ترجمة: الحيدي الطيبي
وصف مفكرو السوسيولوجيا التقليديون –توكفيل، ماكس فيبر، دوركهايم، وسيمل- كل على طريقته، الحداثة بأنها: الفردانية، العقلنة، التخصص في الأنشطة، نزع الطابع الإنساني، التفكك الاجتماعي، اللااستقرار...، وتساؤلات إلى وقتنا الراهن تبقى أكثر حداثية.
لقد عرفت مجتمعات الغرب الأوربي خلال القرنين 16 و17 سلسلة من التحولات الاقتصادية والسياسية التي توجت بالثورة الصناعية في انجلترا، والثورة الفرنسية لسنة 1789؛ وبذلك ارتسم عالم جديد، عالم يطبعه التصنيع، تقسيم العمل والتمدن، انبلاج عصر الدولة-الوطنية، وقيام ديموقراطية الجماهير؛ وبموازاة ذلك ظهرت قيم جديدة، حيث أصبح العقل السيد الوحيد الذي يقبل الإنسان الخضوع لسيادته، وتم تسجيل الحرية والمساواة كحقوق كونية في ميثاق حقوق الإنسان والمواطن. فكانت مجمل هذه التحولات هي ما اعتدنا على تسميته بعصر الحداثة.
غير أن اتساع هذه التحولات أحدث رجات عميقة في توازن مجتمعات تلك المرحلة. ومن حسن الحظ أن تم إدراكها في زمانها. بالنسبة للمحافظين "كجزيف ذي مستر"، "فِكَونت ذي بونالد" و"إدموند بارك" بإنجلترا، فالأمر يتعلق بكارثة حقيقية، من حيث إنهم يتهمون -بلا جدوى- الثورتين بتهديم النسيج الاجتماعي الذي تطلب بناؤه سلسلة من الأجيال المتلاحقة. بل إنهم يعتبرون التسوية الاجتماعية التي تحملها هاتان الثورتان كمصدر للنقص والقصور، وهي الفكرة التي تكاد تلتقي مع موقف المفكرين الرومانسيين الألمان. بخلاف ذلك، يمثل قيام الحداثة بالنسبة لليبراليين العصر الذهبي للإنسانية. فالعلم والعقل يضيئان بنورهما روج كل إنسان، وذلك إلى حد الاحتكاك بالعتمة الناجمة عن ثقل وتأثير الاعتقادات الدينية. من منطلق أن قيم الحرية والمساواة ستحرر الأفراد من مؤسسات النظام القديم (الكنيسة، الملكية، الشرائع...).
لقد ألح فلاسفة التعاقد الاجتماعي من طوماس هوبز إلى جان جاك روسو على أسبقية الفرد على المجتمع، ومن جهته وضع علم الاقتصاد الحديث (العهد)، النظام الاجتماعي على أساس ذلك التناغم التلقائي بين مصالح الأفراد والموجه بواسطة يد خفية "غير مرئية" للسوق الحرة.
وإذا ما اعتبرنا مع عالم الاجتماع الأمريكي Robert Nisbet بأن التقليد السوسيولوجي "إنما نشأ في القرن 19، حيث شخصياته البارزة والأساسية هم ألكسيس توكفيل، كارل ماركس، إميل دوركهايم، ماكس فيبر وجورج سيمل، فإن السوسيولوجيا من الناحية الكرونولوجية هي إذن بنت الحداثة La sociologie est donc fille de la modernité". ومهمتها هي كشف أسرار سير واشتغال مجتمع فقد كل الأسس والقواعد الخارجية لذاته (الله، الطبيعة، العناية الإلهية...). ومن خلال هذا الوعي ستساعد السوسيولوجيا الناس على تدبير مصيرهم بشكل أفضل.
إن هذا العلم الجديد هو قبل كل شيء، وحسب تعبير ماكس فيبر "علم للواقع"، يقوم على الملاحظة الدقيقة للظواهر الاجتماعية، وعلى مدى مطابقتها للنظرية. ومن تم فوضعية السوسيولوجي هي على طرف نقيض بالنسبة لتلك التي لدى الفيلسوف أو الاقتصادي، لأن هذين الأخيرين غالبا ما يرضيان بالتسلية المفاهيمية المعزولة أو المنفصلة عن الواقع. فضلا عن ذلك، تقدَّم السوسيولوجيا على أنها علم للشمولية، ما تفتأ تأخذ في اعتبارها الأهمية المتزايدة للحقل الاقتصادي. فهي ترفض عزل دراسة الظواهر الاقتصادية عن الأبعاد الأخرى للحقيقة الاجتماعية. فبينما يضع ماركس الفئات الاقتصادية في إطار العلاقات الطبقية التي تعبر عنها، نجد دوركهايم يرد الاعتبار للأخلاق المهنية معتبرا إياها حلا للاختلال الاقتصادي. في حين يرى ماكس فيبر في الأخلاق البروتستانتية واحدة من الوقائع المولِّدة لتطور الرأسمالية الحديثة.
أخيرا، ترغب السوسيولوجيا في أن تكون علما تاريخيا، فحيث يضع الفلاسفة القوانين الكونية في الصدارة، ويعتقد الاقتصاديون باستكشاف السلوكات والقوانين عبر-التاريخية Transhistorique، فإن عالم الاجتماع لا ينظر سوى إلى الإنتاجات الظرفية للتاريخ الاجتماعي للناس. فعلى سبيل المثال بدلا من أن يعتبروا [الفلاسفة والاقتصاديون] عمل الأفراد كأصل للمجتمع، فهم عكس ذلك، يجعلون من الفردانية مجرد نتاج لا حق لتطور الحياة الاجتماعية.
ومن هنا، فمنهج السوسيولوجيا، هو منهج مقارن من باب أولى، ومن خلاله نستطيع إدراك الخصائص النوعية للعالم الحديث عبر مقابلتها بتنظيم المجتمعات التقليدية.
المتعارضة: تقليد/حداثة:
إن السوسيولوجيا بهذا المعنى، تقوم بنوع من التصنيف، عن طريق المقارنة بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة. فبالنسبة لتوكفيل يظهر هذا التعارض بين الأرستقراطية والديموقراطية، ويظهر عند تونيس tِnnies بين الطائفة والمجتمع، في وقت يميز دوركهايم بين مجتمع التضامن الآلي (الميكانيكي)، ومجتمع التضامن العضوي، بينما يميز ماركس المجتمع الفيودالي عن المجتمع الرأسمالي.
غير أنه إذا كانت هذه التصنيفات بعيدة عن وضع فصل نهائي، فإننا نجد في كثير منها أزواجا للتعارض تسمح بتركيب النمط المثالي للحداثة في مقابل المجتمعات التقليدية.
وهكذا نجد في تراتبية المجتمعات التقليدية ما يتعارض ومبدأ المساواة الحديث، وفي التقليد ما يعارض العقلانية، وفي الدين ما يتعارض والعلم، وفي القهر ما يتعارض والحرية، وفي "كليانية" المجتمعات التقليدية ما يتناقض وفردانية الحداثة.
ومن هنا، يختص كل باحث بفعل مولد Fait Générateur، يحاول بالاعتماد عليه تفسير مجموع التحولات الاجتماعية الملاحظة. ولذلك فالمطالبة بالمساواة في الفرص لدى توكفيل تعيد الاعتبار لمعظم التحولات. هذه المطالبة بالقدر الذي تقود فيه الأفراد إلى البحث عن السعادة، فهي قد تؤدي أيضا إلى الفوضى وحتى الاستبداد، ومن تم ستصبح مسألة الديموقراطية هي التوفيق بين المساواة والحرية.
لقد جعل دوركهايم من انطلاق الفردانية الظاهرة الرئيسية للحداثة، فنتيجة للنمو السكاني، وتزايد وتيرة تقسيم العمل، سيظهر نوع من التمايز الاجتماعي: في النقطة ذاتها التي تنتهي فيها وضعية الإنسان إلى أن تصبح العنصر المشترك الوحيد لمجموع أعضاء المجتمع، فـ"تقديس الفرد" الذي يتجسد في احترام حقوق الإنسان يصير الدعامة الاجتماعية الوحيدة للحداثة.
حسب جورج سيمل، هناك ظاهرتان متكاملتان تدعمان سيرورة الفردنة، فمن جهة يسمح الاستعمال المعمم للمال بتعدد العلاقات بين أفراد متباعدين، ولكن بانضباط كل فرد لالتزامات تتجاوز الطابع الشخصي، ومن جهة أخرى يؤدي نمو المدن الكبيرة إلى تحول الأفراد من الرقابة الاجتماعية التي تمارس عادة في المدن الصغيرة أو القرى. وبذلك يفضي تقارب هاتين السيرورتين إلى ترك هامش من الحرية أو "الاستقلال الذاتي" لكل فرد. فالأدوار الاجتماعية لم تكن لتفرض منذ الولادة، وإنما هي اختيار حر يدشنه الأفراد خلال مسار حياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، فقد جعل ماركس من النشاط الجدلي لقوى الإنتاج، ومن صراع الطبقات محركا للتغير الاجتماعي: لأن قوى الإنتاج بلغت من الاتساع ما يخلصها من انغلاق علاقات الإنتاج القديمة، فيكون هذا الوضع حافزا على وقوع الثورات.
إلا أن ماكس فيبر يعارض هذه القراءة المادية للتاريخ، والتي سيعيب عليها ميزتها المفرطة في الأحادية، فهو يعيد تقييم القيم الدينية على ضوء قيام الحضارة الحديثة، مبرزا كيف تسهم حياة التقشف لدى البروتستانتيين في إفراز "نمط معين من الحياة الرأسمالية"(2)، ويرى في سيرورة العقلنة السارية على مجموع الأنشطة الاجتماعية عامة، وفي اعتماد البيروقراطية -أحد المظاهر الرئيسية لتنامي العقلانية الحقيقية- خاصة، الخاصية المهيمنة للحداثة. وبالتأكيد، فقد خولت البيروقراطية للمجتمعات الحديثة فعالية لا مثيل لها: أكثر سرعة ودقة وموضوعية مما كانت تسمح به الأشكال المنصرمة للإدارة. إلا أنها مع ذلك تتضمن خطر التضييق على الحريات الفردية.
ازدواجيات الحداثة:
إن ارتباط علماء الاجتماع بالحداثة، يبقى مجالا أوسع للنقد، وجميعهم يبرزون عددا معينا من الازدواجيات والتعارضات الداخلية. فأول مشكل ستواجهه الحداثة هو: كيف يمكن إقامة مجتمع مركب من أفراد مستقلين؟
لقد كان توكفيل أول من لاحظ الأخطار المرتبطة بانفراط العلاقات التراتبية السابقة: "ففي زمن الأرستقراطية كان المواطنون ينتظمون في شكل سلسلة طويلة تتصاعد من البدوي إلى الملك، أما الديموقراطية فقد قامت بكسر هذه السلسلة، لتجعل كل حلقة منفصلة عن الأخرى". فالمساواة فغي الفرص تحمل كل فرد في أن يفك في قدرته على كفاية نفسه بنفسه ليكون من أثر ذلك عزله عن مواطنيه: بحيث يصبح كل واحد مختلفا عن الآخرين، ولا يدرك العلاقة التي تربط مصلحته الشخصية بالرفاه أو المصلحة العامة. وبذلك يختزل المجتمع إلى جمهرة من الأفراد المنفصلين تماما عن بعضهم البعض.
من جهته، يقيم دوركهايم علاقة بين الميل إلى الانتحار، ودرجة اندماج المجموعات الاجتماعية. فـ"الانتحار الأناني" يختلف لسبب معكوس عن الاندماج الأسروي، الديني أو السياسي، وبالتالي يؤدي تطور حب الذات égoïsme الملازم لضعف الجماعات الاجتماعية الوسيطية (العائلة، الطائفة، الكنيسة...) إلى هشاشة الرابط الاجتماعي.
في كتابه تقسيم العمل الاجتماعي، يقترح دوركهايم (كحل لهذه المشكلة المتمثلة في تراجع الروابط الاجتماعية) إعادة الاعتبار للجماعات المهنية التي عرفها النظام القديم، لكن في صيغة جديدة. في حين تبقى الأنشطة الجماعية والجمعوية -بالنسبة لتوكفيل- وحدها التي بإمكانها أن تشد الأفراد إلى بعضهم البعض لأنه على هذا المستوى يسهل تحديد المصلحة الخاصة والمصلحة المشتركة. وعلى هذا الأساس فانحلال الرابط الاجتماعي بالنسبة لدوركهايم وتوكفيل لا يمكن تجنبه إلا بالحفاظ على دور الجماعات الوسيطية.
أما ماكس فيبر، فهو يصر على إبراز نتيجة أخرى لسيرورة التمايز الاجتماعي؛ فكل دائرة للنشاط (الاقتصاد، الدين، القانون، العلم) تتطور وفقا لمنطقها الخاص. وهذا ما يولد نسقا للقيم والمعايير النوعية التي تجازف بالدخول في صراع فيما بينها. إنه يتحدث عن "وثنية (تعددية) للقيم Polythéisme des valeurs"، وذلك من أجل الإشارة إلى تعدد القيم والغايات. فداخل عالم مُظَهرن secularisé، لا توجد البتة قيمة أخيرة بإمكانها أن تفرض نفسها على كل شخص: فاختيار القيم هو الذي يشكل موضوع القرارات الذاتية التي لم تتمكن من تحصيل تبرير عقلاني لها. وكأن المجتمعات القديمة. وأن النزعة الثقافية النسبية -كما يبدو- تلقي بهذه الآثار الهدامة على المجتمعات الحديثة.
لقد وضع جميع علماء اجتماع القرن التاسع عشر الطبقات وأوجه الصراع التي تقابلها في صلب انشغالاتهم. فلئن لم يصرح الليبرالي توكفيل بقوله: "أستطيع أن أقيم تقابلا بين الأفراد، غير أنني أتحدث عن الطبقات، فهي وحدها التي يمكن أن تشغل التاريخ"، فإن توكفيل نفسه من سيجعل من "حرب الطبقات" المنطلق المبدئي للثورة الفرنسية(3).
في ما مضى، كانت مواقف علماء الاجتماع الكلاسيكيين تتباين تبعا لأسلوب كل واحد منهم في معالجة أوالية الصراع الطبقي في المجتمعات الحديثة، فبالنسبة لتوكفيل وسيمل تم وضع مسألة تعديل الشروط الاجتماعية، وإضعاف الحدود القائمة بين الطبقات، وقضية التنامي المتلازم للحركية الاجتماعية، على رأس انشغالهم، وذلك من أجل الانتهاء إلى تنحي الحواجز الطبقية. فأعمالهم تعلن عن النظرية التوسيطية Moyennisation للمجتمع الفرنسي تلك التي طورها -حاليا- هنري موندراس(4). وكما سجل سيمل، فإن ما يقيم أصالة للطبقة الوسطى "هو كونها تحدث تغيرات مستمرة مع الطبقتين الأخيرتين. وأن هذه التموجات الدائمة تزيل الحدود، وتعوضها بانتقالات مستمرة"(5). وتعد الصراعات داخل المجتمعات الحديثة بالنسبة لهذين العالمين ميزة لنزاع المواقع، جاعلة -بالأحرى- من مجموع الفئات الاجتماعية سوى صراع للطبقات.
بالمقابل، وكما هو الشأن بالنسبة لدوركهايم وماركس، تتسم المجتمعات الحديثة بتنامي "صراع الطبقات". فحسب دوركهايم، السبب مزدوج: من جهة لم تعد العلاقات بين العمال وأرباب العمل منتظمة على غرار ما كانت عليه في النظام القديم أي نظام الحرف. من جهة أخرى، يؤدي التقسيم القهري للعمل إلى تأجيج الاستياء الاجتماعي للعمال، بحيث لم تعد للمهنة صلة بقدراتهم. وباستحضار هذه السمة الهدامة لـ"حرب الطبقات"، نستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور: "بحيث لو حصل أن تهدم نظامنا الاجتماعي، فإننا سنحتاج إلى قرون لإنشاء نظام آخر"(6).
أما بخصوص ماركس، فصراع الطبقات يعد محركا للتغيير الاجتماعي: لأنه إذا هدم نظاما اجتماعيا قائما، فذلك من أجل السماح للتاريخ بالتقدم نحو مجتمع بدون طبقات، أي مجتمع الشيوعية.
في حين يحتل ماكس فيبر مكانا وسطا في تعاطيه مع هذه المسألة: فإذا كان قد سلم بكون الصراع صفة ملازمة للمجتمعات الحديثة، فإنه لا يخص -نتيجة لذلك- الصراع بين الطبقات الاجتماعية بأي دور متميز.
الفوضى والمجتمع:
إن النقطة المركزية التي تبرز التعارضات الحاصلة بين علماء اجتماع القرن 19، ومن تلاهم: هو التساؤل عما إذا كان خطر الصراع (داخل المجتمعات) سيكون أكبر في حالة تزايد التباعد بين الطبقات أو حصول العكس، بأن تتقلص تلك الفروقات؟
بالنسبة لتوكفيل وسيمل، فإن تحسينا موضوعيا لوضعية الأفراد، بإمكانه أن يؤدي إلى حرمان نسبي: وكل ذلك يحصل كما لو أنهم يحصلون اكتفاءهم تدريجيا، فتحتدم تطلعاتهم وتشتد تبعا لتصاعد درجة سخطهم واستيائهم، وهذا الاستشعار للعجز الذي يحد من رغباتهم، ويثبتها في حدود لا تبرحها، يرتبط، بشكل عام، بما يسميه دوركهايم في مؤلفه الانتحار بالأنوميا Anomie.
فالأمر يتعلق بظاهرة تعكس حالة من اللاستقرار في المجتمعات الحديثة. ففي نفس الوقت الذي تصبح فيه المواقع الاجتماعية أكثر حركية وهشاشة، فإن نظام القرارات نفسه لدى الفاعلين يصبح موسوما هو كذلك بالاضطراب. وكما لاحظ توكفيل فإن، "هذه الحركية المعتادة تعطي لروحهم نوعا من التهيج المستمر، فلا يتمتعون بثرواتهم إلا في حالة من القلق، ولا يتعاطون مع الخيرات التي توفرها لهم إلا بنوع من الاستعجال". نفس الأمر يؤكده سيمل، حين لاحظ أن الأنماط صارت أكثر عرضة للزوال، وأن الأساليب أصبحت تعرف حالة من الاختلاط، وتعددت الأسفار، وأننا نغير آراءنا كما نغير ملابسنا.
وهكذا، تتحد الحداثة بتدفق مستمر للأحداث التي تتفتت وتتحلل في اللحظة التي تظهر فيها بالذات. بينما يتقلب الأفراد في كل ناحية، ينشغلون بنشاطات متعددة دون أن يتمكنوا من إكمال واحد منها.
الاستلاب وتقسيم العمل:
لقد تأثر كل الكتاب الكلاسيكيين بالنتائج اللا إنسانية لتقسيم العمل داخل المقاولة الصناعية الكبيرة. فلاحظ توكفيل أنه: "بقدر ما يتم تطبيق مبدأ تقسيم العمل بشكل تام، بقدر ما يصبح العامل أكثر ضعفا، محدودية وضعية، وبقدر ما يتقدم الفن، يتراجع الفنان"(8). في حين يرى دوركهايم أن العامل ليس: "أكثر من دولب جامد، وقوة خارجية يتم تشغيلها"(9).
إلا أن ماركس يبقى أفضل من قدم تحليلا وافيا لاستلاب العامل في الصناعة الحديثة، من منطلق أن هذا الأخير يفقد كل سلطة على سيرورة الإنتاج، فلا يرى تبعا لذلك أي معنى أو غاية لما يقوم به، وبدلا من أن يحقق ذاته في العمل كما يجب، نجده "يعمل على إماتة جسده، وتحطيم روحه". فيصبح موضوع نشاطه غريبا عنه، ويكتسب عالم المنتوجات وجودا مستقلا عن منتجيه. كما يتم استبدال العلاقات بين الناس، بالعلاقات القائمة بين الأشياء، وينتهي عالم المنتوجات (Objet) أو الموضوعات إلى الهيمنة والتحكم في عالم الناس. فضلا عن ذلك، نجد في كتابات ماكس فيبر ما يشبه صدى لمقاصد ماركس: "فخيرات هذا العالم تُكسب الناس قدرة متنامية لا مفر منها، قدرة تبدو كما لو أننا لم نعرفها من قبل"(10).
عمد سيمل إلى توسيع هذه المضمونية Thématique، بتأكيده بأن "القيمة السحرية" التي أعطاها ماركس للمواضيع الاقتصادية، ليست سوى حالة خاصة، لسيرورة عامة. فمجموع الإنتاجات الثقافية -ما يسميه سيمل بالثقافة الموضوعية- هو الذي يتضخم، ويدخل في تعارض مع الإمكانيات المحدودة للثقافة "الذاتية" لكل فرد. وهي الحالة التي تجسد عند سيمل مأساوية/(تراجيدية) الثقافة(11) في العصر الحديث. وحتى ينقل هذا التخصص المفرط للأنشطة، إلى مجال المعرفة، قام فيبر بتوسيع هذه الرؤية، بقوله: إن الإنسان الحديث قد أصبح سجين "قفص حديدي Cage de Fer" فرضه المنطق الصارم لنسق التنظيم القائم على العقلانية الأداتية.
ينضاف إلى ذلك، أن تطور العلوم، وعقلنة العالم، سيفضيان إلى حالة من الخيبة: لأننا "إذا كنا دائما نعلم الكثير، فإننا دوما نعرف القليل.
الإيديولوجيا والحداثة:
لم يغفل علماء الاجتماع هؤلاء تبيان التناقضات القائمة بين الخطاب الذي يتبناه المجتمع الحديث عن نفسه، وبين حقيقة سيره واشتغاله.
لقد سبق أن كشف ماركس في كتابه المسألة اليهودية عن إيديولوجيا حقوق الإنسان، مبرزا كيف أنها تكرس بالأساس حقوق الملكية، ولا تمتد "إلى أبعد من الإنسان الأناني"؛ فوراء المساواة المطلوبة، تتستر اللامساواة الواقعية، ووراء عقد العمل بين أفراد أحرار، نجد حقيقة العلاقات الاستغلالية، بينما تكمن وراء حياد الدولة، علاقات السيطرة التي تحوِّل الدولة إلى جهاز لخدمة المصالح الاقتصادية للطبقة المهيمنة.
ثم إن ماكس فيبر حين يكشف أن وراء المطالبة بالقواعد الكبرى للديموقراطية، توجد سيطرة أقلية من الناس على أغلبية، فإن تلميذه روبرت ميشال (1876-1936) Robert Michels سيبرز "القانون القلزي(*) للأوليغارشية"، موضحا كيف تنتهي الأحزاب السياسية الكبرى والنقابات إلى أن تصبح موجَّهة أو مسيّرة من طرف أقلية من الزعماء المحترفين، الذين يسعون إلى التحدث باسم القاعدة المناضلة Militante. فهو يبين مدى تناقض التنظيمات الجماهيرية: تناقض بين قيمهم الديموقراطية، وبين نخبوية عملهم الذي تحكمه ضرورات الفعالية.
بيد أن المجتمعات الحديثة تعرف -أيضا- توترات داخلية متعلقة بقيمتي الحرية والمساواة التي تطالب بها. لقد أوضح توكفيل أن المساواة في الفرص يمكن أن تؤدي إلى عبودية الإنسان الحديث في حين تولد الحرية المتوحشة للرأسمالية -بالنسبة لماركس- وبشكل لا مفر منه اللامساواة العميقة بين الأفراد، وذلك بسبب قيام العمل على الاستغلال.
غير أن سيمل يبقى أفضل من تمكن من تلخيص الصعوبات التي تعترض المجتمعات الحديثة في محاولتها التوليف (أو التوفيق) بين هاتين القيمتين. فخيار الحرية المطلقة يفضي بالضرورة إلى استغلال الأقوياء للضعفاء. في حين لا يمكن للحرية المطلقة المبحوث عنها من قبل الاشتراكية، أن تُنمّي حرية العامل إلا على حساب تلك التي يحظى بها المقاول. إننا -ودون تيقننا من ذلك- نعيد بماء أشكال أخرى من اللامساواة، بإمكانها خدمة عملية الانتقال إلى أنواع جديدة للسيطرة؛ من حيث إننا نجازف بقبول اللامساواة في سبيل الحرية.
وهكذا، نبقى مندهشين لراهنية مواقف ونظريات "التقليد السوسيولوجي". من قبيل أن توكفيل ودوركهايم أبانا عن هشاشة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.
راهنية الكلاسيكيين:
قام كل من ماركس وفيبر بالكشف عن علاقات السيطرة التي يخفيها القانون الوضعي؛ والمؤكد أن سيمل يبدو أكثر حداثية بالنسبة لباقي علماء الاجتماع الكلاسيكيين. فقد استطاع أن يبرز امتداد علاقات تفاعل وتكاثر الجماعات التي يتم الانتماء إليها باختيار حر، معلنا بذلك عن عودة "القبلية الجديدة" "néo-tribalisme"، هذا المفهوم الذي يرجع الفضل فيه إلى م.مافيزولي Maffesoli(13).
لقد كانت لتوكفيل بدوره نبرات تحذيرية من مخاطر الاستبداد الذي قد تتعرض له المجتمعات الديموقراطية. إن وصفه للدولة الوصية "المطلقة، المنفصلة، الحريصة والمرنة، والتي تبسط أيديها على المجتمع بأكمله، وتغطي السطح الخاص بشبكة المساطر الصغيرة والمعقدة، الدقيقة والمنتظمة"، إن هذا الوصف لم يكن دون مباشرة التفكير في العالم، كما وصفه جورج أورويل G.Orwell.
وفي الأخير، يعد فيبر أول من بين أن ليس في المجتمعات الحديثة، وجهة نظر متعالية، بإمكانها توحيد مجموع وجهات النظر.
وحتى لا نتحدث عن منظري مجتمع الحداثة البعدية، الذين لم يغفلوا عن استلهام الكثير من أفكار الكلاسيكيين، فإن ما يتوجب التأكيد عليه هو أن مواضيع "التقليد السوسيولوجي" تبقى مع ذلك في قلب انشغالات علماء الاجتماع المعاصرين.
مصدر المقال:
- Jean Etienne, (la modernité une tradition sociologique), Sciences Humaines, N°73, Paris, Juin 1997.
المراجع:
(*) قانون القُلز La loi d’airan، هو نظرية اقتصادية تحدد أجر العامل بالحد الحيوي الأدنى (عن قاموس المنهل لسنة 1996).
(1) R. Nisbet, La tradition sociologique, PUF, 1984.
(2) M. Weber, L’Ethique protestante et l’Esprit du capitalisme, Pocket, 1985.
(3) Tocqueville, L’Ancien Régime et la révolution, Laffon, « Bouquins », 1986.
(4) H. Mendras, La seconde révolution Francaise, Gallimard, 1988.
(5) G. Simmel, Comment les formes sociales se maintiennent, 1986, dans sociologie et Epistémologie, PUF, 1981.
(6) E. Durkheim, Internationalisme et lutte des classes 1906, dan La science sociale et l’action, PUF, 1970.
(7) نستطيع أن نقرب هذه الصيغة التي قال بها توكفيل من تلك التي نجدها عند دوركهايم في كتابع الانتحار: "بقدر ما نملك، وبقدر ما نريد أن نتملك، فإن الإشباعات المتلقاة، لا تزداد إلا تهيجا للحاجيات بدلا من تهدئتها". "بقدر ما يخف إحساسنا بالمحدودية، بقدر ما يزداد عدم تحملنا لها".
(8) Tocqueville, De la démocratie en Amérique, Laffont, « Bouquins », 1986.
(9) E. Durkheim, De la Division du travail social, PUF, 1991.
(10) Op.cit.
(11) G. Simmel, La tragedie de la culture, Rivages, 1986.
(12) P. Millon, (dir), Max Weber et le destin des sociétés modernes, université, P. Mendes France, Grenoble 1995.
(13) M. Maffessoli, Le temps des tribus, Méridiens klincksieck, 1988.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق