محمد المصباحي
"ذلك أن الكائن البشري لا يعيش في مدينة إلهية للمتصوفة والأبطال والأولياء، لكن في مدينة أشخاص وحسب حيث لا يرفض وجود الأفراد الاستثنائيين، إلا أنهم بالأحرى نادرون" الحبابي، حرية أم تحرر؟
إن ما يميز فلسفة الحبابي الشخصانية هو نظرتها الواقعية والتجريبية لفعل التشخصن باعتباره نفيا للكائن المحض العاري من أي تحديد، ونبذا للوحدة المانعة لأي اختلاف. ونفي الوجود أو الكائن معناه تعبئته بشخصيات متعددة ومتحولة يشكل مجموعها ما يسميه الحبابي بالشخص. فالشخص عند الحبابي هو في بحث مستمر عن شخصية جديدة يتقمصها، أو على حد تعبيره، عن قناع جديد يلبسه. أي إنه يتحقق كلما ابتعد عن الكينونة الساكنة للارتماء في دوامة التعدد والتطور اللذين لا قرار لهما إلا الموت. فهل معنى هذا أن الأنا في "الشخصانية الواقعية أو الإسلامية" بات فاقدا لوحدته ولهويته الذاتية الصميمية تماما، ليصير مجموعا من أشخاص لا صلة بينها ولا لمحة تربط بين عناصرها المتباينة؟ هل أضحى الفرد عند الحبابي مجرد "مجال" أو فضاء" تتراكم وتتزاحم فيه جملة من الهيئات الإنسانية المتجانبة التي لا ناظم بينها، أم أنه على الرغم من مسعى التعدد هذا ظل يحن لاعتبار الوحدة هي الأساس الذي يحقق هوية الشخص المتميزة؟ بعبارة أخرى، هل كان الحبابي في نهاية الأمر من مناصري نوع من "الأشعرية" التي تقول بالشخص المنقسم في ذاته وعلى ذلك، الذي لا يملك المبدأ الواصل بين شخصياته التي يلبسها في كل آن وحين، أم أنه كان على العكس مما يبدو في الظاهر يدافع عن صنف من "الرشدية" تدافع عن وحدة المختلف وهوية المتضاد في فضاء الذات الواحدة؟
- 1 -
كما قلنا، يبدو الحبابي لأول وهلة مناوئا لفكرة وحدة الذات البشرية، مما يجعل فلسفته فلسفة تعدد وصيرورة، ويجعل الحبابي أقرب ما يكون إلى ديموقريط وهيراقليط منه إلى بارميند وزينون. فكل شيء في الأنا البشري يتغير ويتعدد، ولا شيء يبقى على حال واحدة، سواء تعلق الأمر بالشخص أو بمحيطه النفسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي، أو بالمفاهيم والأفكار، أو بالقيم والمواقف والرموز التي تؤطر أفعاله وسلوكه. ومن ثم كانت دعوة الشخصانية إلى التعدد والتطور هو ما يضفي عليها سمة الواقعية.
وإذا كان الحبابي يقر "للكائن" بدوره الأساس في بنية الشخصية لأنه هو "ما يصير به الشخص شخصا وما يخول الشخص من الاندفاع في الصيرورة" (64 :2)(1)، فإنه مع ذلك يظل مجرد نقطة بداية لا غير، أو قل "الوعاء" الذي ينتظر الإمتلاء بالشخصيات ليتحول إلى شخص. والتشخصن هو الذي يملأ هذا الوعاء الفارغ، وينقله من حالته العامة (الكائن) إلى وضعه الخاص (الشخص)، أو إنه تلك الحركة التي "تفردت الكائن البشري" (142 :2). ولا يمكن أن يقوم التشخصن بدوره هذا لو لم يكن متصفا بالصيرورة والتجاوز والتحرير(2). من أجل ذلك كان التشخصن أداة تفجير الكينونة من أجل تحويلها إلى صيرورة وتاريخ، وهذا ما جعل الحبابي يقول: "إن الشخص موضوع الحرية هو أكثر من الوجود والدازين (الموجود المحدَّد بالمعنى الهيدجيري)" (175 :3).
ومن هنا نفهم لماذا لم تكن الشخصانية الواقعية تطمع في صياغة تعريف جامع مانع للإنسان، لأن ما كان يشغل بالها هو رصد الخط البياني لدينامية تطور الشخص وتتبع أشكال تجلياته المتعددة، لا وضع اليد على ماهيته الثابتة والخالدة. وهذا ما حدا بالحبابي إلى اعتبار المقولات العرضية -كمقولات المِلْكية والإضافة والفعل والانفعال والزمان والكيف- المجالات الواقعية التي يحقق فيها الكائن تشخصنه، والأدوات الفعالة التي تمكنه من الاقتراب من "حقيقته" والقيام بفتوحاتها الشخصانية. فما هو عرضي صار عند الحبابي هو القادر على تعبئة الكائن بمقتنايته التي تحقق هويته أو هوياته.
ومن هنا نعتقد أن فعل "التشخصن" فعل مضاد لفعل "التعريف"، لأنه إذا كان هذا الأخير يتجه نحو تقليص المعرَّف وتسويره وإبعاد كل ما ليس مقِّوما وذاتيا من صفاته العرضية للوصول إلى جوهره وماهيته، فإن "التشخصن" هو فعل للانفتاح على كل المؤثرات العرضية التي تُغنِي الأنا في مجرى تكفيه مع واقعه ومحيطه. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الحبابي رفع، بجهة ما، المقولات العرضية إلى درجة مقولة الجوهر بعدما استغنى عن هذه الأخيرة. ومما يشهد على ذلك أنه متى توقفت إحدى المقولات العرضية عن الفعل، كان ذلك إيذانا بتوقف الشخص عن التشخصن وتحوله إلى مجرد موضوع من الموضوعات، وعودته بالقهقرى إلى كينونته المحضة. إن تحليل الشخص من زاوية المِلْكية والفعل والإضافة وباقي المقولات العرضية الأخرى يؤشر على وجود رغبة قوية لدى الحبابي في تفتيت معنى الشخص وتقويض وحدة أناه.
ومما يدل على هذا الميل عند الحبابي أنه لم يكن يرقه الكلام بلغة العام والمجرد عن المحطات أو المنازل الكبرى لمسيرة التشخصن، بل بلغة الخاص والملموس. فالحرية عنده حريات: حرية السجين، وحرية الكاتب، وحرية البرجوازي، وحرية العامل، وحرية المستعمِر وحرية المستعمَر الخ.، وليست حرية واحدة عامة لأنا عميق كما كان يقول برغسون. الحرية عنده إمكانية للفعل في محيط مُعطى للوصول إلى هدف محدد(3)، وليست تلك الطفرة الروحية التي تسمو فوق الواقع الجزئي المعاش؛ لقد صارت الحرية في شخصانيته مجرد "مجموع إيجابي وكيفي في طريق التحقق حسب إيقاع تشخصن الأنا" (152 :3)، وليست مفهوما كليا مجردا أو صفة تطبع الذات البشرية في صميمها كما يدعي الوجوديون. ولذلك فضل الحبابي أن يتكلم عن التحرر بدل الحرية، لأنه أنسب للدلالة على الفعل الملموس والمضني للتخلص من حتميات الطبيعة وإكراهات الواقع البشري. ونفس الأمر بالنسبة للأنا، فالأنا أنوات وشخصيات لأنه "لا وجود لأنا مطلق بالنسبة للوعي... بل ليس هناك إلا أنا في وساطة" (76 :2) تقوم بها الثقافة الخاصة بمحيط معين وحضارة محددة. والشخص حصيلة شخصيات لا شخصية واحدة، طالما أن العلاقات الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية والثقافية التي تفصله في تغير مستمر وتتخذ أحوالا لا حصر لها.
ويقودنا الكلام عن التعدد والتجريبية في شخصانية الحبابي إلى الكلام عن التغير وما يرتبط به من نفي وزمانية وصيرورة ونسبية وتاريخية. فقد أكد الحبابي مرارا على أهمية "النفي" في فعل التشخصن. فـ"اللاّ"، مثلا، هي ما يميز النوع البشري عن غيره من الحيوانات من حيث هو كائن حر وقادر على التغيير، إذ بدون نفي ما هو موجود لا يمكن أن يحصل أي تغيير(4). والتعيير هو الذي يعطي الوجود البشري معناه القوي، إذ بفضله يتمكن الإنسان من ولوج أفق الزمن وكتابة ملحمة التاريخ. والزمن هو المجال الذي يحدث فيه تطور الشخص وتفاعله مع الواقع المتحرك(5). ومن ثم كانت أحوال الوجود البشري لدى الحبابي متناسبة مع أصناف الزمن وأحواله: "فالحالية" هي زمن الشخصية، و"الديمومة" هي زمن الشخص، أما "الغد"، الذي كان يعتبره أهم لحظة في الزمن المشخصن، فهو زمن الإنسان(6). ونفهم من هذه المناسبة بين أحوال الذات وأحوال الزمن، أن "الشخصية" هي وحدها التي تتمتع بالزمن بمعناه الحي، لأن مجال "الحالية" هو الذي يتحدى الأنا في كل لحظة ويطلب منه تشخصنا آنيا باستمرار. أما "الشخص" فيوجد خارج التزمن طالما أنه عبارة عن مجموع شخصيات؛ في حين يمكن اعتبار "الإنسان" غير داخل في إطار الزمن بحكم أن تحقيقه رهين بالمستقبل، أي بالزمن الذي لم يحصل بعد. وهذا ما جعل الحبابي يولي "الحالية" أهمية خاصة ويعتبرها إحدى شروط التحرر(7)، منبها إلى أن أي خروج من "الحالية" من شأنه أن يعرض الشخص إلى نكوص وانكماش(8). ومراعاة مقتضى الزمن والتعلق بأحكامه في اعتبار الأشياء والمواقف والمذاهب والملل من شأنه أن يجعل الشخص متحليا بالنظرة النسبية نافرا من الأحكام القطعية والنهائية. فلكل زمن مشكلاته واستلاباته وصراعاته وحرياته وثقافاته ورؤاه الخاصة، وليس هناك شيء فوق الزمن والتاريخ(9).
من هنا جاء ربط تشخصن الأنا باندماجه الفعلي في سيرورة التاريخ، لأن التشخصن هو فعل انتقال الكائن من حالة الظهور في ساحة الكينونة إلى حالة الاندماج في حلبة التاريخ، وهذا ما يبرر قوله بأن "الكائن هو الذي له تاريخ" (69 :2). وبما أن التاريخ الذي ينشأ فيه الشخص في تحول مستمر، كان عليه ألا ينقطع عن التشخصن، وأن يعمل على أن يتقمص كل مرة شخصية جديدة حسب مقتضى الحال والمواضعات الاجتماعية والمواقف المذهبية والأوضاع النفسية التي يوجد في مواجهتها. فلا تطلب من الشخص أن يكون له موقف واحد ثابت على الدوام، لأن في ذلك استخفافا بكثافة وجوده وغنى صيرورته، إذ أن الشخص ذو الموقف الواحد هو الذي لم يتشخصن بعد، أو هو الذي وضع حدا لتشخصنه فانتكص إلى الوراء محتميا بحالة وجودية تُعفيه من ضنك التحدي وكد التجديد. إن الأنا عند الحبابي هو تلك القطعة من القماش القابلة دوما للتشكل في أشكال جديدة والاصطباغ بألوان غير منتظرة، رافضة أن تبقى على منوال واحد على امتداد الزمن والتاريخ.
إن الشخصانية هي فلسفة للتعدد والتطور، للتفاعل والتضاد، للاتصال بالعالم والانفصال عنه، للتأثر به والتأثير فيه، ومن ثم أمكن تعريف التشخصن بأنه "صيرورة لانهائية" و"تجاوز للأنا نحو اللاأنا". وهذا ما يسمح لنا بأن نشبه التشخصن بالنهر الهيراقليطي الذي لا قرار لسيلانه وتبدلاته، لا بالسهم الزينوني الذي يتحرك ولا يتحرك في آن واحد. وبهذا الاعتبار يصبح الشخص أداة اختلاف وتميز، و"مصدر الفروق التي تميز الأفراد" (65-64 :2؛ 77 :2).
من هنا نلاحظ بأن "وحدة الشخص" صارت في شخصانية الحبابي مهددة على صعيدين: على صعيد التعدد، إذ الأنا لم يعد يملك شخصية أو "هوية" واحدة بل عدة شخصيات و"هويات"؛ وعلى صعيد الصيرورة، لأن الشخص لم يعد له جوهر أو قوام ثابت يقاوم تقلبات الزمن وتغيرات التاريخ، بل أضحى عبارة عن توتر متحول عبر جريان التاريخ، أو عبارة عن مجموع من الأعراض والعلاقات لا كنه لها، أي لا معنى لها. ولا شك أن هذا المشهد المتفكك من الفلسفة الشخصانية يقربها من التفكير الأشعري المتأخر؛ بيد أن إصرار الحبابي على ربط تفاعلات الشخص بجملة من الحتميات من جهة، وبمجموعة من الحريات والمقاومات من جهة ثانية يبعد هذه الفلسفة الشخصانية عن المنظور الأشعري الذي يبدو أكثر انسجاما مع نفسه عندما يستخلص من مذهب العرضية على مستوى الوجود أطروحة اللاحتمية، ومن مذهب الانقسام والانفصال على مستوى الفعل البشري أطروحة الكسب واللاحرية.
- 2 -
نخلص مما سبق إلى أن الشخصانية الواقعية التي دعا إليها الحبابي في أول مسيرته الفلسفية -والتي استمرت معه في رحلاته التجديدية- تتميز في الظاهر بكونها فلسفة تعددية انفصالية تراكمية، تدعو إلى تشخصن متتال للفرد البشري، تكون حصيلته "شخصا" مكتظا بمجموعة من الشخصيات المتماسة أو المتتالية التي لا اتصال بينها. بيد أن البقاء في مثل هذا المشهد المتفكك من شأنه أن يهدد هذه الفلسفة بالتهافت والعماء، الأمر الذي لا يمكن أن يُرضي الحبابي أبدا، وهو الرجل الإيجابي المؤمن بالتغيير. فما هي التحويلات الدلالية التي أجراها الحبابي على مفاهيمه وأسمائه من أجل تجاوز حدود اللحظة الامبيذوقلية الأولى -لحظة التفكك والصراع- إلى مشارف لحظته الثانية التي يسود فيها مبدأ الوحدة والتآلف؟
نعم، لقد اعترفت الشخصانية الواقعية بالثنائية والانقسام الأصلي في الذات البشرية إلى كائن وشخص، كما دافعت بحرارة عن أطروحتها القائلة بأن مسلسل التشخصن موجه أساسا ضد الكينونة من أجل نفيها، ومع ذلك فإن هذه الفلسفة لم تكن تذهب إلى حد إقامة تناقض سافر بين الكينونة والشخص. فالحبابي لم يكن يشعر بأي حرج في الاعتراف بالعلاقة التقابلية والتضافرية في آن واحد بين الكائن والشخص. وما ذلك إلا لأنه كان أميل إلى إخضاع تقابل التضاد لعلاقة الإضافة، لأن المجال الإنساني لا يحتمل إقصاء أي عنصر في عملية إنجاز الشخص والإنسان. بل أكثر من ذلك يذهب الحبابي إلى القول في بعض مراتب تحليله بأن "الكائن" مبدأ وحدة واستمرار بالنسبة للشخص، لأنه هو "المعطى الأول الذي لا يتغير أبدا بالنسبة للنوع البشري" (64 :2)، وهو جِذرُه العام المشترك، الذي تكمن فيه كل التطورات اللاحقة التي تطرأ على الأنا فتجعله شخصا من الأشخاص(10). وضمن هذا المنظور جاء رفض الحبابي لأي تعارض بين المِلكية والوجود، أو إن شئت بين الملكية والماهية، إذ "الأنا هو ما هو، وهو ما يملك في آن واحد... ذلك أن حرياتنا تتموضع في مستوى التأليف الأصيل بين الملكية والوجود" (145-144 :3)، والتشخصن هو الذي يوحد بينهما في وحدة صميمية لا يفصلهما إلا الموت أو ما يقوم مقامه (79 :2؛ 144 :3).
ولم يرفض الحبابي التعارض الذي يقام عادة بين الملكية والوجود وحسب، بل رفض أيضا مجموعة أخرى من الثنائيات التي قالت وتقول بها فلسفات قديمة وحديثة، كالفصل الذي أقامه أفلاطون بين الفكر والمادة، أو بين النفس والجسم، حيث دافع الحبابي في مقابل ذلك عن "أن فلسفة للتحرر ستكون هي تلك الفلسفة التي تبين كيف تتحقق فعليا، وبالعمل، الوحدة الدينامية للفكر مع المادة" (168 :3). وبنفس القوة ندد الحبابي بالانقسام الذي أحدثه برغسون في الذات البشرية بين أناتين: "أنا عميق" يتجلى من خلاله الإنسان كائنا حرا، و"أنا سطحي" يكون تحت رحمة المواضعات الاجتماعية والحتميات الطبيعية. وقد ندد بهذا الفصل أولا لأنه يؤدي إلى السقوط في قلق قاتل من جراء تفتيت الذات البشرية، وثانيا لأن هذا "الأنا العميق" لا يمكن أن يكون إلا مظلما، مما يجعله غير قادر على إضاءة أوضاعنا وحل أزماتنا(11). ولتلافي هذا القلق والغموض قدم الحبابي بديل "الوجود أو الأنا الكلي"، الذي يضم كل مكوناته المادية والروحية، النفسية والمجتمعية، الثقافية والسياسية.فالإنسان يكون أكثر حرية متى فعل "بجُماع شخصه"، لا بجانب دون آخر. ولم يواجه الحبابي بمبدإ "الكلية" هذا أولئك الذين يشطرون الذات البشرية إلى عنصرين متطاحنين وحسب، بل وأيضا كل من ينظر إلى الإنسان باعتباره ذا طبيعة أحادية، مادية كانت أو روحية.
وبنفس الروح الكلية والجامعة رفض الحبابي أيضا الفصل بين الأنا والنّحن، وبين الأنا والعالم، وبين الحرية والحتمية، والمتصل والمنفصل. فالأنا يفترض النّحن والعالم "لأن تاريخ ذات ما لا يمكن أن يكون منعزلا لا عن تاريخ النّحن والجماعات المنخرطة في التبعية المتبادلة المحايثة لبنيتها، ولا عن ثنائية ذات-موضوع، ولا عن علاقات الأنا-عالم كما تتجلى بالفعل في التجربة" (158 :3). ذلك أن وحدة الذات مع محيطها هو الذي يُشخْصنها ويمنحها أناها ويحقق لها غناها(12). ومن ثم "فالأنا يبدأ في التحرر في اليوم الذي يعي فيه عبوديته ويحاول أن ينفلت منها بمعرفة العالم الخارجي وبمعرفة الأنا-ذاته باعتباره عنصرا مجسدا في النّحن" (162 :3). ويعطي الحبابي لمبدإ تبعية الأنا للنّحن دورا وقائيا على الصعيد النفسي والأنطولوجي معا عندما يذهب إلى القول بأن هذه التبعية هي آخر كلمة في الشخصانية الواقعية، لأن غاية هذه الفلسفة هي "منع الكائن البشري من السقوط في خطيئة نرجس، أو كما يقول لوي لافيل "أن يرى ذاته بدل أن يعيش"" (348 :1). ولذلك لا نستغرب إن وجدنا الحبابي يقوم بما يشبه تحويل الكوجيتو الديكارتي ذب النكهة الأنطولوجية إلى كوجيتو مجتمعي: "نوجد بالطبيعة (الوجود معطى خام)، لكننا نصير "وجودا مفكرا" عندما نتوصل من المجتمع بطرق التفكير وبمادته، التي هي المفاهيم" (145-144 :3)(13).
وفي نفس الإطار رفض الحبابي التعارض الكلاسيكي الذي أقيم بين الوجود والعقل(14)، وبين العقل والانفعال، أو التقابل الذي نصب بين الفلسفة والدين، وبين الفلسفات المثالية والمادية، أو الصراع الذي افتعل بين التيارات الفلسفية المتباينة كالوجود والماركسية والشخصانية الخ. فالتشخصن في نظره يستطيع أن يتجاوز كل هذه التقابلات والصراعات المذهبية، لأنه حركة توحيدية "ترمي إلى تحقيق الكل الشامل". وقد كان صاحب الفلسفة الشخصانية يؤمن بأن "الوحدة تبقى هي الفرصة الوحيدة للشخص من أجل أن يتشخصن ويؤنسن كل ما يحتك به، لأن كثافة الإنسان متعلقة بها" (347 :1)؛ وهو يؤمن بالوحدة لا على صعيد الذات الفردية فحسب، بل وكذلك على مستوى الجنس البشري عامة. وهذا ما جعل "الشخصانية الواقعية" "موقفا متفتحا دائما على الحياة أمام المستقبل، ومشرئبة إلى تجاوز تعددية الأعراق، الإيديولوجيات... وكل الاختلافات والتعارضات، لغاية الإعانة للوصول إلى الوحدة النوعية للموجودات البشرية" (187 :3).
ويبلغ تعلق الحبابي بمبدإ الوحدة أوجه عندما يصف المرحلة الأخيرة من تشخصن الأنا، وهي مرحلة "الإنسان". فيطالبنا، من أجل تحقيق هذه المرحلة، أن تتخلى عن مجموع شخصياتنا التي اكتسبناها عبر احتكاكنا بالآخرين، ومن خلال تطوير فعالياتنا السيكولوجية والاجتماعية والثقافية تطويرا نوعيا. والفعل الذي يتجاوز به الأنا مرتبة "الشخص" إلى "الإنسان" يسميه الحبابي بالتعالي، الذي يعرفه تعريفا عاما يمكن أن يندرج تحته مفهوم التشخصن عندما يقول عنه بأنه "توتر باطني يدفع إلى تحقيق الممكنات التي تتحرر وتلح في أن تتحقق في الوجود" (79 :2). إلا أنه إذا كان "التشخصن" فعل تجاوز الكائنية، فإن "التأنسن" أو "التعالي" هو فعل تجاوز التشخصن. ولذلك كان على التعالي أن يحررنا من الزمن الفيزيائي، ومن الفوارق الاجتماعية والسيكولوجية والتاريخية والثقافية، للانتقال إلى المنزلة التي يصير فيها الفرد كل الناس(15). هكذا تنتهي الشخصانية الواقعية إلى عقد تآلف بين الكينونة والتشخصن والتعالي في الإنسان الكلي الذي يمثل الإنسانية في ذاتها بكل ما تحتويه من العناصر المتضاربة محايثة كانت أو متعالية. فكل ما كان متعددا مختلفا يصير في مقام الوصول، مقام الإنسان، شيئا واحدا(16).
- 3 -
من حق المرء أن يتساءل عن معنى وجود فكرة "التعالي" في فلسفة تدّعي الشخصانية "الواقعية" بحكم التعارض السافر بين التعالي والواقعية. لكن الحبابي كعادته في التأليف بين المتقابلات كان بالمرصاد للمخاطر التي يمكن أن ينزلق إليها فعل "التعالي"، فحاول أن يطوق دلالة هذا الفعل بجملة من التحفظات حوّلته إلى مفهوم مضاد لدلالته الأصلية تقريبا. فقد صرح صاحب الشخصانية الواقعية بأن غايته من وراء دعوته إلى نزع الأقنعة لم تكن هي عودة الشخص بالقهقرى إلى منزلة "الكائن"، أي إلى الحالة الغُفلة والفجّة من الأنا والذي يمثلها بُعْدُه البيولوجي، بل كانت غايته الذهاب بالشخص بعيدا إلى الأمام للوصول به إلى مرتبة الإنسان. لكن في مقابل ذلك، رفض الحبابي أن يكون "تعالي" الشخصانية مرتبطا بالفوق، لأنه لو كان التعالي آتيا من فوق، لما تمكن الشخص من أن يرقى. هذا علاوة على أن الناس لا يرغبون في أن يصيروا آلهة، "لأنه لا فائدة من ذلك" على حد قول سارتر(17)، بل كل ما يطمعون فيه أن يكون كل واحد منهم إنسانا وحسب. ولذلك أراد من "التعالي الواقعي" أن يجري داخل العالم، ويتحقق بالمحايثة(18)، إيمانا منه بأنه "بدون تعال لا وجود للشخص، وبدون عالم لا وجود للتعالي" (165 :1). من جهة ثانية، لم يكن القصد من وراء النداء إلى "نزع الأقنعة" أن يدفع بالأنا للانحباس في نرجسية لا يرى فيها الأنا إلا ذاته وحسب، بل كانت الغاية من الدعوة إلى تجاوز الشخصيات المكتسبة جعل الإنسان فوق المواضعات الاجتماعية، بعيدا عن التحيزات والولاءات العرقية والثقافية، والتشيعات المذهبية القطعية، من أجل الانفتاح على الكل، أي على الإنسانية والعالم والتاريخ.
ويرجع تنديد الحبابي المزدوج بعزلة الأنا النرجسية، أو ذوبانها في أتون المطلق، إلى خشيته من تشويه حقيقة الإنسان بتصويره قادرا على أن يصبح في يوم من الأيام كاملا مكتفيا بذاته، بدل النظر إليه في حيثيته الواقعية باعتباره كائنا ناقصا لا تنقطع خصاصته إلا بموته. فالحبابي لم يكن بوسعه أن يقبل بفكرة الإنسان المتوحد الكامل المستغني بنفسه عن غيره وعن العالم، كما كان يقول ابن باجة مثلا، لأنه لم يكن يرغب في الوصول إلى أفق نهائي تسكن إليه النفس وتتوقف فيه عن كل أفعال التشخصن والتأنسن. هذا في نفس الوقت الذي لم يكن بمستطاعه أن يتصور "التعالي" نتيجة قدر غاشم، غايته التكفير عن خطيئة أصلية، أو أن يتصوره مجرد ممارسة مجانية لا معنى لها ولا طائل من ورائها(19)، بل إنه كان ينظر إلى "التعالي" باعتباره "فتحا لسبل الاختيار أمام الإنسان"، و"وضعا للعصر الذهبي أمام الإنسان لا وراءه".
وبوسعنا، في هذه اللحظة من متابعتنا لتفكير محمد عزيز الحبابي، أن نسجل وجود أحد الملامح الرشدية المعروفة، وأقصد بذلك فكرة وحدة الإنسانية. فالحبابي لم يكن يتردد في القول بأنه "عندما يتوفّق التشخصن في تحقيق الإنسان، يكون قد بلغ المرحلة الحاسمة، حيث يصبح الأنا منسجما في ذاته، مما يمكنه من أن يقوم بدوره الحق في الحياة، أي تحقيق نزوع البشرية جمعاء. وبقصير العبارة، في هذا المستوى من التشخصن تطابق النزوعات الخاصة الأهداف العامة النوعية، إذ كل شخص (وقد صار إنسانا) يُجسم الإنسانية" (78 :2). بل إننا نجد لدى الحبابي لغة "كلية" شبيهة بتلك التي استعملها ابن رشد في وصف العقل الهيولاني أو في تحليله للحظة الاتصال بالعقل الفعال، عندما يقول مثلا إن "الشخص لا يكتمل في الإنسان إلا بقدر ما يشعر أنه مجموع الآخرين" (86 :2)، وإنه "لكي "تكون كلا"... يجب أن ترتفع إلى مستوى الإنسان" (174 :1)، وأن "الإنسانية جمعاء تصبو إلى تحقيق هدف أسمى، تحقيق الإنسان المتفتح الكلي" (78 :2).
- 4 -
لقد تبين لنا بوضوح أن ما يميز فكر الحبابي هو جدليته التكاملية التي تستطيع أن توفق بين روح أشعرية تفكيكية وعرضية، وروح رشدية وحدوية وجوهرية، مما يعطي الانطباع بأن ما كان يخشاه الحبابي هو الاستقرار في موقع بعينه لا يبرحه، والالتزام بموقف واحد لا يحيد عنه. فالحبابي رجل توازن بين مختلف المواقف والتيارات. وهذا ما نجده خاصة في توزيعه الدقيق للأدوار بين الكائن والشخص والإنسان: فإذا كان "الشخص" قد كُلّف بالنهوض بدور تفردن "الكائن" وصيرورته، أي فصله عن الكل المتجانس، فإن كلا من "الكائن" و"الإنسان" قد عهد إليهما بلعب دور التوحيد والاستمرار. فإذا كان الشخص ميدانا للتعدد والصيرورة، فلأنه مطوق بالوحدة من طرفيه، إذ توجد في مستهل ظهوره إلى الوجود وفي أفق انخراطه في التاريخ.
ولكن هذه الرغبة في ضم كل شيء وتبني أي موقف لابد أن تلقي بظلال قوية من التشويش والغموض على هذا الفكر. فإذا كنا لا نجادل مثلا في اعتبار الكائن هو ما يوحد النوع البشري، لأنه هو البذرة الأولى التي تكمن فيها كل فعاليات الأنا وانفعالاته، ويلتقي في مجالها كل أفراد النوع البشري، فإننا لا نفهم لماذا يحصر الحبابي مجال الكائن أو الوجود في الجانب "البيولوجي" للشخص، أي في أبعاده الجسمية والانفعالية والغريزية دون أبعاده العقلية. من جهة أخرى، يصعب علينا أن نفهم كيف يكون "الإنسان" أداة الوحدة الداخلية للشخص في ذاته، وفي نفس الوقت أداة وحدته الخارجية مع كل أفراد النوع البشري، أي كيف يجوز لنفس الشيء أن يكون أداة الوحدة الفردية والوحدة النوعية في آن واحد وهما أمران شبه متعارضين؟ ثم هل تعتبر لحظة "الإنسان" لحظة لتجاوز الكائن والشخص معا، أي لحظة القطع مع أفعال تشخصن الشخص، أم أنها في حقيقة الأمر لحظة انبثاق أفعال جديدة من الفتح والكشف الصوفي؟ هل كان الحبابي يدعو إلى توقيف لأفعال التشخصن للعودة بالشخص إلى كهف الكائنية الغُفلة وإلى درجة الصفر من الوجود، أي إلى حال ما قبل تاريخ الشخص، أم أنه كان ينادي ذوي الفطرة الفائقة إلى خوض مغامرة إلغاء المدينة والتاريخ والتوتر والصراع من الحسبان، والاكتفاء بحدس وجداني متعال، وترك الجمهور العريض الملتصق بالأرض يعاني اختلافاته وصراعاته في مرتبة "الشخص"؟
وهنا يحق لنا أن نتساءل: أليست منزلة الإنسان في فلسفة الشخصانية الواقعية منزلة زائدة لا غناء فيها؟ ذلك أننا عندما نطالع تعريف الحبابي للإنسان بأنه "الكل من الكائن والشخص"، ونقارنه بتعريفه للشخص الذي هو "الكل المكون من الكائن والشخصيات"(20)، نجد أن التعريفين يتطابقان في جنسهما وفصلهما معا. فالجنس يحتفظ باسمه في التعريفين، وهو "الكائن"؛ أما الفصل، فبالرغم من تغيره في التعريفين من "الشخص" إلى "الشخصيات"، فإن مضمونهما يظل واحدا، طالما أن الشخص هو مجموع الشخصيات.فإذا ثبت أن لا فرق في الجوهر بين "كلية" الشخص و"كلية" الإنسان، فلماذا نضيف هذه المرتبة الأخيرة، اللهم إلا إن اعتبرنا "الإنسان" مجرد أفق رمزي نسعى إليه دون أمل في الوصول إليه، بينما الشخص هو تلك الحلبة التي يجري فيها الصراع وتنسج فيها وقائع التاريخ.
ونعود إلى مفهوم الشخص الذي لا يخلو هو الآخر من الغموض، فهو إذا كان بالتعريف أداة فصل وتمييز للفرد عن غيره داخل الكائن، فإننا نجد الحبابي يقدمه لنا أيضا باعتباره أداة وصل وتوحيد على مستوى الشخصيات. ثم إنه إذا كان الشخص عند الحبابي يمثل الجانب العقلي من الأنا، والكائن جانبه الانفعالي، فكيف يجوز ضمهما في وحدة جامعة علما بأن العقل أداة فصل والوجدان أداة وصل. من جهة أخرى، إذا كان الشخص أو التشخصن حركة من أجل استكمال الذات، فما هي علة هذه الحركة، هل هو النقص الذي ينتمي إلى العدم أم هو التضاد الناتج عن التكوين التقابلي للذات البشرية والذي هو أيضا مظهر من مظاهر السلب، أم أنها ذلك الشوق الذي يسكننا نحو تحقيق غايتنا المطلقة، أم أن علة حركة التشخصن هي الكائن ذاته؟ بوسع الحبابي أن يجيبنا بكل هذه الإجابات، فهو لا يدعك تفلت من بين قبضته.
* * *
بقيت مفارقة أخيرة تتعلق هذه المرة بمآل فكر الحبابي وفلسفته، وهي أنه إذا كان الهاجس الذي سكن هذا الفكر هو الانفتاح على الواقع الذي يعيشه والعصر الذي يحياه، فلماذا لم ينفتح عليه هذا الواقع، ولم يتجاوب مع فلسفته، بالرغم من محاولاته المتعددة لتنويع خطابه وتغيير أجناس كتابته وتعديد منابره. لقد طالما حلم الحبابي بحلم التغيير واشتاق بكل كيانه أن يشارك فيه، لكنه وبالرغم منه ظل غارقا في أوهام التفسير. هل معنى هذا أن الزمن الإيديولوجي الذي كان يحياه العالم العربي هو السبب في عدم التواصل هذا، أم أن الخطاب الفلسفي بطبيعته لا يمكن أن يُوجَّه سوى إلى الخاصة (إشكالية ابن رشد)، أم أن عقلانية الحبابي كانت أغنى من أن يتلقاها المثقف العربي، أم أن السر في إهمال الثقافة العربية للفكر الشخصاني هو عدم إيمان هذه الثقافة بالإنسان الفرد، أم أن ذلك راجع إلى الطابع التكاملي التوافقي لهذا الفكر الذي يفقده نكهته الخاصة به؟
بوسعنا أن نجيب على هذا التساؤل بالطريقة الحبابية الجامعة. لكننا مع ذلك نريد أن نضيف أن عالمنا العربي ظَلَم كثيرا الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، وفي ظلمه له ولامثاله ظَلَم نفسه وخسر كثيرا، لأنه لو تواصلنا مع مثل هذا الفكر بروح من التواضع وعلى نحو محايث، إن نقدا أو متابعة، لأمكننا أن نكرس تقليدا فلسفيا قويا من شأنه أن يقي ذاتنا العربية من الرجوع إلى كهف الكينونة الخامل.
هوامش وحدة الكائن والشخص:
1) سنعتمد في هذا المقال على عملين أساسين ينتميان إلى مرحلة "الشخصانية الواقعية" هما من الكائن إلى الشخص، وحرية أم تحرر، وسنشير إلى العمل الأول في أصله الفرنسي رقم 1: De l’être à la personne, essai de personnalisme réaliste, Paris, PUF, 1954؛ وبرقم 2 إلى الترجمة العربية لجزء منه: من الكائن إلى الشخص، دراسات في الشخصانية الواقعية، القاهرة، دار المعارف 1962؛ ثم برقم 3 إلى العمل الأخير في نصه الفرنسي: Liberté ou libération, Rabat, Okad, 1989، ويتبع هذه الأرقام رقم الصفحة في الكتاب المشار إليه.
2) إن التشخصن لا يقبل بالوقوف عند الفرد الثابت، بل إنه على العكس "يفتح أمام الكائن صيرورة لانهائية ووسائل لتجاوز الذات بالذات تجاوزا نحياه في تجاربنا اليومية. وبالتالي يحررنا التشخصن من كل الأنظمة المغلقة الآلية، كما يحررنا من المعتقدات التي تجعل من الإنسان كائنا لا حول له ولا قوة لتجاوز وضعه" (78 :2).
3) انظر 14 :3؛ 22؛ 45.
4) انظر 61:3؛ والتغير عند الحبابي لا يجري على نحو واحد بل على عدة أنحاء، ومنها النحو الجدلي، فالليبرالية أو حرية التنافس تؤدي في نهاية الأمر إلى الاستبداد، والمالك إذا وصل قدرا كبيرا من الملكية قد يصير مملوكا لممتلكاته، والمكننة التي خلقها الإنسان من أجل التخفيف من عناء الإنسان تصير أداة إفقاره وتعطيله عن العمل، والعمل ذاته الذي كان في الأصل أداة تحرر يصير أداة استعباد واستكراه عندما يساء استعماله. هكذا تكون جدلية السيد والعبد هي التي تتحكم في خط سير كثير من الأفعال والانفعالات والمقامات. إضافة إلى ذلك ليس هناك نوع واحد من التغير بل يوجد على الأقل نوعان: فهناك التغير الكمي الذي بموجبه ينتقل الشخص من شخصية إلى أخرى أو من حالة عرضية إلى أخرى؛ وهناك التغير الكيفي الذي ينتقل الفرد بمقتضاه انتقالين أحدهما من الكائن إلى الشخص، والثاني من الشخص إلى الإنسان.
5) انظر 57 :3.
6) انظر 131:2.
7) انظر187:3 .
8) انظر 163:3.
9) ولعل اعتبار الزمانية بهذا النحو من الحدة هو ما جعل الحبابي يفتح فلسفته على المدينة والحياة، و"يصيغ رأيه انطلاقا من علاقاته مع المدينة" (152 :3)، إيمانا منه أن أية فلسفة تنشد الخلود فلا بد لها من ركوب مركب الزمانية، ومن ثم كان يعتبر أن "كل فلسفة لا تشكل جزء لا يتجزأ من حركة فكر وعمل عصرها تظل على هامش الفعل، وبالتالي لا يمكنها أن تدعي نها تعمل من أجل التحرير البشري" (178 :3)، ولذلك كان يرى أن "على الأبحاث الفلسفية إذن أ يكون لها اتصال مباشر وصميمي مع الحياة، وإن هي نشدت الخلود فمن خلال الزمانية" (174 :3)؛ ولعل تعلق الحبابي بالزمانية أو بالأحرى بالحالية هو الذي طبع فلسفته بطابع الانفتاح، فكان لا يخشى أبدا أن ينهل من هذه الفلسفة والفلسفة المضادة لها، وأن يستعير من أصدقائه وأعدائه، دون أن يخشى من كشف استعاراته وانتماءاته، فقد كانت كل المعارف البشرية تهمه وترشده إلى فهم الشخص (153 :3). إلا أنه في المقابل لم يكن مضطرا دائما إلى أن يتقيد بنتائج التيار الفكري الذي يستعير منه بعض أدوات تحليله.
10) انظر 78 :2.
11) انظر 29:3.
12) انظر 28:3.
13) كما يقول: "فالذي يَقْدِم إلى العالم هو جسم من غير "كوجيطو"، أي جسم عاجز عن وعي هويته، وعن أي شعور بفعالية ما، فالآخرون هم الذين يعطونه "الأنا" ويعاملونه على أساس أنه "ذات"..." (140 :2)؛ وفي مقابل ذلك يذكر بأن "العزلة لا تحرر" الإنسان (187 :3).
14) بالرغم من تنديد الحبابي بالجانب الاستدلالي من العقل بسبب دلالته على الفكر الوسطوي بامتداداته اللاهوتية، (176 :3؛ 102:2)، وبالرغم من محاولته الجادة لجعل مفهوم التشخصن مفهوما جامعا لكل العوامل الفعلية والانفعالية والروحية والعقلية، فإننا نلاحظ لديه وجود نزعة عقلانية قوية. فقد أعطى الحبابي العقل مكان الصدارة في إحداث الوحدة والانسجام بين العناصر المكونة للشخص البشري، ونقل الأنا من الكائن إلى الشخص. بل أكثر من ذلك عهد فيلسوف الشخصانية إلى العقل بأن يقوم بمهمة مناهضة الغرائز ومناوءة الأهواء والرغبات الدفينة، أي محاربة الجسد والقوى التي لها علاقة به. وهذا ما يجعل عقل الحبابي عقلا قامعا مناهضا للطبيعة والوجود. وبهذه الجهة يندرج عقل الحبابي ضمن المفهوم الكلاسيكي والوسطوي للعقل، لا ضمن عقل الحداثة وما بعدها.
15) انظر 234 :1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق