بنسالم حميش
إن الجمعية الفلسفية المغربية، جمعيتنا، لمن شأن وجودها الفاعل أن يحفزنا على خلق تقليد الحوار بيننا، وذلك بدءا بتذويب جليد اللاتواصل بين الذوات والتخفيف من وطأة زهد بعضنا في بعض. فالحوار الحق، المنافي لحوار الصم، يدفع كل منضو فيه إلى تعلم تقدير الآخر والإنصات إليه، كما إلى أجزاء فحوص صحية على فكره في ضوء ما يراه ويذهب إليه هذا الآخر، وفي عمليات التواصل هاته، بشرط أن تكون راقية هادفة، تمحي علاقات القوة والسلطة لتحل محلها علاقات الاعتراف والتحضر. إن ما يلزم أن يبرم بيننا ويسري هو ميثاق أخلاقي مضمونه أن لا سباب ولا طعن في الكرامة أثناء ممارسة ما نحن في أشد الحاجة إليه: مناظرة الأفكار والحق في النقد، أي ما أسماه بعض القدامى كالتوحيد "المثاقفة".
في انحسار وظيفة النقد
في الموضوع الذي تقترحه علينا جمعيتنا ("حاضر" ولا أقول راهن الفكر الفلسفي بالمغرب، حتى لا أنساق وراء تداعيات لغوية لا طائل تحتها)، في هذا الموضوع، هناك صعوبة حقيقية في طرقه ومعالجته، وطبعا، إنه بالإمكان القفز -ولا أقول التغلب- على تلك الصعوبة، إما بالحديث عن الموضوع تحت شعار: تعالوا أحدثكم عن نفسي؛ وإما بتبني اللغة الخشبية، وصفا وتصنيفا وتقريظا، وهي اللغة الخادعة التي لا تخدم في شيء الحقيقة ولا نزوعنا المشروع إلى الأحسن والأعمق.
إن الصعوبة لمشار إليها تأتي أصلا من كون النقد بيننا لم يقم بعد كتقليد صحي ملازم لكل ثقافة حية متطورة. ومما يفسر غياب أو ضعف ذلك التقليد هو أن جمهرة فاعلينا الثقافيين لم يتعلموا بعد في حقل المنتوج الثقافي، كيفما كان جنسه، أن يميزوا بين عنصرين أو مستويين كان لأرسطو فضل إظهارهما في ضوء الدقة والجلاء بنظريته حول "المقولات العشر"، وهما اختصارا الكينونة والعندية. والتمييز بين هاتين المقولتين لا مناص منه حتى لا نحد جوهر الذات العاملة الباحثة دوما بمنتوجها هذا أو ذا، الذي هو، زمانيا، من تجلياتها أو عندياتها العرضية ليس غير. وحسب كثير من العلامات والمؤشرات، لا يبدو أننا، في مناخنا الثقافي، قد استوعبنا ذلك التمييز الإجرائي الحيوي ولا أننا صرنا نصرفه في استقبالنا النفسي والذهني للممارسات النقدية المشروعة، مما يجعل متلقي هذه الممارسات، خصوصا إن نزعت إلى الاعتراض والاختلاف والتعديل، لا ينظر إليها إلا كطعن أو قذف في كينونته وقوامه الجوهري، أي كغارة هجائية على شخصه ليس غير.
إن من الغريب حقا أن تسود اليوم مثل تلك الذهنية في وسط هو جزء من فضاء عربي إسلامي، عرف ماضيه البعد وحتى القريب تقاليد النقد والسجال، نذكر منها، على سبيل التذكير فقط مقالات الغزالي في "فقهاء السوء" و"تهافت الفلاسفة"، حسب تعابيره، ومقالات ابن رشد في "تهافت التهافت" وفي المتكلمين "مرضى العقول" كما يسميهم، وأحكام ابن سبعين القاسية في حق الغزالي والمشائين المسلمين، وانتقادات ابن خلدون لمن سماهم "ضعفة العقول" من المؤرخين، الخ. إن تلك التقاليد، ولو أنها كانت تعرف أحيانا بعض التجاوزات، كما عند صاحب بد العارف، لهي من صلب تصور دينامي فاعل لأحد مقاصد التأليف عند سلفنا، وهو "أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفاة صيته".
وعموما، ما كان للقضايا والأقوال الفلسفية أن تحظى بشرف اكتساب تاريخ، هو تاريخ فضائها الفكري الثري المتنوع، لو انتفا أو ضعفت فيها وبينها الوظيفة النقدية، التي من شأنها دوما، حسب تعبير شيق لكانط "أن توقظ الفيلسوف من سباته الدوغمائي". وحتى نختصر القول ونذكر بأقرب الأمثلة إلينا، هل كان لمثالية هيجل المطلقة أن تقوم لولا معارضتها لكل من كانط وفيخته وشيلنج؟ ! وهل كان لماركس أن يضع ماديته التاريخية لولا نضاله الفكري ضد مثالية هيجل من جهة وضد الاشتراكية الطوباوية والاقتصاد الكلاسيكي البورجوازي من جهة أخرى؟ ! وهل كان لكرطجورد أن يبدع الفلسفة الوجودية لو لم يواظب على معارضة هيجل والاحتجاج الصارخ على النسقية الهيجيلية الكليانية؟ ! ونيتشه -الذي سجل أكثر من مرة أنه لم يكتب في حياته إلا نصوصا سجالية، أي ضد الثيولوجيا والأخلاق والتاريخ- هل يمكن فهمه من دون اعتبار مناهضته العنيفة لأعلام معاصرين له، يأتي في مقدمتهم شوبنهاور وفاغنير؟ !، إلخ.
إن رسوخ الوظيفة النقدية في تاريخ الفكر الحي كله، الفلسفي منه وحتى العلمي -كما يشهد بذلك الفيلسوف العالم غاستون باشلار، الذي يسم "إبستيمولوجيته" بالسجالية-، إن ذلك الرسوخ لا يظهر أنه امتد إلى حقلنا الثقافي المعاصر وصار فيه سنة وواقعا، وإذا أضفنا إلى العامل سوء أحوال التعليم فهمنا لماذا نتأخر ونتلكأ في تشغيل وتحرير أحين ما عندنا، أي القدرة الذاتية على إضاءة فكر الآخر بفكرنا والاستضاءة بفكره، أي على صنع الأفكار من أجل الرمي بها في حقول الفعل والممارسة.
شيء من النقد الذاتي
أمام واقع حالنا، كما أراه، وهو أدعى إلى تعديد السواكن وتجميد الحس النقدي، لا يسع المفكر الحريص على حياة الفكر وصحته إلا أن يختار حطاب الحقيقة ويتحيز له، سالكا طريق الممارسة النقدية، وذلك بين الحين والآخر بدءا من نفسه.
إن النقد الذاتي، سواء كان بالجهر أو بالتورية، هو ما يجعل المفكر يفلت من حبال التشنجات العقدية والمواقف الوثوقية الماثلة كمخاطر حقيقية في دروب الثقافة والبحث والتنظير. ومن باب ذلك النقد أرى اليوم في ما يخصني أن علاقتي بالفلسفة هي أشبه ما تكون بالعلاقة المجازية، وأني لا أضطلع حقا بما يمكن تسميته بعقد الوفاء الفلسفي. وقد بدا لي هذا الخصاص من خلال عاملين أذكرهما إيجازا:
1- إن الفلسفة، وهي يونانية الوضع والمنشأ، ظلت نصوصها المكتوبة بلغتها الأصلية تتظاهر لي كالنصوص الهيروغليفية أو كالطلسمات، لا أستطيع فك رموز ما أحتاجه منها إلا بواسطة ترجماتها الفرنسية. ولو أني أخذت منذ زمن قريب أهتم بمغالبة هذه الصعوبة المادية، فإني لا أراهن على تمكني من تجاوزها في المدى المنظور، هذا مع العلم أن إتقان المرجعية اليونانية، ليس على صعيد الأفكار فحسب، وإنما أيضا وبالتأكيد في مجال اللغة، هو ما مارسه ودعا إليه فلاسفة كبار كهيجل ونيتشه وهيدغر، وغيرهم.
2- إني أصبحت واع بما في كتابي "التشكلات الإيديولوجية في الإسلام"، مثلا، من عناصر كثيرة لا محل لها من "الإعراب" أو النحو الفلسفي، وذلك نظرا لطبيعة موضوع الكتاب المركزي وقضاياه المطروقة. إنه عمل لا أنضوي به في الفلسفة بقدر ما أنخرط في ما يشبه "علم كلام" جديد، مع تأثر بين بماركس وبأطروحات بعض المستشرقين.
إذا كان الفكر، كما نقرأ في تعريفات الجرجاني هو "ترتيب أشياء معلومة للتأدي إلى المجهول"، فإنه من المأمول أن يقدم كل مفكر على إخضاع أعماله لما يقوم مقام حاسوب يفرز ويميز به فيها كمية المعلوم المتداول، وذلك بقصد أن يتساءل عن المجهول الذي تأدى إليه ويمكن للنقد أن يسحبه في باب الثمرة المكتشفة أو الأكل الإبداعي النافع و(أو) الممتع. إن هذا السؤال - المسألة لهو الركن الأساس الذي يتعين على كل مفكر ناقد ارتياده باستمرار لمزاولة ما يتوجب عليه من وقفات تأملية وفحوص تقييمية نقدية.
مقاربة لذلك الركن، أتساءل: إذا اعتبرنا أن الفلسفات تصب كلها عبر تاريخ ممارستها المتعددة في رافد أساسي مشترك، هو رافد الفكر كقيمة عليا مبدعة تطلب بها الحقيقة والمعنى في شكليهما النسقي واللانسقي، وإذا رأينا أن الفيلسوف هو هذا المفكر المحنك في إلحاق الجزء بالكل، أو الشيء بمفهومه، والمتمرن، أكثر من غيره، على طرح القضايا الجوهرية والقصوى -وليس القضايا المزيفة أوة التوفيقية التي ما قوض قوامنا الفلسفي سواها-، إذا ما انطلقنا إذن من ذينك الشرطين -الذين قد تعرف بهما عقد الوفاء لروح الفلسفة- فهل يحق القول بأن كتابنا المستظلين بجناح الفكر الفلسفي والممتطين طائرته يضطلعون حقا بذلك العقد أو يستحضرونه في أيامهم وأعمالهم؟
عن بداوة الفكر
مغيبا الأسماء على طريقة البنيويين المهتمين برصد الذهنيات والميولات الإجمالية أو الأنسقة المعرفية المهيمنة، يمكن لي القول بأن أهم حائل بيننا وبين الممارسة الفلسفية الحق يتمثل عموما في ما لا أجد بدا من تسميته على جادة الوصف: بداوة الفكر.
ماذا أقصد بهذاالنعت؟
طبعا، ليس البداوة من حيث هي نمط عيش رعوي أو انتجاعي ترحالي، وهو ما عرفه تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وما حدثنا عنه في العهد الوسيط عند قبائل بني هلال وسليم كل من الإدريسي وابن عذاري، ثم بعدهما التيجاني وابن خلدون وابن الأزرق والمازوني. وكلهم، كما نعلم، خلفوا عن تلك القبائل البدو لوحات يصفونهم فيها بالمخربين والغصابين، ويحملونهم، على نحو متفاوت، فساد أمن واقتصاد المغرب، وخصوصا منه الأدنى وإلى حد ما الأوسط ثم الأقصى لاحقا... لا، إن البداوة التي نعنيها بالأحرى والتخصيص نمط معين في الحساسية والإدراك أمام الشأن الفكري والثقافي عموما، أي أنها ذهنية أو عقلية قد ترتد تاريخيا بعض أشكالها وسلوكاتها إلى نمط الوجود البدوي المشار إليه، أو على الأقل تذكر به، كإتقان حرب الكر والفر، والتجبر على السهول دون المرتفعات الوعرة، أو كالميل إلى النهب والسطو، أو إلى تخريب المباني إن كانت حاجة البدو إلى حجرها "لنصبه أثافي القدر" (كما يذكر خلدون)، إلخ. ومن تجليات تلك السلوكات والأشكال على سبيل التمثيل فقط:
- السعي إلى تقويض أنظمة معرفية، لا لشيء إلا لأجل طبخ أطروحة نظرية.
- إعمال إرادة الطي والضغط والاختزال، وإواليات التغلب والانتقاء، وحتى ما قد أسميه إرادة اللامعرفة، وذلك كله قصد التأليف والتنظير حول حقول ثقافية ثرية بقدر ما هي شاسعة متنوعة.
- الوقوف من مرمى الأهداف (أي الغنائم) موقف التسلل والانتهاز، والدفاع عنها -كمتاع- بالعنف الرمزي عند الاقتضاء.
- النزوع "الفلستني philistinisme" النافر من قيمتي الفن والجمالية، أو التصحيري في مجال حياة المفاهيم والتاريخ.
- التعلق الصنمي (أو الفيتيشي) بالألفاظ والمصطلحات وهو الممارس كانزياح تعبدي نحو هذا المذهب أو ذاك، أو نحو مفاهيم عند هذا العلم أو ذاك (الغزالي أو ابن رشد أو ابن سينا، وغيرهم).
خاصيات أخرى لبداوة الفكر -ما أسهل إدراكها !- قد نراها سارية معتملة مضمونيا كمعاطب وثغرات في الشرخ بين الفكرة والعمل، أو النظرية والتطبيق، كما في ضعف العلاقة الإيجابية بالحاجة العمومية وبأرض انغراس وانتماء، وهي المغرب الذي هو لهذا العهد، اقتصاديا وثقافيا، مغرب الغمم والكسور والانفصامات؛ مغرب يحق أن نسأل عنه: أين رؤوسنا الباحثة المفكرة مو همومه وقضاياه؟ وقد نرى تلك الثغرات والمعاطب ثاوية، أسلوبيا، في الإنشائية وغلبة ثقافة الذاكرة والشرح والإشهاد، كما في العلاقة الباردة الرخوة المضطربة مع "اللفظ الحر"، أي بلاغة القول وشفافية التعبير واللغة، المحررتين من غليظ الكلام وعويصة.
إن كل ما يمكن إضافته في سجل خاصيات بداوة الفكر السالبة المعيقة يفسر إجمالا ما يبدو عندنا كقصور أو تقصير في بناء المفاهيم والثيمات المستجدة القيمة، إن عبر الاكتشاف أو بفعل الوضع والإبداع. ولنضرب على هذا باختصار شديد بعض الأمثلة:
1– مفهوم العقل: الذي شاع بيننا كمفهوم "مبدون" أي اختزالي وأحادي البعد والوتيرة، ولا يبدو مطلقا معنيا بالاستفادة من تاريخ العقل المديد المتشعب المرتج، الذي ليس شيئا آخر غير تاريخ الفلسفة كلها كنص وروح وتقليد. بل إن ذلك المفهوم يسجل نكوصا حتى قياسا لما كان بعض السلف يقولون عن العقل من أن اسمه "يدل على معان كثيرة" (العقل الفعال والعقل الإنساني والعقل المستفاد)؛ أو "في أن بعض المسائل توجد بالفكر والرؤية وبعضها بالخاطر والإلهام" (انظر التوحيدي، المقابسات، رقم 83 و55). أما اقتران ذلك المفهوم بالبرهان والبرهانية (ولا ندري حقا على أي شيء تجري البرهنة، خصوصا إذا ما استحضرنا نظام النقد الكانطي ومواضيعه)، فإنه يبرز كباكورة أخرى من باكورات بداوة الفكر الفجة المتدافعة.
2- مفهوم الابستيمولوجيا: رغم ثقالة التلفظ عربيا بهذا المفهوم ووجود مقابله العربي (علم المعرفة)، فإن كثيرا من أساتذة الفلسفة يصرون على إيثاره وترويجه حتى ولو قام كعائق تواصلي مع باحثين في ميادين معرفية مجاورة. والأدعى إلى القلق أن أولئك الأساتذة قد حولوه إلى ماعونهم الأثير، أو معول للحفر في كل المناجم، وحتى إلى ذريعة لاستباحة المرافق في العلوم الدقيقة المعاصرة، كما في التراث كله، العلمي منه والكلامي، وفي متفرقات كالاستشراق والحركة الوطنية الفكر السياسي، ولا ندري في أي شؤون وفنون أخرى غدا؛ هذا كله في حين أن الابستيمولوجيا كما عهدناها عند واضعيها وأقطابها كباشلار وكافاييس وديسانتي وغيرهم، هي هذه المعرفة المحايثة لعلوم دقيقة والآتية من صلبها، كالفيزياء والرياضيات والبيولوجيا، إلخ. "يجب على التفكير الفلسفي -يكتب باشلار- أن يولد من العلم نفسه". وبالتالي فإن القطيعة الابستيمولوجية التي يتحدث عنها هي بين مبادئ وعمليات ذهنية داخل العلم، يحتكم إلى التجربة وسيرورة الاكتشافات لإدراك عقم وبوار بعضها ولإثبات إجرائية وإنتاجية بعضها الآخر... وسؤالي القلق هو: كيف نسهم في هذه الفلسفة المستنفرة en alerte، أو العاملة au travail –حسب تعابير ذلك العالم الفيلسوف- ونحن لا نحسن من تلك العلوم، في أرقى الحالات، إلا معلومات ومهارات بسيطة ابتدائية؟ كيف لنا أن ندعي مسايرة تطور تلك العلوم العائل وإفرازاتها التخصصية التي لا طاقة لنا بها على الإطلاق، سواء تعلق الأمر بالبحوثات الذرية أو بنظرية النسبية عند اينشتاين أن الهندسات اللاإقليدية، وغيرها كثير؟ قد يقول قائل: إن الابستيمولوجيا لم تعد حكرا على العلوم الدقيقة، بل إنها صارت تطال العلوم الإنسانية كذلك وتهمها؛ وهذا، إن شئنا، صحيح غير أن نفس الشروط المعرفية المقرونة بتلك العلوم تبقى مطلوبة في هاته. وإلا قسيكون كلامنا عن الابستيمولوجيا أمام النفساني والاجتماعي والأنثروبولوجي والاقتصادي -وهذا هو الحاصل فعلا- عبارة عن دعوة تبشيرية، وأحيانا مساومة ترهيبية تعمل بمبدأ الثالث المرفوع بثنائية الحقيقة / الزيف، التي دعا أوستين Austin وغيره إلى تخطيمها والتخلص منها في مجال إنتاج الخطاب والمعنى وفي الإنسانيات عموما (انظر كتابه الشيق "كيف نصنع الأشياء بالكلمات".
3- مفهوم النهضة: إن تصور بعضنا من دعاة العقلانية للنهضة كمفهوم وممارسة هو بدوره نتاج آخر لبداوة الفكر، كما رصدناها، أي أنه اجتزائي وأحادي الضلع والصبغة. فإذا كان المرجع هو إيطاليا فأوروبا القرن السادس عشر التي ابتدعت النهضة كتجربة ومقولة -والمرجع هو هذا بالفعل- فلا يجوز أن نجهل أن المثقفين والساسة في هذه القارة كانوا ينظرون إلى المشروع النهضوي كمشروع كلي، يقوم على قوى العقل، كما على طاقات الحساسية والخيال، وينسحب بالتالي على جميع المرافق الثقافية من علوم وفنون وآداب. وإن من تعبر عبقريته عنهم ذلك هو ليورناردودا فينتشي، الذي اهتم بالهندسة والتشريح والموسيقى والنحت، وذاع صيته كمصمم بخياله لآلات، منها ما سيعرف مستقبلا باسم الطائرة المروحية، كما أنه خلد ذكره بلوحات تشكيلية، من أشهرها "الجوكوندا" و"العشاء السلفي". وأكثر من ذلك، فإن مرافق تلك النهضة امتدت حتى إلى حقل الفكر الديني، مع حركة الإصلاح الكبير، التي قادتها البروتستانية -بزعامة لوثر وكالفان- في العالم الجرماني ثم الاسكندنافي، وتمثلت، بدءا، في رفض سلطة روما وعبادة العذراء والقديسين وحتى وساطة الرهبان بين العبد وربه، إلخ. فأين نحن إذن من التصور الأعرابي "الفلستني" للنهضة، المشار إليه أعلاه؟ !
حيث يكثر التأليف ويندر الفكر
هناك مجالان يتحركان فيهما التأليف الذي يمكن عده بشيء من التجاوز والمجاز فلسفيا، وهما:
أولا: المجال التراثي:
وهو بدوره يتوزعه شقان: شق منوغرافي تفصيلي حول قضية مخصوصة أو تأليف علم بعينه. وهذا الشق، رغم أنه بالغ التحديد زمانيا ومكانيا، إلا أنه، على أي حال، من حيث الإفادات الدقيقية القابلة للمراقبة أنفع وأجدى من الشق الثاني، الماكرو-تراثي الذي لا يسعه أمام شساعة الدوائر المرجعية وضخامتها كما وكيفا إلا أن يضرب الأرقام القياسية في الضغط واللي والاجتزاء، المؤدية في آخر المطاف إلى تعاملات إجمالية (أو بالجملة) من التراث، وإلى مواقف إدلاحية متشنجة مكشوفة.
في الشقين معا، الموضوعات عموما تنتمي إلى قارة "مقالات الإسلاميين" في الحديث والفقه والكلام والتصوف وفي أحكام السياسة الشرعية أو السلطانية، وما شابه ذلك كله وشاكل، وبالتالي، فإنها قضايا شديدة الانتساب إلى الثيولوجيا (مع ما يكتنفها من "وهم مزاحم للعقل" -حسب تعبير الإسلاميين أنفسهم-)، وإلى الثيوقراطية كنظام حكم أحادي متعال، يشمل المجتمع والدولة والمدينة.
رب معترض يقول: نعم نهتم بتلك الموضوعات، ولكن اهتمامنا بالفلسفة الإسلامية ليس أقل وأدنى، وهذا صحيح. لكن من باب العقد الفلسفي وتاريخه، يمكن الرد على هذا الاعتراض بأن الفلسفة الإسلامية (والصواب أن نقول الفلسفة العربية-اليونانية، ليس فقط لأن الإسلاميين، كالغزالي والشهر ستاني وابن تيمية والطوسي وغيرهم، صارعوها، ولكن أيضا لأن الحكيمين اليونانيين -حسب الفارابي- "عليهما المعول في الفلسفة قليلها وكثيرها"، وأن أرسطو، عند ابن رشد، "كمل عنده الحق")، تلك الفلسفة إذن، المشبعة بالإيمان الديني والمراقبة من طرف الحكم السياسي والوسط الإسلامي، ليس لها اليوم سوى قيمة وثيقية صرفة، ولا تظهر، من حيث قضاياها ومناهجها، إلا كحلقة أو محطة في المسار الفلسفي، ينسحب عليها لزوما واطرادا ما ينسحب على فلسفات العهد الوسيط من أصناف نقدية، نذكر منها على سبيل المثال فقط نقد ديكارت لأرسطو والسكولائية الوسطوية، ونقد كانط للثيولوجيا والميتافيزيقيا، هذا فضلا عن تحقيبات هيجل الظاهرتية. وقد يذهب البعض حتى إلى تقييم تلك الفلسفة من زاوية نقد فنجنشتين، الذي زعم أن مجمل الأقضية والمسائل في الفلسفة كلها ليست خاطئة، بل هي من دون معنى، إذ أنها تخلط بين التصورات الحقيقية والتصورات الشكلية المجازية، إلخ. ولعيه، فإن أي تعلق اليوم باين رشد أو بغيره لابد لصاحبه أن يستحضر تلك الأصناف النقدية كمعايير أو مرايا، وإلا فإن تعلقه ذاك سيكون من جنس التعبد اللاتاريخي والتهافت اللامعقول، وهو تعلق قد يذكر الأعرابي بناقته أو بمرعى قطعانه.
إجمالا، يمكن اعتبار التراث، قطاعيا أو في أهم مرافقه، بمثابة المرتع الحيوي لتكون المثقف لغويا وذهنيا، كما أنه يشكل مرتكزا لشخصيته القاعدية وتعريفا لظهوره في العالم. وبالتالي، إن كانت هناك من عيوب ومعاطب في الدراسات التراثية، فهي تظهر بالأحرى في صيغ الاهتمام به وتصريفه مفهوميا، ومنها مثلا توهم امتلاكه نصا ومعنى والنزوع إلى تصفية حسابه في أطروحة أو نظرية، أو كالاكتفاء بإعمال المبضع الابستيمولوجي "الجراحي" فيه. وأمام تفشي هذا المنحى، فإنه بات من الضروري والأنسب الحديث عن التراث بصيغ التعدد والجمع، على أن يكون المنهج المتصرف في تحليله هو المنهج التاريخي الذي يراعي في قيام كل خطاب شروطه المكانية والزمانية، (لأننا، كما قال القدامى، "زمانيون، مكانيون، خياليون، وهميون، ظنيون"، أي نسبيون منتسبون). ومع هذا الصنف الآخر من التموقف والتعامل، لا سبيل إلى سبر أغوار "التراثات" إلا مرفقيا وبحمل المفهوم على الأناة والتروي، من أجل تمثل الموجود وعكس تعدده غناه. ولا محرك لهذا السبر إلا في قيام علاقة الشغف والشوق عند الذات بموضوعاتها وأشيائها التراثية. ومن دون هذه العلاقة الوجدانية الإخصابية المصاحبة، فإن الدراسة، في أي شأن كانت، تخاطر بالتردي في الجمود الأطروحتي والاستنساخ السكولائي، فضلا عن تداولها بين ألسنة رصاصية فاترة.
ثانيا: مجال الفلسفة الغربية
هناك دراسات تقييمية في هذا المجال ظهرت خلال الستينات والسبعينات، نذكر من أصحابها جميل صليبا ("الفكر الفلسفي في مائة سنة" بيروت 1962)، ونصيف نصار (في مؤلف جماعي، "نهضة العالم العربي" باريس 1972)، وأمير اسكندر (في مجلة "قضايا عربية"، عدد 5، 1974)، وعبد الرحمن بدوي (مقدمة ترجمانية في "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"، أو مؤلفه "روح الحضارة الإسلامية")؛ وكل هذه الكتابات تكاد تجمع على غياب فلسفة عربية والشدة، يستثني نفسه، فيخصص لها أطول مقالة في موسوعته الفلسفية !).
لنترك جانبا تلك الدراسات بما لها وما عليها، وبما أ الفلسفة هي أصلا محبة الحكمة وفاعليها، أي الحكماء، فلنكتف باستفتاء أنفسنا في وجود فلاسفة عرب معاصرين جديرين بمحبتنا، أو قل بإعجابنا الفكري. ومن جهتي أجد صعوبة بالغة في إثبات ذلك الوجود، شعروا مني بقيام حالة أضبه ما تكون بأزمة تتلمذ، حالة تتجلى في انعدام تيارات ومدارس فكرية نشيطة فاعلة، كما في تعذر لقاء رجالات بيننا يمارسون الفكر حقا على النحو الذي ذكرناه سابقا. وقد يصح على المشتغل بالفلسفة اليوم ما قاله ابن سينا عن المشائي المسلم: "فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله".
وإذن، في أحياء المشتغلين المعاصرين بالفلسفة الغربية، لا نلقى من يأخذ منا بأسباب إحاطته بالإعجاب الراسخ العميق (رغم ما قد يصحب هذا الإعجاب من اختلافات وتحفظات)، وذلك -إضافة إلى ما ألمعنا إليه- لأننا لا نعاشر واحدا منهم إلا ووجدنا وراءه معلما أول ومصدرا أساس (كما كان الوضع -مع وجود فوارق- أيام المشائين في العهد الوسيط) ومعنى هذا أن الفلسفة عندهم، في الغالب الأعم، لم تتعد تقاليد الشرح والتأويل؛ فكما شرح ابن رشد في القرن السادس الهجري أرسطو بإيعاز من الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، نرى في عصرنا كتابا يقرؤون ويشرحون أو يؤولون فلسفات غيرهم من الغربيين. وهذا ما فعله عثمان أمين (حاحب الجوانية) والأرسوزي (صاحب الرحمانية) مع برغسون ممزوجا بالغزالي، أو ما فعله يوسف كرم مع أرسطو وتوما الأكويني، وكذلك زكي نجيب محمود (صاحب البرانية) مع أوغست كونت؛ كما أننا في صلب وجودية بدوي (رغم ما يدعيه) نلتقي بهيدغر وكيركجور، وفي قوام شخصانية ريني حبشي ومحمد عزيز الحبابي نجد إمانوييل مونيي وجان لاكروا، ومع طيب تيزيني وحسين مروة يحضر بقوج كل من ماركس ولينين، إلخ. وفي كل هذه النماذج والحالات، لا يقوم الاجتهاد النظري إلى في القراءة والتأويل، أو في وضع أفكار طريفة أو توفيقية تكييفية، فينحسر معها الفكر وتضعف قدراته على الإبداع والاكتشاف، أي صنع تراث إضافي جدير. وهكذا يبقى ذلك الاجتهاد النظري دائرا في إطار تبعي، ويعمل كعنصر من تبعية أعمق وأشمل كانت في أعين بعض المفكرين العرب هي المسعى والغاية المبتغاة، منهم زكي نجيب محمود الذي دعا للنظر إلى الشرق من الغرب، وطه حسين الذي قال بضرورة "جعل مصر قطعة من أوروبا لفظا ومعنى، وحقيقة وشكلا". غير أن التجربة التاريخية، خصوصا خلال العقود الأخيرة، كشفت بالملموس أنه قياسا إلى مراكز إنتاج الفكر الغربي وإشعاعه، لا يمكن للمفكر العربي أن يتموضع ويتحرك إلا في هوامشها وضواحيها.
ختاما، إن ما سطرته أعلاه هو ما يمكنني باختصار قوله عن حاضر الفكر الفلسفي عندنا. إنه حاضر ملتبس، مضطرب، معاق وبالتالي بأمس الحاجة إلى أن نفكر في واقعه وآفاقه عبر المراجعات التقييمية الهادفة والوقفات النقدية الجذرية. وفي مداره أو على محكه، أجدني، كذات في محاولة مغالبته معولا على ما عول عليه كل مفكر مهموم بالإبداع والسؤال، أي ما سماه مفكرو اليونان القدامى "إي أناغيتو": الحاجة إلى... فأجد عندي حاجة إلى التاريخ (بما فيه تاريخ الفلسفة) كدراما إنسانية باطنية متجددة؛ التاريخ كترياق ضد فشو الكلاميات المرسلة المتكافئة الحجية في تعارضها وتنافيها؛ التاريخ كمصدر بحث واحتكام، لعله المنفذ الأقوم لتقوية الفكر على فهم واستيعاب الواقع، ومن ثمة على مواكبته ومحاولة التأثير فيه... كما أجد عندي حاجة إلى قيمة الجمالية، لأنها هي الأخصب والأبقى، أو، كما كتب مالارمي "لأن العالم يوجد لكي يفضي إلى كتاب جميل".
هل لنا أن ندرك أن أعمق وأجمل أعمالنا الفلسفية هي تلك التي لم نكتبها بعد؟
هل لنا أن نرى مع هيدغر أنه "ما أبعد أن تكون المعرفة مؤدية إلى الفكر"؟ كلمة أخيرة لابن خلدون أتبناها لحسابي: "أنا راغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر [إلى ما قلته وادعيته] بعين الانتقاد، لا بعين الإرتضاء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق