احدث المواضيع

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

تكوين مدرس الفلسفة بالثانوي:الواقع والآفاق

محمد قشيقش

هل التكوين الذي يخضع له مدرس الفلسفة بشعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة ملائم للإنتظارات من تدريس الفلسفة بالثانوي ؟ وهل يؤهله هذا التكوين، بالشروط التي يتم بها، لكي يحقق الأهداف من تدريس الفلسفة؟  ثم ما هي مواصفات هذا المتخرج ؟

تفترض الإجابة على هذه الأسئلة تحديد الغاية من تدريس الفلسفة أولا،  وتحديد ملامح وماهية هذا الدرس، وهو تحديد لما يلزم أو يجب أن يكون عليه، وليس وصفا لما هو كائن،  أو موجود الآن، والذي يشكو من الكثير من الأعطاب، يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي.

ورغم ذلك يلزم الإقرار،  في البداية،  أن تعليم الفلسفة بالثانوي والعالي بالمغرب ـ مقارنة بالبلدان العربية الأخرى التي لا تدرس بها المادة ـ من المكاسب التاريخية والتربوية التي لا ينبغي التقليل من أهميتها أو التفريط فيها، بل يلزم الاعتزاز بها، و العمل على الحفاظ عليها، و تطويرها، وابتكار كل الأساليب التي قد تسمح بحضورها القوي في كل مراحل تعليمنا وفي كل التخصصات.

ما هو الهدف من تدريس الفلسفة اليوم ؟ ماذا نريد؟هل نريد إكساب المتعلم التلميذ، والطالب، مناهج في البحث النظري المجرد؟  هل نريد تدريب التلاميذ والطلبة على التفلسف الذي يشغل الفكر والعقل ويكسب العقلانية، والتعقل، ومهارات الحجاج المنطقي؟ وأي مضمون يلزم وضعه للدرس بهدف تحقيق هذه الأهداف؟

ثم كيف السبيل إلى تأصيل الدرس الفلسفي؟ وكيف السبيل إلى تعليم فكر عقلاني تنويري يؤسس للتقدم، وسيادة العقلانية،  ونبذ كل أشكال الدوغمائية، والفقر النظري؟ وكيف السبيل إلى جعل هذا الدرس يساهم في خلق وعي صحيح بالذات وبالغير،  ويهيئ إنسان اليوم للغد المنشود؟ ثم ما العمل للحفاظ على هذا المكسب وتطويره؟

تتوقف الإجابة على تحديد دقيق             لمهام هذا الدرس وماهيته.

لست في حاجة للتذكير بما تنص عليه الوثائق التربوية، والتوجيهات الرسمية والمذكرات التربوية بخصوص المهام الموكولة لهذا الدرس بالثانوي، وفعله في ذهنية المتعلم، وفي سلوكه، فهي من الأمور البينة بذاتها. وهي في مجملها قيم نبيلة. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تعزيز مكاسب العقل النقدي التحليلي التساؤلي لدى المتلقي، والمساهمة في بناء ذهنية عقلانية وتطويرها. أو تعميق العقلانية والفكر النقدي وترسيخها، وإشاعة ثقافة تنويرية لدى التلميذ والطالب، وثقافة الاختلاف، والتسامح، والنسبية في الأحكام، دون السقوط في إنكار الحق أو الحقيقة. كما قد يساهم درس الفلسفة في استنبات آليات وقواعد النظر الفلسفي، والفكر المنهجي المنظم، وترسيخها، ومحاربة كل أشكال الدوغمائية، والأفكار المطلقة القطعية.

لذلك، يمكن لتدريس الفلسفة أن يؤدي كل هذه الأدوار شريطة أن يتحول تدريسها إلى تعليم الفكر والأفكار بشكل متمفصل متفاعل وبشكل واع، و صياغة الإشكالات بشكل دقيق وعميق وواضح، وجعلها محايثة وملائمة لإنشغالات وهموم المستهدفين بها، وهو ما يمكن بالضرورة من خلق قلق إيجابي في ذهن المتعلم ووجدانه وبتحويله إلى رغبة جامحة في المعرفة وعطش إلى فك رموزها، وهو المدخل الطبيعي لاستقبال جيد للأطروحات الفلاسفة التي يلزم أن تقدم هي الأخرى في صورة دقيقة مركزة وواضحة وعميقة والتي يمكن من خلالها الانفتاح على لواحقها ومبادئها الصريحة منها والمضمرة، لمساءلتها في دلالاتها التاريخية في زمانها وخارجه.

بهذا يحصل المتعلم الفلسفة باعتبارها تجل لإبداع العقل والعقلانية، والمواقف الجريئة التي ما أحوجنا لها اليوم. إلا أن الأهم في تدريس الفلسفة هو تعليم هذا المتعلم الثابت والجوهري فيها وهو الآليات التي تتم بها المعرفة الفلسفية أو تنتج بها، وليست هذه سوى التحليل والنقد والتفكيك والمساءلة المستمرة والشك المنظم البناء.

ليست رسالة هذا الدرس إذن هي شحن ذهن المتعلم بأفكار، بل تسليحه بعدة ما هو ثابت في الفلسفة، أي مقوماتها التي يمكنه استعمالهاـ شريطة امتلاكهاـ في التعامل مع كل أشكال المعرفة.

كيف السبيل إلى تحقيق كل هذه المهام و هذه الرسالة النبيلة ؟ يلزم من جملة ما يلزم القيام به الاعتناء بالفاعل الأول في العملية وهوالعنصر البشري: مدرس المادة، العناية التامة بتكوينه الأولي، وتكوينه المستمر. 

من هنا تبرز ضرورة التكوين لكل مقبل على عملية التدريس،  نظرا لخطورة المهمة وجسامتها. لأن الشهادات الجامعية وحدهالا تؤهل لممارسة التدريس، فلا بد من تكوين تربوي ديداكتيكي يكسب المكون مؤهلات أو مهارات وقدرات للقيام بهذه المهمة باعتبارها ممارسة واعية سليمة تربوية. وهو الأمر الذي يضخم من مهام ومسؤولية الشعبة في مثل هذه المراكز التي يصطدم التكوين فيها بأول عائق هو وصول الطالب بأعطاب تضرب بجذورها في طبيعة تكوينه في الجامعة، الوضع الذي يخيم بظلاله على لحظة التكوين، وهو ما يظهر بجلاء لحظة الممارسة النظرية والعملية في لحظات تحمل مسؤولية الحصة، ومسؤولية القسم. وهكذا يتحول عمل فريق التكوين إلى عمل دؤوب لرفع التحدي من أجل تحقيق الأهداف التي رسمناها للتكوين.

ما هي مواصفات هذا التكوين الذي يلزم أن يخضع له مدرس الفلسفة؟

هو التكوين الذي قد يكسبه مرونة بيداغوجية وديداكتيكية، و يجعله قادرا على تحويل محصلاته في المعرفة الفلسفية إلى خبرة ومهارات تسعفه في سرعة تحديد الغرض وأسباب معالجته، كما يمكنه من الحصول على مرونة معرفية وبيداغوجية وديداكتيكية تفيده في التعامل مع المتعلم أو الطالب تعاملا تربويا، وبهذا تتحدد ملامح النموذج الأمثل للتكوين. هو أن يتعلم كيف ينجز تعليمه، و أن يتعلم كيف يعلم بالمواصفات التربوية الديداكتيكية التي قد تحول درس الفلسفة إلى متعة وليس إلى نقمة، وعذاب للمدرس والمتعلم.

معنى ذلك أن المعول في الحفاظ على مكسب تدريس المادة، وتوسيع الفئات المستهدفة به، وتعميمه، هو العناية أولا بالمدرس بتكوينه، واستمرار تكوينه تكوينا صلبا متجددا ومحكما، في المعرفة الفلسفية في تنوعها وغناها، في متونها الأصلية وبدون وسائط. وكذا امتلاك وإتقان استعمال آلآليات الديداكتيكية، لتحويلها إلى مادة دراسية ملائمة. إلا أن المعول في كل هذاـ بعد التكوين الأساسي ـ على تكوينه الذاتي المتجدد والمستمر.

إن غاية التكوين في جزئه الأكبر هو جعل المكون يشعر بثقل المسؤولية ونبلها وخطورتها. إن هذا النوع من الوعي ثمين جدا، لأن الواعي بالشيء أفضل بكثير من الجاهل به، وهو الوعي الذي سيجعل المكون يراجع الأنا أو الذات باستمرار، أو توجيهها للذات أولا باعتبارها محور العملية التعليمية التعلمية، بدل توجيه سهام النقد للآخر المتعلم أو للظر وف الخارجية زوإخضاع النفس للمحاسبة المستمرة وتفادي السقوط في حبال التبريرية الفجة، وعدم الركون لمنطق التبرير، والنزول باللائمة على الغير سواء كان هذا الغير هو هذا التلميذ أو الطالب الحاضر أمامي أو الغائب. قد يشكل القيام بعكس هذا عائقا على المثابرة المستمرة أو التكوين المستمر، والتعلم الذاتي المتواصل الذي يجعل المدرس يجدد معارفه ووسائل تبليغها ويعطي معنى لممارسته، ويقيه من الملل والشعور بالإحباط وبعدم جدوى عمله، وهو لحظة إذا وصلها المدرس ستكون علامة بينة على أفول نجمه، وسيكون المتضرر الأول درس الفلسفة والمتعلم.

كما يمكن التكوين ثانيا من امتلاك،  ولو بدرجات متفاوتة، المهارات الضرورية لإنجاز درس بالمواصفات التربوية الأساسية التي لن تحصل له حتى ولو قضى نصف عمره في التدريس، أو على الأقل الوعي بما يلزم القيام به كأداة فعالة من أجل تقويم ذاتي مستنير ما أحوجنا إليه حتى لا نسقط في الاتباعية أو الاستسلام والاستكانة والرضا المبالغ فيه على النفس، الذي قد يتحول إلى غشاوة وعائق على المثابرة وتطوير الذات لما هو أحسن.

كما يمكن التكوين ثالثا من الاقتناع بأن أول خطوة في هذا الباب هي المجاهدة النظرية من خلال الاحتكاك المباشر بالنصوص لتجاوز معرفة بادئ الرأي المشترك. كما يلزم التسلح بالجدية، والمسؤولية والنظر العلمي الرصين بالقطع مع الخطابات الإيديولوجية المتغيرة المتلونة حسب الزمان والمكان، والتي بينت التجربة وتاريخ تدريس المادة أنها قد تصبح عدوا لتدريس الفلسفة إذا لم يتم استعمالها ديداكتيكيا وتربويا.

ليست هذه الأهداف المرسومة للتكوين في شموليته ولدرس الفلسفة منفصلة عن المؤسسة التي نروم المساهمة في بنائها من خلال تحديد وتطوير تدريس الفلسفة بالثانوي. 

نروم فعلا المساهمة، بهذا المشروع الطموح، في تحديث مؤسساتنا التعليمية لكي تصبح مؤسسات ذات أهداف حداثية يسودها درس فلسفي أصيل، ويعلم فيها فكر عقلاني تنويري يساهم في التقدم والحداثة.

إذا كانت هذه هي الرسالة النبيلة الموكولة لدرس الفلسفة بالثانوي، وكانت هذه هي المهمة الصعبة الموكولة لشعبة الفلسفة لتكوين مدرس قادر على النهوض بهذا العبء فقد يلزم، من الناحية الأخلاقية، القول بان هنا ك عوائق كثيرة تعرقل هذا التكوين بالمواصفات التي نحلم بها في إطار تجديد وتطوير درس الفلسفة، ألخصها في مايلي: يلزم من باب المسؤولية الجهر بالحقائق التالية، ليس من باب النزول باللائمة على الغير، الغائب، وليس من باب منطق التبرير،  منذ أن انطلق العمل في الشعبة بمكناس ونحن نجهد أنفسنا كفريق التكوين في رصد مكامن الخلل الذاتية والموضوعية، وقد عملنا على تطوير عملنا بتجاوز العوائق الذاتية بالعمل بنظام أو برنامج المجزوءات أو المصوغات منذ البداية، والعمل على تجديدها، ومراجعتها بل والمراجعة المستمرة لنهج التكوين.أما بخصوص العوائق الخارجة الموضوعية قد قدمنا في تقاريرنا اقتراحات عملية للوزارة الوصية منها ما يتعلق بالمعايير المعتمدة في الانتقاء الأولي ونبهنا لعيوبه، وقدمنا اقتراحات عملية تنصف جميع المترشحين في التخصصات الثلاث، وتمكن من تباري الأجود فيها، كما قدمنا اقتراحات عملية في موضوع تاريخ الإعلان عن المباراة بأن يكون في نهاية السنة الجامعية وليس في بدايتها،  على أن تجرى المباراة في بداية شتنبر وليس في نونبر على أساس أن يبدأ التكوين في الأسبوع الأول من أكتوبر، كما طالبنا دائما بمد الشعبة بالأطر الكفأة المتخصصة لأنه لا يعقل تحصيل الجودة بأربع مكونين منتسبين فعليا للشعبة.

كيف تعاملت الجهات المعنية بالمصالح الوزارية مع تقاريرنا واقتراحاتنا ؟

تتلخص المفارقة الغريبة في أن هذه التقارير التي تهيئها شعبة الفلسفة عقب كل مباراة السنة الخامسة لا تؤخذ بعين الاعتبار، رغم إلحاح هذه المصالح على طلبها.  وهي التقارير التي ترصد العوائق والمشاكل المتعلقة بنوعية المترشحين،  ومدة التكوين،  وشروط التخرج، والموارد البشرية الكفأة والمتخصصة في التكوين، فكيف تطلب التكوين لعدد كبير من المكونين في غياب الموارد البشيرة والمادية للتكوين؟ كيف يمكن تحقق التكوين بالمواصفات التي يلزم في غياب إشراك المكويين في العملية بالإنصات لهم أولا، وتفعيل اقتراحاتهم ثانيا ؟ علما أن هذه الاقتراحات العملية الخاصة بتجواز هذه العوائق لا تتطلب لا غلافا ماديا ولاإجراءات جذرية بل فقط الإرادة والقيام بمبادرات تفعلها هذه المصالح لإصلاح ما يمكن إصلاحه من أجل تكوين فعال قد ينعكس إيجابيا على المكون وعلى تدريس المادة بالثانوي. لذلك أشك في النوايا وأتساءل:هل تتمم فعلا قراءتها للأخذ بها أم لا؟مما يخلف في نفوسنا نوعا من عدم الثقة والإحباط .وهو ما يعكس ـ  في نظري ـ وجود هوة سحيقة ، غير قابلة للردم، بين واقع أو حال التكوين في شعبة الفلسفة، وبين ما ينزل تنزيلا أو يقدف به قدفا من هذه المصالح،  والذي يبقي الدار على حالها ليكون الخاسر الأكبر هو التكوين،  وما سيترتب عنه من ضرب لمبدأ أو شرط الجودة في درس الفلسفة وانعكاساته السلبية على المتعلم .

كل هذا يعطي صورة على الشكل الذي تتعامل به هذه المصالح مع نوعية وطبيعة أفق التكوين في شعبة الفلسفة وغيرها من الشعب، وهو الارتجالية والظرفية، وغياب تصور محكم استراتيجي على المدى البعيد في تكوين المدرسين، والضبابية وعدم التنسيق مع الفاعلين المباشرين بالمدارس العليا. من خلال وضعها المكونين والشعب أمام الأمر الواقع، والدعوة بشكل غير مباشر للعمل بمبدأ سلك واقضي وهذا الشي لا أعطى الله؟ هل بهذا سنحقق الجودة المنشودة في التكوين؟ وهل بهذه الأساليب سنجدد تدريس المادة بالثانوي؟ خلاصة القول هي أن ما يميز عمل هذه الجهات بالوزارة الوصية هو غياب استراتيجية واضحة، وسيادة الارتجال والعشوائية، وعدم الإنصات للآخر. حيث نتج عن هدا الوضع العمل في ظر وف صعبة جدا، من ضحاياها طبيعة التكوين في شموليته، ونتائج وخيمة على جميع الأطراف الفاعلة فيه.

إن الذي جعلني أجهر بهذا هو الشعور بالمسؤولية الخطيرة التي على عاتقنا، وبثقلها، ونبله، ورفضي الخاص لهذا المنطق الذي يحول فيه التكوين إلى معاناة وسباق مع الزمن،  ومحاربة طواحن الهواء. لذلك هو  دعوة لمراجة النفس ومراجعة إستراتيجية التكوين في شعبة الفلسفة . وإذا كنت قد نبهت للعوائق،  فان الحلول متضمنة في هذه العوائق ذاتها، وفي مقدمتها الإرادة والجرأة وهي لا تنقصنا. وسنظل نلح على هذا لما فيه مصلحة التكوين وتطوير تدريس الفلسفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق