محمد أندلسي
لقد استطاعت الثقافة العربية الإسلامية أن تشكّل لنفسها ولأجيالها طوال القرون الماضية "حكاية تأسيسية كبرى" un grand récit، صارت بموجبها مصدرا للحقيقة المطلقة، وممتلكة للعلم الخاص بها، ولطريقتها الخاصة في تعليم نفسها وتدبير شؤونها. لكننا نعيش ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بداية تفكك هذه الخرافة الطريفة بعد أن عجزت عن صياغة أجوبة مقنعة لتساؤلات مجتمعاتها، وإيجاد الحلول لمشاكل وقضايا واقعها. لهذا أصبحت اليوم هذه الثقافة غير صالحة لأن تكون موطنا للإقامة في عصر "مابعد الميتافيزيقا" الذي دخلته الإنسانية اليوم، أي عصر "أفول الحكايات الكبرى" (1). فنحن ننتمي إلى ثقافة أومجتمع صار بلا علم خاص به، وبلا طريقة في تعليم نفسه وتدبير شأنه، وذلك بعد أن فقدت تلك الثقافة "العالم" الذي كان يشدّها من الداخل ويؤازرها.
من هنا الأهمية القصوى للتساؤل عن معنى ودلالة التوجه في الفكر في أفق ثقافة أمّة فقدت مصداقيتها وفاعليتها؟
كمحاولة للتفكير في هذا السؤال سأنطلق من هذا الافتراض: هو أن نمط التفلسف الوحيد الذي بحوزتنا لن يكون سوى ضرب من التحرّر الجذري من أوهامنا عن أنفسنا، والعودة الفينومنولوجية الاضطرارية إلى العالم المعيش، وإلى العصر في عيانيته، والإنصات إلى نبضاته وما يختمر في دواخله. وذلك سعيا وراء تلمّس سبل المعرفة الخاصة بنا، والطريقة الملائمة لنا في تعليم ذواتنا وتدبير أمورنا. وليست المدرسة والجامعة سوى الفضاء الروحي ربّما النموذجي اليوم، لاحتمال العالم، ولبلورة الفكر والطريقة الخاصّين بنا، في بناء الذات. فإلى أي حدّ استطاعت الجامعة المغربية أن تشكّل فضاء لإبداع المعرفة واختراع مثل ذلك العلم؟ وهل استطاعت مؤسسات التعليم والتكوين عندنا أن تبلور طريقتنا الخاصة في تعليم وتكوين ذواتنا؟ وبعبارة أخرى، ماهي الجامعة؟ وماذا يمكن أن تكون بالنسبة لنا؟ نحن الذين نأتي إلى الفلسفة بدون سبب واضح، ونعاني من ثقافة فقدت كما يقول " نيتشه" "شهوة العالم وحب الحياة"، أي شهوة التشريع الروحي للذات، والتوكيد الخلاق والمبدع للوجود، فأنجبت جيلا -إن لم نقل أجيالا- يعاني من شيخوخة أنطولوجية وروحية مبكّرة، من فرط أنه محكوم عليه أن يجترّ في نفسه "هياكل ثقافية" بلا أفق وبلا مستقبل.
لقد كان كانط يعرّف التنوير بأنه "خروج الإنسان من حالة القصور والوصاية إلى حالة الرشد"([1]). ولكن ماذا لو تبيّن لنا بأن هذا القصور والوصاية هو نمط الوجود الوحيد الذي توجد عليه مؤسسة الإنسان لدينا: في الأسرة أو المدرسة، في الجامعة أو البرلمان، في النقابة أو الحزب، في الجمعية أو المنظمة...
إن الإنسان مايزال لدينا مسؤولية ثقيلة لا يجرأ على احتمالها أحد. إذ الإنسان لم يخلق لدينا وداخل ثقافتنا إلا مرة واحدة منذ أربعة عشر قرنا، والحال أنه قد صار يؤرّخ لنفسه لدى شعوب أخرى بعدد المرات التي مات فيها.
إنني أفترض كجواب عن سؤالي الآنف الذكر حول ما هي الجامعة؟ أن التصور السائد لدى العرب المعاصرين عن معنى الجامعة ودورها ووظيفتها، لازال تصوّرا عاميا لا ينطوي على أي مساءلة صارمة وجذرية لمفهوم الجامعة. إذ هي لا تعني عند الأغلبية أكثر من جهاز لتكوين مهنيين وموظفين تكنوقراطيين قابلين للاستعمال العمومي في فضاء الدولة، أو للاستعمال الخصوصي في فضاء المقاولة والشغل. وواضح أن هذا التصور أداتي للجامعة، ويوجد في صمم تام عن أي استشكال جذري لماهية الجامعة. وأفترض أنه لا نستطيع أن نفلت من هذه العلاقة الأداتية بالجامعة – وهي علاقة ازدادت ترسّخا مع اجتياح العولمة المتوحّشة، ويبدو لي أنها ستتعمّق أكثر مع الإصلاح الجامعي المستحدث الذي دخلت الجامعة المغربية في تطبيقه مند بداية الموسم الدراسي الحالي- إلا بقدر ما نفلح في إيضاح جنيالوجي أصيل لنمط حدوث السلوك المعرفي لدى العرب قبل ظهور مؤسسة الجامعة. إنني أتحدّث عن أخطر حدث ثقافي في تاريخ العرب، والذي يقترن بنشأة الجامع، والذي لا يجب أن نخلطه بالمسجد. لأنه ليس مجرّد مكان لنمط من التعبّد يميّزنا عن سوانا، بل هو المقام الذي دخل العرب من بابه إلى "فن الكلّي"، وأصبح الموضع النموذجي للسلوك النظري مع الموجود. إنه أوّل مؤسسة علم عرفها العرب وقد تحوّل سريعا إلى أكاديمية للمسلمين وغير المسلمين. وفي رحابها تكوّن الجيل الأوّل المبدع من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والمتصوفة الذين حملوا مشعل التقدم الحضاري للإنسانية آنذاك. والجدير بالذكر بأن الجامع لم يتحوّل إلى جامعة بالمعنى الحديث لهذا اللفظ،إلا حينما كف أن يكون مسجدا أي مكانا للعبادة والتعبّد فحسب، وصار فضاء مشرعة أبوابه على العصر، ومؤسسة لإنتاج الحقيقة والمعرفة والعلم. وهكذا فإذا كان الجامع قد شكّل أول نمط من الجامعة لدى العرب، فلأنه شكّل أوّل استعمال عمومي للعقل لديهم، وأوّل فضاء تاريخي لاحتمال الكلّي عندهم.
إن هذا يعني أن المسافة الروحية التي قطعها العرب من الجامع إلى الجامعة ما تزال مسافة لا مفكّر فيها، ومحفوفة بكثير من الغموض والنسيان. إن ظهور الجامعة عندنا ما يزال حدثا عنيفا وتدخلا إداريا لم يصبح بعد تقليدا داخليا لإنتاج الحقيقة. مما يعني أن الجامعة لا زالت لم تخضع بعد عندنا إلى مساءلة جذرية. فهي لا زالت جسما ثقافيا غريبا نتج عن انزياح عنيف للعرب من أفق الملّة إلى أفق شبه"الدولة الحديثة". ولهذا لا تستطيع الجامعة أن تدّعي أي رسالة روحية تعمل بموجبها. ولنا في الأزمة التي تمر بها الجامعة المغربية، وفي تخبّطات الإصلاح البيداغوجي والإداري المستحدث فيها،خير مثال على ما نحن بصدده. وأعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا التخبط والتردد، يرجع إلى عدم توفر جامعاتنا على مشروع مجتمعي وثقافي، ناهيك عن طموح جذري إلى اختراع الكلّي واحترافه احترافا تاريخيا مرّة أخرى، على غرار ما فعله أجدادنا ذات يوم. ولا تستطيع جامعتنا اختراع الكلّي إلا بقدر ما تنجح في إبداع العلم الخاص والطريقة الخاصة بنا في التربية والتعليم، أي إلا بعد امتلاكها لناصية العلم والمعرفة والفلسفة.
ولهذا علينا أن نقرّ بلا مواربة أن الجامعة لدينا لا زالت لا تفكّر. بمعنى أنها لا تنتج علوما ومعارف، ولا تثير القضايا والتساؤلات الخاصة بمجتمعها. إنها ما تزال تقبع خارج عصرها. فالطالب عندنا يأتي إلى الجامعة ليتعلّم مبادئ نظرية لا تمكّنه الجامعة من أي مساءلة جذرية للأفق التاريخي والميتافيزيقي الذي تكوّنت فيه. وما ذلك إلا لأنها ظاهرة ثقافية أفرزها مشروع التنوير، ووجدت فيها الدولة أداة نموذجية لترتيب بنيتها الخاصة، وتصريف مشروعها التكنوقراطي. فنحن نتعلّم ونعلّم في جامعة تفتقر إلى العمق التاريخي والمشروع الثقافي التحديثي. مما يعني أن العرب قد انتقلوا من نطاق الجامع إلى أفق الجامعة دون إيضاح أصيل للحاجة الروحية لهذا الانتقال، أي دون الجواب عن السؤال التالي: هل كان ظهور الجامعة عندنا استجابة لنمو داخلي لروح الثقافة العربية، أم هو نتيجة عنيفة لإرادة تاريخية للتحكّم في هذه الروح ولتغيير وجهتها؟
علينا إذن أن نقرّ بأن الانتقال من الجامع إلى الجامعة، لم يكن قرارا داخليا اختياريا، ولم يكن استجابة للتطور الداخلي لثقافتنا، بل كان عنفا رمزيا حادّا عليها.
ولكن هل كان للعرب من خيار آخر؟ لقد أصبحت العلوم التي أنتجها العرب فاقدة فجأة لكلّ فاعليتها وراهنيتها، وصار محكوما عليهم سلفا-إن أرادوا ألاّ يعيشوا عالة على غيرهم وأن يحققوا الوجود الذي في إمكانهم- بأن يستلفوا من الآخر علوما جديدة أكثر عصرية وراهنية. وعليهم أن يتعاملوا معها ليس باعتبارها "علوم الآخر"، لأن العلم لا ملّة ولا وطن له، وإنما هو نمط من السلوك المعرفي الخالص الذي تتوفر عليه كل الثقافات التي استطاعت أن تنتج معنى جديدا للوجود في العالم. ولذلك لا يوجد علم خاص بملّة بعينها أو ثقافة ما إلا عرضا، لأنه لا يوجد "آخر علمي" (un autre scientifique ([2].
لكن إذا كان العلم بلا وطن ولا ملّة، إلا أنه ابن عصره وزمانه. ولذلك فكل من يتوجّه في الفكر، فيجب أن يتوجّه سلفا داخل الإمكانية التي يسمح بها العصر والزمن الذي يوجد فيه، وليس داخل الحدود التي تسمح بها الملّة والثقافة التي ينتمي إليها. إن هذا التوجّه نحو العصر، والسعي للإقامة في الزمن الذي بحوزتهم، هو ما يدفع العرب إلى تبديل القبلة مرّة أخرى. في المرّة الأولى كان " فن الكلّي" في حوزة " أديان الكتاب"، ولذلك كان لا بدّ من اتخاذ من "بيت المقدس" قبلة للعلاقة مع المتعالي. كذلك يضطر العرب المعاصرون إلى تغيير قبلة الفكر من علوم الملّة إلى علوم الحداثة سعيا مرّة أخرى إلى تملّك "فن الكلّي". ولهذا فإن الجهة الحقيقية اليوم لفكر العرب هي قبلة العصر.
إن تحوّلا جذريا في تاريخ العالم هو الذي جعل انتقال العرب من نطاق الجامع إلى أفق الجامعة ممكنا، لهذا لا يجب أن يقرأ هذا التحول كتآمر على ثقافة الملّة، وكموقف سلبي من علومها. ولذلك فالسؤال عن معنى التوجه في الفكر في أفق ثقافة ملّية فقدت علومها مصداقيتها لن يكون تباكيا على ما كان، أو حسرة على ما ضاع، أو طرحا حنينيا للعلاقة مع الماضي؛ بل هو دعوة حادّة وصارمة للقبول الاستراتيجي بتغيير القبلة التاريخية للسلوك المعرفي لدينا. لأن مثل هذا التغيير هو وحده الذي سيفتح أفقا أصيلا لإنتاج سياسة للحقيقة خاصة بنا.
معنى التوجه في الفكر إذن هو تبديل القبلة التاريخية للفعل المعرفي من جهة علوم الملة إلى أفق الاستشكال الاستراتيجي لمعنى العصر، بما هو عصر حداثة.
فالملّة بالكيفية التي استوطنها العرب وأقاموا فيها، لم تعد تصلح للإقامة اليوم، فهي في حاجة إلى إعادة النظر والمراجعة الجذرية. وفي الحقيقة فإن هذا لم يعد موقفا خاصا بنا، بل هو وضع أنطولوجي مشترك بين الثقافات الأساسية للإنسانية الحالية.
وهكذا فالتفلسف في أفق ثقافة لم تعد تمتلك العالم الخاص بها، لن يكون سوى تدرّب على نمط من التوجه في الحداثة. وليس هذا التوجه في الحداثة سوى المعنى الأصيل للجامعة، وهي لا يمكن أن تكون بالنسبة لنا سوى الفضاء الروحي للاستيلاء على "فن الكلّي" مرة أخرى. وليست الفلسفة غير "فن الكلّي" هذا بامتياز. إنها ما به يتمكّن المجتمع ليس من امتلاك مبادئ العقلنة فحسب، بل بواسطة الفلسفة أيضا يرتقي إلى مستوى الكوني والإنسي. لكن هل استطاعت الفلسفة لدينا أن تكون معيارا داخليا لثقافتنا، وتشريعا كلّيا لأنفسنا؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن للفلسفة أن تعلّم الجيل الذي هو نحن طريقته الخاصة في تعليم نفسه وتدبير شأنه؟ وبتعبير أكثر دقّة: ما معنى أن يكون الفيلسوف مربّيا؟ وأن تكون الفلسفة تربية؟
إننا حينما نطرح هذا السؤال، فنحن نطرحه في سياق محدّد لا يخلو من مفارقة: فهو من جهة سياق ثقافة فقدت علومها ومعارفها التقليدية راهنيتها، وارتابت في طرقها الخاصة في تربية نفسها. ومن جهة أخرى، في سياق عصر لم يعد فيه من الممكن تربية الإنسان إلا في أفق يشكّل العقل والإنسان الكوني سقفه. وهذا يعني أن الفيلسوف لا يكون مربّيا إلا بقدر ما يفترض أن العقل كلّي وشمولي في ماهيته، وأنه واحد بالنسبة لجميع الأفراد والثقافات. وليست وحدة العقل هذه وكلّيته وفكرة المساواة، سوى الملامح الأساسية لفكرة التربية كما صاغها عصر الأنوار.
غير أن من يتفلسف اليوم عندنا أو عند غيرنا، يجد بأن هذا العقل المتجانس الكلّي الذي وضعته الحداثة الغربية كسقف للإنسانية وكمعيار للتربية، قد تعرّض في عقر داره لنقد جذري تفكيكي من قبل توجّهين أساسيين في الفكر المعاصر، هما جنيالوجية نيتشه وتفكيكية هايدغر([3]). وبموجب ذلك النقد الجذري، صار ذلك العقل فضاء للاختلاف والتعدد، وصار قبلة مؤقتة صالحة للإقامة بالنسبة لكل الثقافات، وخاصة بالنسبة للثقافة العربية المعاصرة.
إننا لا نستطيع أن نبلور جوابا عن السؤال المتعلق بنمط تربية الإنسان عندنا، إلا بقدر ما نفلح في تحديد مصالح العقل في ثقافتنا، وطبيعة حاجات العصر الذي أرغمنا على الدخول فيه بلا رجعة وكأنه صار قدرنا.
إن تربية الإنسان عندنا بموجب مصالح العقل كما بلورتها الحداثة وفلسفة الأنوار، يبدو أنها متعذرة وذلك لأن مفهوم الإنسان كما صاغته ثقافتنا الملّية لا يحتمل ذلك. وذلك لأن مطلب الحداثة في التربية لا يستقيم إلا بقدر ما يستند إلى مفهوم للإنسان بما هو كائن عاقل، حر، ومسؤول، أي بماهو ذات ومواطن. بينما أن البراديغم الذي تستند إليه ثقافتنا، هو براديغم الإنسان المخلوق/الرعية. من هنا تبدو الأهمية القصوى للتحديث السياسي الجذري لهياكل الدولة باتجاه تأصيل المؤسسات الديمقراطية، وترسيخ وتجسيد حقوق الإنسان وتكريس فكرة المواطنة.
ومن جهة أخرى، فإن تأسيس الإصلاح الجامعي على أساس حاجات السوق وضغوطات العولمة وحدها- وهذا هو التوجه الذي يبدو أن الإصلاح المستحدث حاليا في الجامعة المغربية يسير فيه- هو موقف أداتي خطير لا يمكن أن يؤدي إلا إلى وضع الجامعة المغربية في إطار أفق تاريخي لم تتهيأ له من الداخل.
أما الذي لا يزال يصرّ على طلب العلم في الجوامع، أو الذي يريد أن يحوّل الجامعة إلى جامع، فهو عدمي ارتكاسي لا ينتج سوى حيوان ثقافي بلا أفق وبلا مستقبل.
هناك خطران إثنان يتهددان اليوم الجامعة: خطر التوجه التكنوقراطي، وهو الخطر الذي بات محدقا بالجامعة تحت ضغط العولمة المتوحّشة. وخطر انسداد آفاق تعميق البحث العلمي والإبداع الفكري، والمساءلة والنقد الجذريين للموروث الثقافي، وهو الخطر الذي أخذ يهدد الجامعة منذ الحظر الذي تعرّضت له الفلسفة والحصار الذي طال تدريسها. والمثير للانتباه على نحو لا يخلو من استغراب، هو أن الخطرين الآنفي الذكر: الخطر التكنوقراطي وخطر التزمت والانغلاق الفكري، لا يتنافران ولا يتواجهان، بل هما غالبا ما يتآزران ويتواطآن، إذ كلّ منهما يعضّد الآخر ويقوّيه.
لهذا فإن كل مساءلة للجامعة إلا ويجب أن تستحضر هذا الخطر المزدوج. وأن تتذكر و ألآ تنسى بأننا نأتي إلى السؤال عن ماهية الجامعة في أفق ثقافة فقدت قدرتها على التشريع الذاتي والتجديد. وهذا وضع أنطولوجي خاص يجدر بنا أن نسائله.
ولكي تصبح تلك المساءلة ممكنة نشير إلى أن معنى التربية في ثقافتنا قد تعيّن منذ أربعة عشر قرنا انطلاقا من واقعة روحية هي واقعة النبوة. بحيث شكّل الفقيه نموذج المربي الأصلي لهذه الثقافة. ومن ثمة فإن أي تدخل جذري للحكيم في أفقها قد يفضي إلى تصادم لا مناص منه مع نموذج الفقيه. هذا ما تجليه محنة العلماء والحكماء والمفكرين في تاريخ ثقافتنا.
علينا أن نعترف بأن أفق المساءلة والإبداع في وعينا السرّي قد أغلقه "الفقهاء المتأخّرون" بدءا من إغلاقهم لباب الاجتهاد في الشريعة. لقد بلغ الأمر بالمربّين عندنا أن استبطنوا طريقة العرب في انتظارهم للنموذج اللاهوتي. فكيف إذن نعيد للمبدعين السقف الإنساني الجذري للإبداع؟ كيف نخلّصهم من الوهم المتعالي الذي يمنع العقل عند العرب من أن ينصرف إلى الإبداع داخل الأفق الإنساني؟
إن معنى أن يكون الفيلسوف مربيا هو أن يساعد على التوجه في الفكر خارج النموذج السائد، وأن يعمل على الانتصار على الدهشة اللاهوتية التي ولّدها أول اصطدام مع الحداثة الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يتعلق الأمر بدهشة الأفغاني ومحمد عبده والتي كرّست التعامل مع الحداثة كدهرية وكبدعة. كما يقتضي ذلك من الفيلسوف أن ينبّه باستمرار إلى المخاطر التي تنجم عن الاستعمال الأداتي والتكنوقراطي للجامعة.
إن ترسيخ التوجه التحديثي، وإعادة قراءة الموروث الثقافي قراءة جنيالوجية تفكيكية([4]) هو الذي من شأنه أن يجعل الجامعة قادرة على التفكير، ويؤهّلها لإنتاج عصرها من الداخل. وبدون الإسراع في هذا التوجه المزدوج، فإن جامعتنا ستظل لأجيال عديدة تستورد العصر، قبل أن تجرأ على التفكير بنفسها.
وفي انتظار تحقيق ذلك، فهناك مهمتان أساسيتان يمكن أن تكونا بمثابة مدخلين وجيهين لنمط من الأخلاق المؤقتة للفيلسوف داخل الجامعة، ألا وهما:
أ- الاستعمال العمومي للجامعة بوصفها مجالا خصبا لتفعيل الحوار والمساءلة والنقد الجذريين.
ب- تنصيب العقل سقفا لذلك الحوار والنقد والمساءلة، وبلورة إيتيقا للحوار يكون أساسها الاختلاف والتعدد في ظل المصلحة العقلية، وحاجات المجتمع الملموسة، ومتطلّبات العصر.
الهوامش:
[2]- فتحي المسكيني، الهوية والزمان، ص160، دار الطليعة- بيروت، 2001.
[3] - Habermas(J), Le discours philosophique de la modernité, p104-105 et p119-120, Odile Jacob,1988.
[4] - يمكن للقارئ الراغب في الاطلاع على آليات المنهج الجنيالوجي-التفكيكي أن يرجع إلى كتاب " الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد/جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي"، محمد أندلسي، منشورات عكاظ، الرباط،2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق