب أحد الموجودين إلى صاحبه، إلا لو أمكن أن ينقلب الضروري، حركة غير ممكنة، ثم وجدت لوجب أن تنقلب طبيعة، الموجودات التي لا تفعل الحركة إلى طبيعة التي تقبل الحركة، وذلك مستحيل.
(7) ابن سينا، كتاب الشفا، تحقيق الاب قنواتي وسعيد زايد، 1960، ص.31.
(8) المرجع نفسه، ص.31.
(9) ابن سينا، الشفا، ص.196.
(10) انظر كتاب الشفا ، وتحليلات ألان دوليبيرا، صراع المفاهيم الكلية، باريز، سوي، 1996، ص.190-191.
(11) ابن سينا، الشفا، ص.197-198.
(12) انظر كتاب نهاية الأقدام في علم الكلام، الفصل المخصص للأحوال، ولاحظ كيف سيفض الشهر ستاني في ختام الفصل الخلاف بين مثبتي ونفاة الأحوال من المتكلمين.
(13) إتيان جيلسون، جون دان سكوت: مقدمة لمواقفه الأساسية، نشر فران، 1952، ص.100.
(14) جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ص.52.
(15) تتعلق اللحظة الثانية باسبينوزا، -الوجود إثبات-، في حين تتعلق اللحظة الثالثة بنيتشه – الوجود صيرورة، الرجوع إلى الاختلاف والتكرار، الصفحات 59 وما يليها.
(16) المرجع نفسه، ص.57.
(17) المرجع نفسه، ص.57.
(18) روني شيرير، مفارقات الصيرورة، مجلة عنقاوات، ربيع 1997، العدد 30، ص.22.
(19) جيل دولوز وفيلكس غاتاري، ماهي الفلسفة؟ مينوي، باريز 1992، ص.32، نص ورد في مفارقات الصيرورة، عنقاوات.
(20) دانا بولان، ماغازين ليتيرير، باريز 988، ص.63.
(21) بيير ماشري، دولوز واسبينوزا، ماغازين ليتيرير، باريز 1988، ص. 41-42.
(22) جيل دولوز، علامات وأحداث، ماغازين ليتيرير، باريز 1988.
(23) بيير ماشري ماشري، اسبينوزا أو هيغل، نشر ماسبيروا، باريز 1979.
(24) جيل دولوز، منطق المعنى؟ مينوي، باريز 1969، ص.49.
(25) المرجع نفسه، بصدد القضية.
(26) المرجع نفسه، ص.48.
(27) المرجع نفسه، ص.129.
(28) المرجع نفسه، ص.131.
(29) المرجع نفسه، ص.127.
(30) جيل دولوز وكلير بارني، حوارات، فالماريون، ترجمة عبد الحي أزرقان وأحمد العلمي، نشر إفريقيا الشرق، ص.85.
(31) هونري ميلار، مدار السرطان، باريز دونويل، 1945، ص.342، التركيزمني، أحمد العلمي.
* ) أستاذ الفلسفة – كلية الآداب – القنيطرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق