جورج غادمير:
هل اوجد حقيقة بدون منهج يكشف عنها؟*
جان غروندان
ترجمة: الصديق بوعلام
ولد هانز-جورغ غادمير الذي كان يتمتع بحيوية كبيرة وطاقة فكرية سليمة يوم 11 فبراير من عام 1900 في ماربورغ (ألمانيا) بعد مرور مائتين وخمسين سنة بالتمام والكمال على وفاة رونيه ديكارت مؤسس الفكر المنهجي الحديث. وليس بوسع المرء أن يتصور صدفة موافقة أكثر من هذه مادام القصد الرئيسي من العمل الأساسي لغادمير: الحقيقة والمنهج (1960) هو بالضبط أن يضع المنهج موضع سؤال. فهل صحيح حقا أن الحقيقة لا يمكن أن تكتشف إلا في طريق إمكانية مراجعتها منهجيا؟ ألا توجد كذلك حقيقة قبل المنهج؟ ومن أجل استرداد تجربة الحقيقة هذه التي كبتها علم المنهج، يرجع هانز-جورغ غادمير إلى تجربة الفن في أغلب الأحيان. فالشخص الذي يشعر بأن قصيدة ما تسائله أو أن عملا مسرحيا ملك عليه مشاعره إنما يشارك في تجربة للحقيقة "تتجاوز مجال مراقبة المنهج العلمي"، كما كتب (هذا المفكر) على غرار برنامج منذ الصفحة الأولى من حقيقة أو منهج.
يقول غادمير إنه ورث مقدراته الفنية عن والدته التي فقدها عندما كان عمره أربعة أعوام (سنة 1904). ونحله والده (الذي كان أستاذا ذائع الصيت للكيمياء الصيدلية) أخلاقا أكثر صرامة وأكثر انتظاما، وكان يعتقد أن التعليم الصارم للعلوم الطبيعية هو الذي له قيمة. ولا ريب أن ذلك دفع غادمير الشاب إلى المقاومة. فقد جعلت معارك المدافع في الحرب العالمية الأولى تلقي ظلالا من الشك على الإيمان بالتقدم العلمي على كل حال. وهكذا تحمس غادمير في وقت مبكر جدا لعالم الفن والشعر وعلى الخصوص عالم ستيفان جورج.
في عام 1918 قرر متابعة الدراسات الجرمانية في جامعة بريسلو حيث كان والده يدرس. غير أن هذه الجرمانية الجامعية سرعان ما صارت بدورها مفرطة الصورية بالنسبة إليه. ومحدودة بشكل مفرط في تعليم الأشكال إلى درجة أنه تفرغ للفلسفة أكثر فأكثر. وفيها وجد كبار أساتذة الكلام الذين كان يطمح إلى لقائهم. وفي البدء تأثر بالفيلسوف الكانطي الجديد ريشار هو نيغسوالد، في بريسلو، وكان يعتم تحديدا بالعلاقة بين سيرورة الفكر والتعبير عنه لغويا. إلا أنه كان على غادمير أن يفارقه عندما تبع في خريف 1919 والده الذي عين في ماربورغ. ولم يكن هذا خسارة من الناحية الفلسفية، إذ كانت ماربورغ تعتبر وقتها المركز الفلسفي لألمانيا.
في عام 1922 دافع غادمير عن أطروحة دكتوراه حول "ماهية اللذة من خلال الحوارات الأفلاطونية" أمام الكانطي الجديد المحترم بول ناتورب. وفي غشت 1922 أصيب بعدوى شللية قاسية اضطرته إلى شهور عديدة من الاعتزال. وفي هذه الفترة وقع بين يديه مخطوط كان قد كتبه مارتن هايدجر لناتورب وكان بالنسبة لغادمير قراءة كاشفة. وسرعان ما ذكرته الطاقة البلاغية لهايدجر بالقوة النظمية لستيفان جورج. وكانت تلك قضية مفهومة على كل حال حيث راح يتابع دراساته على يد هايدجر في فريبورغ.
وخلال فصل صيف 1923 استمع في فريبورغ إلى درسه الشهير حول "هرمينوطيقا الوقائعية". كان ذلك أول لقاء لغادمير مع مفهوم الهرمينوطيقا الذي سيصبح، لاحقا، عنوان فلسفته الخاصة. بعد هذا الصيف الكاشف من سنة 1923 عين هايدجر في ماربورغ، بحيث أن غادمير عاد إلى موطنه الأول. وهناك دافع عن أطروحة دكتوراه سنة 1928 في موضوع عن هايدجر، الذي أحدث ثورة في ألمانيا بعمله المركزي الذي صدر وقتذاك: الكائن والزمن.
في عام 1933، انضم هايدجر الذي خلف إدموند هوسرل في فريبورغ سنة 1928 إلى الحركة الوطنية-الاشتراكية بنشاط محير. وظل غادمير متحفظا وكان يدرس في ماربورغ منذ 1929. فلم يكن أبدا عضوا في الحزب ولم يعرّض نفسه لخطر اتخاذ مواقف مباشرة. كان يأمل في مرحلة أولى مثل أصدقائه اليهود الكثيرين أن ينجلي الكابوس في وقت قريب. وبعد "ليلة السكاكين الطويلة"، لم يكن أمامه من خيار سوى الصمت. لكنه حافظ على موقف "لاسياسي" آخذته عليه هيئات الحزب النازي، حتى أن تعيينه أستاذا كان موضوع صراعات. وفي عام 1939 أصبح أستاذا في ليبزغ خلفا لأرنولد جيلن. وهناك جذب تعلميه اللاسياسي للفلسفة جمهورا واسعا.
حافظ غادمير على عدم تبعيته في العهد النازي إلى درجة أن الإدارة العسكرية السوفياتية عام 1946 دافعت عن انتخابه رئيسا لجامعة ليبزغ. وبمجرد ما تولى هذا المنصب بذل جهودا من أجل الدفاع عن استقلالية الجامعة إزاء الديكتاتوريات الإيديولوجية الجديدة، لكن التوجه السياسي في الشرق أصبح أحاديا أكثر فأكثر بعد فترة من الانفتاح. وفي سنة 1947 وافق أن يعين في جامعة فرانكفورت سورلومان، وفي عام 1949 عين في هيدلبرغ خلفا لكارل ياسبرز الذي فقد أمله في ألمانيا وهاجر إلى بال حيث درس إلى أن أحيل على المعاش سنة 1968.
باستثناء أطروحته التي طبعت عام 1931 أخلاق أفلاطون الجدلية، لم يكن مع ذلك قد أنتج أي عمل حقيقي. كما أنه لم يكن يشعر بأن له من الموهبة ما يمكنه من تقديم بناء نسقي، وكان يحب الحوار لتحقيق ذلك أكثر. والفلسفة لم تبدأ في تقديره إلا في محاورة الآخر، ولكن كذلك مع كلاسيكيات الفكر الفلسفي، فكان ينتابه إذن قلق الورقة البيضاء لاسيما وهو يرى عمل أستاذه يشرف عليه. فكان يعترف دونما انزعاج بأن "الكتابة ستظل بالنسبة إلي، على مر الأيام، عذابا حقيقيا. وكان يلازمني دائما هذا الشعور بأن هايدجر كان ينظر من فوق كتفي"، لكن طلبته اعجلوه بالضبط لتقديم هذا التصور الفلسفي الذي كان مدينا بكل شيء للحوار كتابيا. فنعته ب"الهرمينوطيقا" لا لأنه نبت في أرض التأويل والمحادثة فقط، بل كذلك لأن هذا الاسم كان حينذاك يعني دليلا بالنسبة لقيمة المعرفة أو منهجية العلوم الإنسانية.
لكن التجديد المركزي لغادمير كان هو الفكرة التي مفادها أن الهرمينوطيقا، بوصفها نظرية الفهم، ليس لها أن تكون نظرية في المنهج بحصر المعنى.
فليس مفهوم المنهج المستعار من علوم الطبيعة في محله داخل العلوم الإنسانية، ولاسيما في تجربة الفن حيث لا تتوقف الحقيقة على المنهج، بل إن الأمر يتعلق بالأحرى بأن يعترف المرء بتواضعه الذاتي، ومحدوديته الذاتية، حتى يستطيع أن يتعلم من الآخر. وإلا كيف يمكن نقل النظر إلى ما وراء الانحصار الذاتي، وكيف تكتشف الحقيقة بغير هذه الطريقة؟ إن روح هيرمينوطيقا غادمير تكمن في كون الآخر يمكن أن يكون على صواب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق