احدث المواضيع

الأحد، 13 ديسمبر 2009

اليقظة الفلسفية المغربية ودرء آفة التقليد

                                                              طه عبد الرحمن

أولا: وجهة نظر في الفلسفية المغربية

        قد لا نعدو الصواب إن ادعينا أن هناك يقظة فلسفية في هذا الجزء الأقصى من العالم الإسلامي العربي ولو أنها بقيت محصورة في دائرة الأفراد ولم تنفذ في وسط الجماعات وتنتشر في بنية المجتمع كله، هذا إذا جاز القول بإمكان تغلغل الفلسفة في جميع طبقات المجتمع، وإلا فإن الفلسفة كانت دائما من نصيب الأفراد ولا ينفذ منها إلى المجتمع في كليته إلا أفكار معدودة وحقائق محدودة، وإن كان أثرها فيه، على قلتها ودقتها، قد يذهب بعيدا حتى يكاد أن يقلب أحوال هذا المجتمع تقليبا؛ وهذه أدلتنا على ما ادعيناه من وجود انتهاض فلسفي في المغرب:

        أ – أن هذه اليقظة الفلسفية، على تعلقها بالأفراد، لم يتقدم لها نظير في تاريخ المغرب الأقصى؛ فلم تذكر لنا المصادر أي أخبار عن نشاط فلسفي سابق في المغرب بلغ حجمه ما بلغته اليقظة الحالية، وإن كانت قد ذكرت لنا كيف كان بعض فلاسفة الأندلس يتخذون عواصمه قبلة يقيمون في قصورها مدة (مثل ابن طفيل وابن رشد).

        ب – أن هذه اليقظة الفلسفية استطاعت أن تنتزع الاعتراف من الغير، سواء في الشرق أو في الغرب؛ فقد بقي إخواننا في المشرق إلى عهد قريب لا يلتفتون إلى الإنتاج المغربي بدعوى قصوره عن مضاهاة إنتاج مفكريهم، وها هم اليوم قد صاروا يقرون بالعطاء الفلسفي المغربي، طالبين قراءته وداخلين في التأثر به، كما كنا نقرأ لهم ونتأثر بهم، كما أن جيراننا في الغرب، وإن بقوا على عادتهم في الاستعلاء على الغير والاستخفاف به، فإنهم اضطروا إلى الإقرار بأجزاء من الإنتاج الفلسفي المغربي التي تبدو لهم موصولة بمبادئهم وموافقة لمنازعهم.

        ج – أن هذه اليقظة الفلسفية قامت على اختلاف في المنطقات وتنوع في التوجهات وتعدد في التوسلات؛ فنجد من المغاربة من استند في نظره الفلسفي إلى السياسة والإيديولوجيا، ومن تعاطى فيه للتاريخ والأدب كما نجد منهم من تشبع بمناهج العلوم كالمنطق واللسانيات ومن توسل بفلسفة العلوم وتاريخها، وإن كانوا جميعا، على توزع مشاربتهم وتفرق مسالكهم، ويرومون بمقتضى طرفهم التاريخي الخاص، إقامة فلسفة موجهة تنهض بالواقع المتجمد لا وضع فلسفة خالصة تركن إلى التأمل المجرد.

1- مظاهر تقليد المنقول الفلسفي الفرنسي:

        إذا عرفت أن حصول اليقظة الفلسفية عندنا أمر لا ينازع فيه إلا مكابر، بدليل تفردها في تاريخ المغرب، وثراء مضامينها وإقرار الغير بها، فاعلم أنها اتسمت بسمة جامعة، نحتاج إلى الوقوف عندها وإطالة النظر فيها.

        1-1 اشتداد التقليد في الفلسفة المغربية:

        تقوم هذه السمة الجامعة في كون الغالب على الإنتاج الفلسفي المغربي الوقوع تحت طائلة تقليد المنقول الفلسفي حتى بلغ عنده هذا التقليد نهايته، فصار المتفلسف المغربي يتقلب في نظرته الفلسفية تقلب هذا المنقول من غير داع سوى طلب التقليد.

        وحسبنا دليلا على ذلك ما نجده في الإنتاج المغربي من مذاهب فلسفية هي عينها المذاهب تمخضت عن أسباب معلومة في المجتمع الغربي واتجهت إليها همم مفكريه وانشغلت بها عقولهم انشغالا؛ فهناك، كما هو معلوم، الشخصانية والتاريخانية، وهناك المادية والبنيوية، وهناك الحداثية وما بعد الحداثية، من اختلافية وهامشية؛ فهذا يقلد "إيمانويل مونيه" وذاك يقلد "هيجل"، وهذا يقلد "ماركس" وأتباعه وذاك يقلد "بشلار" وتلامذته، وهذا يقلد مجموع الأنواريين وذاك يقلد "فوكو" أو "هيدجر" أو "نتشه" أو "ديريدا". وقد يتقلب الواحد منهم في هذا التقليد، فيبدأ شخصانيا ثم يصير أشبه بالمادي الجدلي، أو يبتدئ ماديا جدليا فيصير بنيويا وقد ينتهي تفكيكيا، أو يبتدأ ماديا تاريخيا لينتهي هامشيا، أو يبتدئ تنويريا لينقلب على التنوير؛ والأدهى من ذلك، أن المتفلسف المغربي لا يقع في تقليد المنقول الفلسفي فحسب، بل يقع في تقليد التقليد، ذلك أنه لا يأخذ هذه المذاهب من أصولها ومصادرها الأصلية في الغرب، بل إنما يعول فيها تعويلا على الكتابات والفهوم الفرنسية لهذه المذاهب، لا اختيار مدروس، وإنما لاضطرار معلوم (نحو القصور عن معرفة لغات أخرى).

        غير أن المتفلسف المغربي يأبى إلا أن يجعل من التقليد اجتهادا ومن الضعف قوة ومن النقص كمالا، حيث إنه يكد في طلب المشروعية لهذا التقليد، فينتهي بإرجاعها أساسا إلى أمرين هما:

        أ – النهوض بمقتضى الحداثة الفلسفية.

        ب – النهوض بمقتضى كونية الفكر الفلسفي.

        قد يقبل منه هذا التبرير لولا أنه يقع من جديد في التقليد، إن في تصوره لمفهوم "الحداثة الفلسفية" أو في تصوره لمفهوم "الكونية" حتى إن الحصيلة تكون استغراقا تاما في تقليد مركب كما سنوضح ذلك.

        1-2 التقليد بين فلاسفة المغرب وفلاسفة الإسلام:

        إذا صح أن تقليد المنقول الفلسفي سمة غالبة على الإنتاج المغربي، صح معه أيضا أن اليقظة التي دخل فيها هذا الإنتاج ستصير إلى ما صارت إليه اليقظة الفلسفية الإسلامية العربية الأولى، ويصدق عليها من الأحكام ما سيصدق على هذه؛ فكما أن فلاسفة الإسلام قديما وقعوا في تقليد المنقول الفلسفي اليوناني، فنسب عملهم إلى التكرار والاجترار، بل إلى السلخ والنسخ، فكذلك متفلسفة المغرب، حديثا، وهم واقعون في تقليد المنقول الفلسفي الفرنسي، لا يبعد أن يأتي زمان قريب أو بعيد يصفهم فيه النقاد بتعاطي النسخ والوقوع في العقم، فحينئذ تصير اليقظة الفلسفية المغربية الحالية عبارة عن "يقظة عقيمة".

        ويجوز أن نجد للمتقدمين من فلاسفة الإسلام عذرا في تقليد المنقول اليوناني متى وضعنا في الاعتبار من جهة خلو الثقافة العربية آنذاك من التفكير الفلسفي ذي الصبغة الاستدلالية، ومن جهة ثانية اتساع الفلسفة لمختلف ضروب العلم وأشكال الصناعة؛ فلما كان المفكر المسلم آنذاك لا يملك عدة فلسفية سابقة ولا سبيل له إلى تمييزها عن العدة العلمية، فقد صار إلى الاعتقاد في ضرورة نقل المعرفة الفلسفية عن اليونان نقلا أمينا واحتذائهم في النظر فيها حذو النعل بالنعل.

        وأما متفلسفة المغرب المحدثون، فلا عذر لهم في ذلك، فقد وصلتهم هذه العدة الفلسفية وقد اكتملت مصطلحاتها وتراكيبها ومضامينها كما أنهم قد تبينوا تمام التبين الفرق بينها وبين العدة العلمية؛ ومع هذا، فإنهچ سلكوا مسلك القدامى في النقل عن الأجنبي، على غير بصيرة من أن واجبهم الجديد يقتضي منهم النهوض بما وقف دونه القدامى، فيأتون في التفكير الفلسفي بما لم يقتدر هؤلاء على الإتيان به لأسلوب لٍ يكن في مكنتهم تجاوزها.

        وإذا تقرر أن اليقظة الفلسفية المغربية عليها آفة التقليد، فاعلم أننا مطالبون أكثر ممن تقدمونا بالاشتغال بدرء هذه الآفة، حتى نحفظ هذه اليقظة من الانقلاب إلى الغفلة والجمود، فكيف إذن ندرأ هذه الآفة عن اليقظة الفلسفية المغربية، حتى ترقى إلى رتبة التجديد في الرؤى والإبداع في الآراء؟ فهل يمكن إذن الخروج مما أسميه بـ"الجبرية الفلسفية" التي سادت في هذه اليقظة، ومبناها على المبدإ التالي وهو أن "كل واقع فلسفي واجب" أو قل هل في وسعنا أن نجئ به أهل المنقول الفلسفي، فنفكر تفكيرا لم يعرفوه ونتكلم كلاما لم يسمعوه؟ وإذا كان "الاختلاف" هو آخر مبادئ المنقول التي وصلت إلينا، ألا يوجب علينا هذا المبدأ نفسه أن نختلف عن أهله فيما يطرحونه من مشكلات وما يأتون به من حلول، بل ألا يتطلب منا أن يكون لنا فهم مختلف للاختلاف نفسه؟ فمن العجب أن يلزمنا منطق التقليد نفسه بالخروج عن التقليد !

        وبديهي أن درء الآفة لا يكون إلا بالوقوف على سببها الفاعل أو على أسبابها الحقيقية، فنستأصلها أو نجد من آثارها، فما هي إذن أسباب التقليد التي صحبت اليقظة الفلسفية المغربية؟

2– أسباب التقليد والترجمة الاتباعية:

        2-1 أسباب تقليد المنقول الفلسفي:

        قد نحصي من أسباب هذا التقليد الشيء الكثير، فنقول مثلا إن منهاميل النفوس إلى الجديد ونفورها من القديم ومنها أيضا التنقيص من الذات والتعظيم للغير، ومنها طلب الاستفادة وإرادة التغيير، ومنها تسلط الثقافة الأجنبية وقمع الثقافة الوطنية.

        قد تكون هذه الأسباب وغيرها من وراء ترسيخ التقليد للمنقول الفلسفي، لكنها تبقى مجرد آثار لسبب موضوعي بارز تعلقت به الفلسفة المغربية تعلقا، ألا وهو الترجمة !

        فقد اقترنت الفلسفة اقترانا بترجمة النصوص الفلسفية المكتوبة باللغة الفرنسية، وقد كانت هذه الترجمة على ضربين نسميهما: "الترجمة العينية" و"الترجمة الذهنية".

        أما الترجمة العينية، فهي بدورها قسمان:

        - أحدهما، الترجمة المصرح بها: ونقصد بها الترجمة التي حفظت أسماء المؤلفين الذين تنقل نصوصهم إلى العربية، سواء وردت هذه النقول مستقلة أو مدمجة في أبحاث ودراسات.

        - والثاني، الترجمة المسكوت عنها: ونقصد بها الترجمة التي لم تحفظ أسماء المؤلفين الذين تم نقل بعض الفقرات أو السطور من نصوصهم إلى العربية في الأبحاث والدراسات.

وأما الترجمة الذهنية: وهي الترجمة التي يمارسها الباحث وهو يضع عبارته ويبني فكرته، حيث يتعلق ذهنه في وضع عباراته أو بناء فكره بنموذج تعبيري أو نموذج تفكيري مستمد من هذا الص الفرنسي أو ذاك، فيحتذيه احتذاء.

        فهذه الترجمة بنوعيها العيني والذهني هي التي كانت الأصل في التقليد الذي انبنت عليه اليقظة الفلسفية المغربية، وبيان ذلك كما يلي:

        أ – ليس يخفى أن ممارسة الترجمة كما جرت بها العادة تقتضي القيام بملاحظة دقيقة لبناء النص الأصلي ومتابعة شديدة لمواقع الكلمات ولمواضع الجمل فيه ثم مقابلة شاملة بين هذه المواقع والمواضع وبين ما تتضمنه اللغة المنقول إليها من ألفاظ وعبارات؛ يترتب على هذا، أن المترجم -شاء أم أبى- واقع من منطق عمله في محاكاة النص، شكلا ومضمونا بحيث يصح القول بأن كل مترجم، كائنا من كان، مقلد ابتداء؛ ومن بدأ من المترجمين ليس كذلك، فما ذاك إلا لأنه اجتهد اجتهادا في الخروج من التقليد الذي وقع فيه ابتداءا.

        وإذا كان الأمر كما قلنا، فلا نستغرب أن يكون المطلع على النقول أكثر عرضة للسقوط في التقليد من المطلع على الأصول، فليس في عمليات التعامل مع النصوص من أنظار وقراءات وتأويلات وتحليلات ما يبلغ مبلغ الترجمات في الانطواء على أسباب التقليد وفي حمل المتعامل مع هذه النصوص على النسخ على منوالها حملا؛ ولما كان المغاربة مثلهم مثل أسلافهم، إما يمارسون الترجمة، عينية كانت أو ذهنية، وإما يقرؤون أعمالها، فقد انساقوا من حيث يعلمون أو لا يعلمون إلى التمسك بطريق التفلسف الواردة في المنقولات لا يحيدون عنه ولا يتصورون غيره.

        ب – لا يخفى كذلك أن القارئ العربي عموما لم يتعرف على هذا الخطاب الخاص الذي هو الفلسفة إلا من خلال الترجمة بحيث اقترن في ذهنه اقترانا بها؛ ولو أنه تعرف عليه بغير هذا الطريق، لكان له معه شأن آخر؛ وعلى هذا، فمتى سلمنا بأن التعامل مع الترجمة بمقتضى طبيعتها تحمل صاحبها على التقليد، فإن اقتران الفلسفة بالترجمة في ذهن هذا القارئ لا يمكن إلا أن يزيد في ميله إلى التقليد درجة، فيكون الفيلسوف العربي أشد تقليدا في الفلسفة منه في غيرها.

        وإذا نحن وضعنا في الاعتبار أن الممارسة الفلسفية في المغرب انحصرت في ترجمة النصوص الفرنسية دون غيرها، تبين أن التقليد في أهلها يزيد عن ذلك درجة أخرى، حيث أن الاقتصار على ترجمة نصوص من لغة واحدة يمنع من التوسع في إدراك وجوده الاختلاف بين صيغ التعبير وأنماط التفكير، هذا التوسع الذي من شأنه وحده أن يفتح باب الشك في قيمة محاكاة النصوص الأصلية، ولا يتأتى حقا هذا التوسع إلا بممارسة الترجمة انطلاقا من ألسن كثيرة وبملاحظة الفروق التي تفصل بين هذه الألسن.

        ج – أن المتفلسف المغربي يمارس الترجمة، إما بقصد تحصيل ما في النص الفرنسي الذي يتولى ترجمته، وإما بقصد توصيل ما فيه إلى غيره من المتعاطين للفلسفة؛ فقد يجهل هذا المتفلسف ما جاء في النص الفلسفي الأجنبي من تفلسف مخصوص، فيباشر ترجمته طلبا للعلم به والتمكن منه، فيقع في الأخذ ب"الحرفية اللفظية" التي تجعله يقابل اللفظ باللفظ، كما أنه قد يعلم جهل غيره بما جاء فيه، فيترجمه رغبة في إعلامه به وتمكينه منه، فيقع في الأخذ ب"الحرفية المضمونية" التي تجعله يقابل المعنى بالمعنى.

        وحاصل الكلام في آفة التقليد التي تطرقت إلى اليقظة الفلسفية المغربية أن الأصل فيها هو اقترانها بالترجمة، وذلك كما رأينا أولا لجنوح الترجمة أصلا إلى التقليد، وثانيا لاستتباعها للفلسفة في الممارسة الفكرية العربية، وثالثا لانبنائها في الممارسة المغربية على الحرفية في اللفظ والحرفية في المضمون؛ وإن كان الأمر كذلك، فما الطريق إذن للخروج من هذا التقليد؟

        فمعلوم أن لازم الشيء ينتقي بانتفائه، فإذا كان التقليد في الفلسفة المغربية يلزم عن الترجمة، فإن رفعه لا يكون إلا برفع الترجمة؛ لكن رويدك ! فإن هذه النتيجة ولو بدت من حيث هذا كذلك منطقية، فهي غير معقولة في سياق التداول، فلا نتصور أنه بالإمكان الرسوخ في العلم بالمعنى الضيق ولا في المعرفة بالمعنى الواسع ولا في التعارف بالمعنى الطبيعي من غير الاندفاع في الترجمة ومواصلة الاشتغال بها، فلا يبقى إذن إلا أن نحفظ الترجمة ونحافظ على العمل بها، فكيف إذن نحفظها من دون أن تجلب لنا التقليد؟

        2-2 خصائص النمط الاتباعي في الترجمة:

        الواقع أنه ليس من سبيل إلى صرف التقليد عن الترجمة وتوريث أصحابها الاجتهاد الحقيقي إلا بالتخلي عن نمط الترجمة الذي أخذ به المتفلسفة المغاربة حتى الآن.

أ – النمط الترجمي الغربي: فقد ورث المتفلسفة المغاربة النمط الترجمي الغربي العام الذي ينبني على تقديس النص الأصلي، هذا التقديس الذي يرجع سببه إلى كون النصوص الأولى التي مورست عليها الترجمة قديما كانت هي نصوص التوراة والإنجيل المقدس، بينما النص الفلسفي ليس إطلاقا نصا مقدسا، بل هو بالذات عبارة عن نقيض النص المقدس.

ب – النمط الترجمي الفرنسي: كما ورثوا أيضا النمط الترجمي الفرنسي الحديث الذي ينبني على طلب معرفة الغير على مقتضى حاله، هذه المعرفة التي لا تصح إلى متى حصل المترجم على معرفة ذاته، فتكون معرفة الغير من باب توسيع مدارك الذات، لا من باب تأسيس هذه الذات، في حين أن المترجم المغربي يسعى إلى وضع أركان هذه الذات بما يدمجه في الحداثة والحضارة، فليس طلب الغير عنده إلا طريقا لتحصيل قوام الذات.

ج – النمط الترجمي العربي: وورث المتفلسفة المغاربة أخيرا النمط الترجمي العربي القديم الذي ينبني على مبدإ التعلم والتعليم، هذا المبدأ الذي كان الداعي إليه أن العرب قديما تعرفوا على التفكير الفلسفي والاستدلال المنطقي لأول مرة، فاحتاجوا إلى أن يبتدئوا بتعلمها، حافظين صورهما اللفظية وينتهوا بتعليمهما، حافظين دقائقها المضمونية، بينما المتفلسف المغربي قد حصل هذا التعرف من خلال ما تراكم من أعمال فلسفية ولو أنها انطبعت بصبغة التعلم والتعليم، فيكون مطالبا بالارتقاء درجة والابتداء في التعامل مع النوصو بغير هذا الطريق الذي أخذ به أسلافه؛ ومع هذا، فقد بقي هذا المتفلسف متمسكا بطريق الترجمة التعلمية وطريق الترجمة التعليمية العربيتين فيما ينقله من نصوص الفلسفة الفرنسية أو من نصوص الفلسفة المترجمة إلى الفرنسية.

        ولا عجب أن ترتد هذه الأنماط الثلاث في الترجمة: الغربي والفرنسي والعربي، إلى نمط واحد نسميه "النمط الاتباعي في الترجمة" أو "الترجمة الاتباعية"، فكل نص ينبني على التقديس كما في النمط الغربي يستدعي من الناظر فيه أن يتعلم منه أو يعلمه كما هو الشأن في النمط العربي، والعكس بالعكس؛ وكل ما ينبني على التلمذة يجعل اعتبار الغير فوق اعتبار الذات كما في النمط الفرنسي، والعكس؛ فيكون التقديس والتلمذة وتقديم اعتبار الغير أمورا متلازمة فيما بينها.

3 – درء آفة التقليد والترجمة الإبداعية:

        3-1 خصائص النمط الإبداعي في الترجمة:

        على هذا، فمتى أراد المتفلسف المترجم المغربي أن يتحرر من تقديس النص الفلسفي ومن التبعية لواضعه، فلابد له من أن يقطع صلته بهذا النمط الاتباعي في الترجمة ويستبدل به نمطا جديدا نسميه "النمط الإبداعي في الترجمة" أو "الترجمة الإبداعية"، فمن شأن هذا النمط الأخير أن يزود المترجم بما يرفع به عن النص الفلسفي التقديس الذي لحقه كما يزوده بما يطلب به معرفة نفسه من خلال معرفة ما عند غيره بل بما يقلع به عن مسلك التلمذة لهذا الغير؛ وتوضيح ذلك أن رفع التقديس عن النث لا يكون إلا بتحصيل القدرة على الاعتراض على هذا النص، وأن طلب معرفة الذات لا يكون إلا باكتساب القدرة على معارضة الغير، وأخيرا أن الإقلاع عن مسلك التلمذة لا يكون إلا بتحصيل القدرة على عرض ما ليس عند الغير.

        وليس من طريق إلى اكتساب المتفلسف المغربي لهذه القدرات الثلاث: "القدرة على الاعتراض على النص"، و"القدرة على معارضة الغير" و"القدرة على عرض ما ليس عند الغير"، إلا بالاقتدار على التصرف في النص الأصلي بما يمكن أن يخرجه عن أوصافه الأصلية إلى أوصاف أخرى تمكن هذا النص من التفاعل مع محددات وموجهات المجال التداولي لهذا المتفلسف، وذلك بالتوسل بكل الآليات الخطابية الكفيلة بإنجاز هذا الإخراج بما في ذلك من الحذف والإضافة والقلب والإبدال ومن الجمع والتفريق والمماثلة والمقابلة.

        وها هنا تجب الإشارة إلى بطلان ما ساد به الاعتقاد من أن الإبداع لا يتحقق في طور الترجمة وإنما هو طور يأتي بعد الرجمة؛ فهذه الدعوى باطلة، ونبين بطلانها من الوجوه الآتية:

        أ – أن الترجمة الاتباعية لا تخرج المتلقي أبدا إلى الإبداع؛ وينهض دليلا على ذلك تخبطنا في التقليد منذ ما يزيد عن عشرة قرون وإن كان بعض النقاد قد أخذتهم الحمية العربية، فاندفعوا يتعقبون بعض الآثار التي تدل عندهم على الجدة في الممارسة العربية.

        ب – أن الترجمة الاتباعية والتأليف المبدع ليسا إلا طرفين تنزل بينهما مراتب كثيرة من الكتابة يتداخل فيها الاتباع والإبداع وتتفاوت فيهما درجاتهما؛ فمن الكتابات ما هو أقرب إلى الترجمة الاتباعية ومنها ما هو أقرب إلى التأليف المبدع، ومنها ما ينزل مراتب وسطى، ولا أدل على ذلك من الجوامع والمختصرات والشروح والتفاسير والتعليقات وغيرها، فلا هي بالترجمة الاتباعية ولا بالتأليف الإبداعي، فقد تكون ترجمة مع إبداع أو تكون تأليفا مع اتباع.

        ج – أن الترجمة الاتباعية في المجال الفلسفي تعارض مدلول الفلسفة؛ فإذا كانت الفلسفة هي بالذات فعل النقد، فإن الترجمة الاتباعية هي بالذات ترك النقد، فحينئذ كيف يصير ترك النقد وسيلة إلى تحصيل القدرة على ممارسة النقد؛ إلا أن يراد من العمل الترجمي أو يكون اشتغالا خارجا عن العمل الفلسفي، لكن هذا لا يصح، إذا كان من الذين يتولون الترجمة أعلام في الفلسفة، فلا يتصور أن الواحد منهم يزدوج إلى ذاتين اثنتين: إحداهما ذات متفلسفة والأخرى غير متفلسفة وهي التي تتولى الترجمة، وإلا لزم أن يتساوى النص الفلسفي المترجم مع النص غير الفلسفي ما دامت ترجمته تحصل بغير تفلسف، وإذ ذاك لم يعد يحق للفيلسوف أن يقصر نظره على النص الفلسفي المترجم، بل يصير من واجبه أن ينظر في غيره نظره فيه، بل أن يتساوى عنده النظر في هذا أو النظر في ذاك.

        وإذا بطل أن يكون طور الإبداع تاليا لطور الترجمة، فقد لزم أن يكون الإبداع مصاحبا للترجمة، بدءا وانتهاءا، وأن تتداخل مقتضياته مع مقتضياتها، فالترجمة النافعة، ولا نفع في الترجمة ما لم تفتح للواقف عليها طريق تحصيل ما يحصله الواقف على الأصل.

        وإذا جاز أن يجتمع الإبداع والترجمة بصدد الخطاب الإنساني عامة، فلأن يجوز اجتماعهما بصدد الخطاب الفلسفي خاصة أولى، ذلك أن النص الفلسفي المترجم لا يورث للمتلقي تفلسفا حيا حتى تكون عملية وضع ترجمته قد شهر فيها من التفلسف ما ينهض بهمة هذا المتلقي إلى مواصلته وإلا جمد على النقل جمود المترجم على الأصل.

        وعلى هذا، فلا يمكن للفيلسوف الحق إلا أن يكون مترجما مبدعا لا مترجما معلما ولا مترجما متعلما، حتى إذا وجدت بين أيدينا ترجمات لنصوص فلسفية اصطبغت بطابع التعلم أو التعليم، فإن الراجح أن أصحابها لم يكونوا فلاسفة؛ والشاهد على ذلك النقول العربية للفلسفة اليونانية، فلما سلكت هذه النقول مسلك التعلم أو مسلك التعليم، فلا غرابة أن يكون جل واضعيها من غير الفلاسفة، وإن كان بعضهم من المتعاطين لبعض العلوم.

        3-2 الحداثة الفلسفية الحية والكونية الفلسفية المنفتحة:

        متى ثبت أن الترجمة التي تحفظ اليقظة الفلسفية المغربية وتنهض بها نهوضا هي الترجمة الإبداعية ظهر كيف أن هذا الضرب من الترجمة يحقق الحداثة الفلسفية والكونية الفلسفية.

        أ – الحداثة الفلسفية: قد نميز في "الحداثة الفلسفية" بين نوعين: أحدهما نسميه "الحداثة الفلسفية الجامدة"، وهي توجب الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف، فيكون هذا الضرب من الحداثة إلى الوهم والأسطورة أقرب منه إلى الواقع والحقيقة، ونظرا لاستناده إلى إرادة بناء المستقبل بالانسلاخ الكلي عن تراث الذات الفلسفي، علما بأن الغير الذي تنقل عنه حداثته الفلسفية لم ينسلخ عن تراثه، بحيث يصح القول بأنه لا حداثة مع الجمود على المنقول؛ الحرفية تقف عند حدود اللفظ والترجمة الحرة تقف عند حدود المعنى، بينما الطرق التي اقترحناها تتحدد أساسا بالمقاصد المطلوبة فيها والمستتبعة للوسائل الموصلة إليها؛ فالترجمة الاتباعية تطلب الدخول في التفلسف على مقتضى الغير، والترجمة الإبداعية تطلب تحصيل القدرة على التفلسف على مقتضى الذات، وكلاهما قد يتوسل في تحقيق مطلبه بالطريق الحرفي تارة وبالطريق الحر تارة أخرى.

        ب – أن صبغة "الحرفية" التي تتصف بها الترجمة الاتباعية تشمل في ذات الوقت الحرفية في اللفظ التي تأخذ بها الترجمة الحرفية والحرفية في المضمون التي تأخذ بها الترجمة الحرة؛ فهذه الأخيرة، وإن تركت التقيد بصيغ الألفاظ وأشكال التراكيب التي ترد بها النصوص الأصلية، فإنها تبقى على التقيد بتمام المعاني المضامين التي اشتملت عليها هذه الألفاظ والتراكيب، فتكون قد استبدلت بحرفية في الشكل حرفية في المحتوى.

        ج – أن صبغة "الحرية" التي تتصف بها الترجمة الإبداعية تتعدى ما تطيقه الترجمة الحرة إلى ما تجيزه بعض ضروب من التأليف كالمختصرات والتفسيرات والقراءات والتحليلات من غير أن تتقرر في ذلك ضروب بعينها، إذ يتعلق الأمر بقدرة المترجم في الإبداع، فإن ضعفت قدرته، جاء بنقل أشبه بالشرح؛ وإن قويت، جاء بنقل أشبه بالقراءة؛ وعلى هذا، تكون الترجمة الإبداعية ضربا لا تكاد تعرفه طرق الترجمة المقررة.

        ولا ينفع المعترض أن يقول بأننا بهذه الدعوى نكون قد خرجنا من الترجمة إلى التأليف، وذلك لسببين اثنين:

أحدهما: أن الحدود بين الترجمة والتأليف، وإن كانت معلومة إجمالا، فإنها ليست واضحة تفصيلا، فقد ذكرنا أن من النصوص ما ينزل مراتب بين الترجمة والتأليف، فيجوز أن يشتبه في أمره ويختلف في تصنيفه.

والثاني: أن الترجمة التي تناسب طالب تحصيل القدرة على التفلسف ليست هي بالضرورة الترجمة التي تناسب الذي حصل هذه القدرة وأراد الزيادة فيما يجرى عليه تفلسفه؛ فإن القدر الذي يقتضيه وضع الأول من مظاهر التصرف في النص، حتى تتعود نفسه على الانفكاك عن التقليد وعلى إنشاء نمطه الخاص في التفلسف، لابد وأن يكون أكثر من القدر الذي يتطلبه وضع الثاني من مظاهر هذا التصرف، حتى إذا تمكن من هذا الانفكاك والإنشاء، جاز آنذاك أن نضع له ترجمات أقل إبداعا، بل أن نكتفي، متى استوثقنا من ملكته الفلسفية، أن نسلك في نقولنا الموجهة إليه، طريقة الترجمة الاتباعية، وهذا بالذات ما نشاهده اليوم عند النقلة في المجتمعات التي رسخت قدم أهلها في التفلسف؛ أو قل باختصار إن المتعاطي للتفلسف، إن كان مبتدئا، نفعت الترجمة الإبداعية في تحريك طاقته الفلسفية، وإن كان مقتدرا، أفادت الترجمة الاتباعية في توسيع حصيلته الفلسفية.

        إلا أن طرقنا المقترحة في الترجمة، وإن اختلفت عن الطرق المقررة، فإنها تقبل مثلما تقبل هذه الأخيرة أن تعمم على مختلف مجالات التثقيف؛ فإذا نحن اقتصرنا في بيانها على مجال الفلسفي، فلا شيء يمنع من أن نطبقها في غير هذا المجال من مجالات الفكر والأدب والمعرفة، وقد يكون انطباقها على النص الأدبي أقوى من انطباقها على النصوص المعرفية، باعتبار أن باب الإبداع أشد اتساعا في الأدب منه في غيره.

ثانيا: مثال تطبيقي من الفلسفة المغربية

        حتى نقرب إلى الأذهان نظرتنا إلى الترجمة، نضرب لذلك مثالا من الفلسفة المغربية نفسها، وليكن هذا المثال المغربي عبارة مأخوذة من كتاب رائد الفلسفة في المغرب الحديث محمد عزيز الحبابي تغمده الله برحمته واسعة، وهو De l’être à la personne، وهذه الهبارة هي التالية(1):

« Heidegger fait de l’idée de l’être-dans-le-monde un phénomène constitutif de la réalité humaine »

فهذه المقالة، ولو أنها لفيلسوف مغربي، فهي وضعت أصلا على مقتضى اللغة الفرنسية وعلى مقتضى تفلسف أهلها، كأنما واضعها فيلسوف فرنسي ينزل عندئذ منزلة أصل أجنبي نحتاج إلى نقله إلى العربية؛ فلننظر فيها من جهة نموذجنا النظري الذي جعلنا فيه الترجمة على توعين: " الترجمة الإبداعية" و" الترجمة الاتباعية" التي تنقسم بدورها إلى قسمين: " الترجمة التعلمية" و" الترجمة التعليمية"؛ ولما كان ترجمة التعلم تتمسك بحرفية اللفظ، فإنها تقع في تطويل بناء العبارة؛ وكذلك لما كانت نرجمة التعليم تتمسك بحرفية المضمون فإنها تقع في تهويل مضمونها. أما ترجمة الإبداع، لما كانت تطرح الحرفية اللفظية والحرفية المضمونية، فإنها تكون ترجمة مختصرة لا تطويل فيها وميسرة لا تهويل معها؛ فلنبين إذن هذه الكيفيات الثلاث في نقل عبارة أستاذ اليقظة الفلسفية المغربية محمد عزيز الحبابي رحمه الله.

1- وضع الترجمات الثلاث لعبارة الحبابي:

        1-1 الترجمة التعلمية لعبارة الحبابي:

        لا يبعد أن تكون الترجمة التعليمية لهذه العبارة قد ساهم في وضعها جيل من الطلاب كانوا يجلسون إلى أستاذهم الكبير ليتلقوا دروسه ويجتهدوا في ترجمة كتابه المذكور بإذن منه وبتوجيهه السديد؛ وقد أبت أريحيته إلا أن تنتشر هذه الترجمة، تكرما منها وتخليدا للروح الفلسفية الحقة التي جمعت بينه وبين طلابه، وذلك في كتابه من الكائن إلى الشخص(2)، ونص هذه الترجمة هو التالي:

        "إن هيدجر" يجعل من فكرة "الكائن – في – العالم" ظاهرة تأسيسية للحقيقة البشرية".

        فحيث إن النقل من الضرب التعليمي، فإنه جاء حاملا لمظاهر شتى من التطويل اللغوي تحتاج إلى بيانها.

أ – استعمال الجملة الإسمية مكان الجملة الفعلية؛ لما كان الكلام يدور على مسألة العالم وعلى ارتباط الإنسان به، فقد كان يتطلب استئنافه بالعبارة المذكورة مراعاة هذا السياق، بحيث يكتفي فيها استخدام نمط الجملة الذي جرت عليه عادة الاستعمال في الإخبار؛ ومعلوم أن الجملة الإخبارية العادية في اللغة العربية هي الجملة الفعلية، فتكون الترجمة المناسبة لسياق الكلام هي:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكائن-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للحقيقة الإنسانية".

        لكن المترجم المتعلم باستعماله الجملة الإسمية، وقع في صرف انتباه المتلقي إلى شخص "هيدجر" كأنما يجيبه عن سؤال متعلق بهذا الشخص لا بقوله.

ب – استعمال التعبير الملتبس بدل التعبير الواضح؛ لقد وقع استعمال المفهوم المركب: "الحقيقة البشرية" في مقابل العبارة الفرنسية "La réalité humaine"، وهو استعمال مردود من وجوه عدة.

        - أولها، إن المقابل المتداول لنقل المفهوم الفرنسي هو "الواقع"، وليس "الحقيقة"، فيحسن أن يقال: "الواقع البشري" مكان "الحقيقة البشرية".

        - والثاني، أن العبارة العربية: "الحقيقة البشرية" صيغة ملتبسة، فقد يستفاد منها معنى "الماهية الإنسانية"؛ ومعلوم أن مفهوم "الماهية" يقابل مفهوم "الوجود" و"التحقق" و"الواقع"، فيقع بذلك هذا النقل في آفة نقض مقصود هيدجر، إذ مراده بالذات هو واقع الإنسان وليس ماهيته الصورية، لذا ينبغي أن يقال:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكائن-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للواقع الإنساني".

ج – استعمال التعبير المركب بدل اللفظ البسيط؛ إن الأصل الألماني الذي استعملت العبارة الفرنسية (La réalité humaine) في مقابله ليس هو "die Menschliche Wirklischkeit" كما ينتج ذلك عن عملية نقل النقل، وإنما هو لفظ "Dasein"؛ وقد استعمل هذا المقابل الفيلسوف الفرنسي "سارتر" في كتابه الوجود والعدم(3)، سالكا فيه مسلكا تحويليا يدخل عندنا في باب الترجمة الإبداعية، ولا عجب في ذلك وهو الفيلسوف المقتدر(4)! لكن العجب كل العجب هو أن المترجم المغربي نقل إلى العربية المقابل الفرنسي بدل أن يطلب الأصل الألماني ويجتهد في نقله، إذ بو أن هذا المترجم تفطن إلى التحويل الذي جاء عند "سارتر"، ووعى تمام الوعي بدلالته على الرسوخ في التفلسف، لتطلع إلى أن يعامل العبارة الفرنسية معاملة هذا الفيلسوف للأصل الألماني، فيجري عليها تحويلا دالا على التفلسف دلالة تحويل هذا الأخير عليه، كأن يكتفي بلفظ بسيط واحد بلد لفظين اثنين، فيستبدل مثلا مكان "الواقع الإنساني" لفظ "الإنسان" فيقول:

        "يجعل "هيدجر" من "فكرة الكينونية-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للإنسان".

        وقد جاء عبد الرحمن بدوي في كتابه: الزمان الوجودي باجتهاد طريف، إذ استعمل في مقابل "Dasein" كلمة "الآنية" التي هي تعريب لفعل الكينونة اليوناني "einai" والتي وردت عند أبي البركات البغدادي بمعنى "الوجود" في مقابل "الماهية"، وحينئذ نص العبارة المذكورة هو:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكينونة-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للآنية".

د – استعمال اسم الفاعل مكان اسم المصدر؛ إن القول العربي "الكائن-في-العالم" بصيغة اسم الفاعل لا يصح استعماله في مقابل "L’être-dans-le-monde" وذلك أن الصيغة الفرنسية "L’être" قد تحمل على معنيين: أحدهما، معنى اسم الفاعل من الفعل "être"؛ والثاني، معنى اسم المصدر منه؛ والمراد هاهنا اسم المصدر منه، ولو أننا استرجعنا الأصل الألماني عند النقل، لارتفع هذا الالتباس، وتبين لنا بكل وضوح دلالته على المصدرية؛ فالعبارة الهيدجرية هي: "In-der-Welt-sein" جاءت على نسق التعابير الألمانية الدالة على المصدرية، علما بأن صيغة اسم الفاعل من الفعل: "Sein" وهي: "Seiend" لا ورود لها في عبارة "هيدجر"؛ بحيث تكون الترجمة العربية الأنسب هي:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكينونة-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للآنية".

هـ - استعمال النسبة بدل الإسم؛ إن المقابل "ظاهرة تأسيسية" يتضمن حرفية لفظية شديدة، ذلك أن المقصود هو ذكر فاعلية التأسيس لا مجرد النسبة إلى التأسيس، بحيث تكون صيغة اسم الفاعل "المؤسس" أنسب لأداء هذا المقصود، وإن كان اللفظ الفرنسي " " لا يفيد معنى المؤسس بقدر ما يفيد معنى "المكون" و"الشكل" و"الباني" و"المقوم" (أي ما به قوام الشيء)، فتصير صيغة الترجمة العربية هي:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكينونة-في-العالم" ظاهرة تأسيسية للآنية". وعلى الجملة، فإن الأخذ بالطريقة التعليمية في ترجمة عبارة الحبابي إلى العربية يطول العبارة بما يجعلها تدخل عليها آفات مختلفة، منها استعمال الصيغة التعبيرية بخلاف مقتضاها المقامي واستعمال التعبير المركب حيث قد يكتفي بأبسط منه، ومنها الوقوع في اللبس أو الوقوع في إضعاف المعنى؛ وأشدها إخراج الأصل إلى نقيض مقصوده، مع أن المترجم المتعلم يريد بالتزامه الحرفية اللفظية الوقوف على تمام المقصود، بحيث يصح القول بأن المترجم التعليمي ليس بمأى عن انقلاب وسيلته على مراده.

        1-2 الترجمة التعليمية لعبارة الحبابي:

        ليس بين أيدينا نقل من الضرب التعليمي لعبارة الحبابي، لكن قد نجد ضالتنا في الصيغة التي تستخلصناها من الترجمة التعليمية بعد رفع بعض مظاهر التطويل عنها؛ وهي:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الكينونة-في-العالم" ظاهرة مؤسسة للآنية". فقد ذكرنا أ الترجمة التعليمية، لما كانت تأخذ بالحرفية في المضمون، فإنها تقع في التهويل المعرفي، فلنستخرج بعض مظاهر التهويل التي تطرقت إليها وهي:

أ – استعمال النادر بدل المتداول؛ ذلك أن التعبير: "الوجود-في-العالم"، ولا يخفى أن ما قل استخدامه من التعابير أدعى أن يبعد عن الفهم وأن يبعث على التأويل مما جرت به عادة الاستعمال، أضف إلى ذلك أن مفهوم "الكينونة" يتضمن في معناه معنى "الوجود بالعالم" يدل على ذلك إطلاق لفظ "الكون" الذي هو أيضا مصدر من كان على معنى "العالم"، فيكون استعمال "الكينونة" في هذا التركيب مفضيا إلى دخول حشو مستكره عليه، وبذلك ينقص تهويل العبارة المذكورة متى استبدلنا "الوجود-في-العالم" مكان "الكينونة-في-العالم" فقلنا:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الوجود-في-العالم" ظاهرة مؤسسة للآنية".

ب – الجمع بين الضدين؛ يبدو أن التعبير "يجعل من فكرة كذا ظاهرة مؤسسة لكذا" يتضمن تهويلا لمفهوم "ظاهرة" بموجب وصله بلفظ "فكرة"؛ فلما كانت "الفكرة" أمرا داخليا وكانت الظاهرة أمرا خارجيا، فقد قامت بينهما أسباب من التعارض الشنيع الذي لا يرتفع في الاستعمال العربي إلا بأن نجعل هذا التعبير دالا على المعنى التالي، وهو: "سيخرج فكرة كذا من باطنه إلى ظاهرة، تأسيسا لكذا"، بيد أن هذا ليس هو المراد من قول الأستاذ الحبابي، فلم يخرج "هيدجر" فكرة "الوجود-في-العالم" من وجدانه الداخلي إلى محيطه الخارجي، لكي يؤسس بها الآنية، وإنما المراد أنه يرى أن معنى "الوجود-في-العالم" يشكل عنصرا مؤسسا للآنية، لذلك يحسن استبدال هذا التعبير مكان السابق، فنقول:

        "يجعل "هيدجر" من فكرة "الوجود-في-العالم" عنصرا مؤسسا للآنية".

ج – استعمال المصطلح المعرب بدل المصطلح العربي؛ فاللفظ المعرب "الآنية"، وإن بدا قريبا من معناه الذي استعمل به في العربية من اللفظ الألماني، فإنه مردود من الوجود الآتية:

أولها، أنه يخالف مراد "هيدجر" من "einai" اليونانية، فإنا نعلم أن "هيدجر" اتخذ من مبادئه الأساسية العناية بالألفاظ الفلسفية اليونانية في جانبيها الاصطلاحي واللغوي، فجعل للفظة "einai" مقابلا لمانيا هو: "sein" وليس "Dasein" كما فعل بدوي ولو أنه ادعى أن تعريبها في صورة "الآنية" خرج ها إلى معنى مختلف عن مدلولها في سياقها اليوناني(5).

والثاني، أن من المؤلفين العرب من صرف صيغة "الآنية" إلى صيغة "الآنية"، مشتقا لها من حرف التوكيد: "إن" (بالكسر والتشديد)، وحاملا لها على معنى "القوة=في الوجود"، حتى الصرف في نظرنا دليل على إرادة رفع التهويل عن مصطلح "الآنية"، حتى يسهل إدراكه على الفهم وتستأنس به النفس ولو أن بدوي رأى فيه خلطا وبعدا عن المقصود.

والثالث، يبدو أن اللفظ العربي: "الكينونة"، أقرب إلى أداء معنى "Dasein" من غيره؛ فلقد صار بعض المترجمين إلى محاكاة بنية المقابل الفرنسي لـ"dasein" في نقل هذا اللفظ الألماني إلى العربية، وهذا المقابل هو: "l’être-là"، فجاء هؤلاء المترجمون بالتركيب التالي: "الكائن-هنا"، ولا يخفى ما يحمله هذا التركيب من غرابة وما يحدثه من نفور؛ والواقع أن لفظ "الكينونة" من غير زيادة كاف للدلالة على ما تدل عليه "Dasein"؛ ذلك أنه، لما كانت عادة "هيدجر" أن يستثمر الصيغ الاشتقاقية للألفاظ ومدلولاتها اللغوية في تقرير معانيها الاصطلاحية، فإنه رجع في تحديد المعنى الفلسفي للفظ "Dasein" إلى مدلول جزئه: "Da"، الذي يستفاد منه معنى "هنا" و"هناك"، في دلالتهما على المكان؛ وإذا نحن راعينا هذه العادة في كتابة "هيدجر"، فإن لفظ "الكينونة"، يكون أنسب من غيره لإفادة المقصود من حيث إن "الكينونة" و"المكان" مشتقان من نفس الجذر "ك/و/ن"، هذا الاقتران الاشتقاقي الذي يزيد في رسوخه إمكان تعدية فعل "كان" بالرحف "في"، فيصير دالا على معنى "الوجود بالمكان" كما هو الشأن "Dasein"، وإن كانت مكانيته عند "هيدجر" من نوع متميز، فضلا عن أن العربية تسمح بحذف الأدوات المقترنة بالأسماء متى ارتفع الالتباس، فيقال: "الكائن" و"الكينونة" ويقصد به "الكائن في شيء ما" و"الكينونة في شيء ما"، فتتخذ العبارة المذكورة الصورة التالية:

        يجعل "هيدجر" من فكرة "الوجود-في-العالم" عنصرا مؤسسا للكينونة".

        وباختصار، فإن الأخذ بالطريقة التعليمية في ترجمة عبارة الأستاذ الحبابي يؤدي إلى تهويل بعض المعاني الفلسفية الواردة فيها، من مظاهر هذا التهويل استعمال الغريب مكان المألوف والجمع بين الضدين وإيثار المصطلح المعرب على المصطلح العربي ونبذ التأصيل الدلالي للمصطلح المعرب، وأشدها ابتداع صيغ اصطلاحية على غير وزن مقرر، يكون من شأنها زعزعة الجهاز المقولي الذي يتوسل به المتلقي في تفكيره، فيضطرب عنده كيفه وكمه، بحيث يصح القول بأنه لا مترجم تعليمي بمنأى عن انقلاب تفكيره إلى تفكير غيره.

1-3 الترجمة الإبداعية لعبارة الحبابي:

        لقد ذكرنا أن المراد من الترجمة الإبداعية هو إقدار المتلقي المغربي على التفلسف، ولا يكون ذلك إلا بعبارة مختصرة وميسرة يقع التركيز فيها على العناصر الفلسفية الضرورية التي يتضمنها النص الأصلي مع وصلها بالمجال التداولي للمتلقي.

        إذا كانت العبارة التي استخلصناها من الترجمة التعليمية، وهي "يجعل "هيدجر" من فكرة "الوجود في العالم" عنصرا مؤسسا للكينونة"، تبدو خالية من التطويل والتهويل معا، فإنه يبقى في الإمكان إيجاد أسباب توثق صلتها بالمجال التداولي للمتلقي، حتى يسهل عليه استثمار عناصرها الفلسفية بما يعمق أبعادها الاستشكالية ويوسع آفاقها الاستدلالية.

        فبين أن العناصر الفلسفية التي تضمنها هذه العبارة هي أساسا ثلاثة، وهي: "الكينونة" و"الوجود-في-العالم" و"التأسيس"، وبين أيضا أن "الكينونة" و"الوجود في العالم" بمنزلة طرفين اثنين تربط بينهما علاقة هي بالذات "التأسيس"؛ ويبدو أن مفهوم "التأسيس" مفهوم راسخ في الممارسة العربية بحيث يشمل حقله الدلالي على ألفاظ "الانبناء" و"التأصيل" و"التعلق" و"التفرع"؛ وقد اشتهر منها لفظ "الأصل" في الدلالة على معنى "التأسيس"، فيقال: "الأصل في كذا هو كذا" بمعنى "أكذا يؤسس كذا" أي أن مدلول "الأصل" ومدلول "العنصر المؤسس" متماثلان، فضلا عن أن استعمال أشهر الصيغ في أداء معنى مخصوص يفتح أكثر من غيره أسباب استثماره، إشكالا وشاكلة؛ لذا، يجوز لنا أن نضع مكان التعبير: "عنصر مؤسس" نظيره "أصل"، فنقول:

        يجعل "هيدجر" من فكرة "الوجود-في-العالم" أصلا للكينونة".

        وبذلك نكون قد زدنا من أسباب انخراط هذا القول في الشبكات الاستدلالية والتشكلات المضمونية التي تعلقت بمفهوم "الأصل".

        ثم إنه لما كانت غاية الترجمة الإبداعية هي إقدار المتلقي المغربي على التفلسف، فحيثما وجدت في النص الأصلي مواضع يمكن رفعها إلى مرتبة التفلسف ولو أنها تبدو خالية من الصف الفلسفية أو تبقى هذه الصفة مضمرة فيها، فإن المترجم الإبداعي لا يتردد في إسناد أو إبراز هذه الصفة متى ساعدة على تحقيق هذه الغاية؛ من هذه المواضع في العبارة المذكورة الصيغة: "جعل من فكرة كذا وكذا". فهذه الصيغة لا تختص بالمجال الفلسفي، وقد يكون استعمالها أشهر في غير هذا المجال مثلا لمجال المحسوس؛ وقد نرفعها إلى أفق التفلسف إذا نحن استعملنا بدلها لفظا يفيد نفس المعنى مع شهرته في المجال الفلسفي، وهذا اللفظ هو "ادعى"، فنقول:

        "ويدعي "هيدجر" أن الأصل في الكينونة الوجود في العالم" فحينئذ يظهر أن هذه الجملة لم تعد تنطوي إلا على عناصر راسخة في التفلسف: اثنان منها مأصولان، وهما: "الادعاء" و"الأصلية" واثنان منقولان، وهما: "الكينونة" و"الوجود في العالم"؛ وعلى رسوخها جميعا في التفلسف، نجد فيها قصرا في الصيغة ويسرا في المحتوى.

2- تقويم الترجمات الثلاث من جهة الحداثة والكونية:

        يبقى علينا أن نبين كيف أن هذه الترجمة الإبداعية لعبارة الحبابي تفضل ترجمتها الاتباعية من جهة فتحها لباب الحداثة الفلسفية وإسهامها في الكونية الفلسفية.

        2-1 الترجمات الثلاث والحداثة الفلسفية:

        فإذا كانت الترجمة الاتباعية لهذا القول من الضرب التعلمي، فإنها تجمد على اللفظ؛ وبجمودها على اللفظ، فإنها لا تملك سبيلا إلى الاندماج اللغوي في المجال التداولي للمتلقي، فيبقى تشغيلها فيه رهينا بالتشغيل الذي يحصل للأصل في مجاله، فيسقط المتلقي في تبعية مطلقة تسلخه سلخا عن كل قدرة ذاتية في تحديث تفلسفه. وإذا كانت الترجمة الاتباعية للعبارة المذكورة من الضرب التعليمي، فإنها تجمد على المضمون؛ بجمودها على المضمون، فإنها لا تملك سبيلا إلى الاندماج المعرفي في المجال التداولي للمتلقي، فتبقى الاستفادة منها محصورة في حدود بعض ما يفيده الأصل في جاله، فيقع المتلقي في تبعية ظاهرة تجعله يتعثر تعثرا في تكوين قدرته الذاتية على الإبداع في تحديث تفلسفه.

        وعلى الإجمال، فإن الحداثة التي تورثها الترجمة الاتباعية لعبارة الحبابي، لا تتعدى الحداثة الجامدة التي لا تثمر إبداعا كما في ضربها التعلمي ولا ترسخ إبداعا كما في ضربها التعليمي.

        في حين أنه إذا كانت الترجمة لهذه العبارة إبداعية، فإن الأمر بخلاف ذلك، وبيان هذا كما يأتي:

        أ – أن المتلقي قد ينقل إليها كل ما حصبته ذاكرته من سابق التفلسف الذي دار بصدد مفهوم "الادعاء" ومفهوم "الأصالة".

        نذكر من وجوده التفلسف الذي اقترن بـ"الادعاء" أن الادعاء يجلب الاعتراض أي بالاصطلاح الحديث "النقد"، بحيث لا يكاد المتلقي يدرك مضمون قول "هيدجر"، حتى تحضر في ذهنه قابليته للنقد، فيبادر إلى تشغيل ملكته الفلسفية بما يولد فيها أسباب للاغتناء ومسالك للحديث، ومن وجوهه أيضا، أن الادعاء، بجلبه للاعتراض، يجعل من الحوار، أي من "النظر المزدوج" لا "النظر المنفرد"، الطريق الصحيح لممارسة التفلسف، فيتولى تنمية أسباب الانفتاح على المخالف والاستفادة من المختلف.

        ونذكر من جوانب التفلسف التي صحبت مفهوم "الأصلية" أن الأصل يستدعي أمورا أخرى تنبني عليه هي "الفروع"، بحيث لا يكاد المتلقي يعلم بأصلية "الوجود في العالم"، حتى تحضر في نفسه الصبغة الاستدلالية لهذا الانبناء، فيدخل في تنشيط ملكته المنطقية بما ينشئ فيها أسبابا للتوسع ومسالك التجديد؛ ومن هذه الجوانب أيضا، أن "الأصلية"، باقترانها بـ"الفرعية" تبعث على الدخول في المفاضلة بين الأشياء وفي ترتيبها وتأخيرها بحسب أهميتها، فيتولى المتلقي تنمية وسائله في تنظيم المتفرق وإحكام الوصل بين عناصره.

        ب – أن متلقي الترجمة الإبداعية للعبارة السالفة قد يقوى على أن يحدث في دعوى "هيدجر" ما لم تخطر صيغه على بال "هيدجر"، بل ما لم يخطر مضمونه بباله، سواء وافق رأيه أم لم يوافقه؛ ولا يضر هذا الاختلاف الفلسفة في شيء، بل على العكس من ذلك وعلى خلاف ما ساد به الاعتقاد، ينفعها نفعا لا تبلغه مطابقة اللفظ الأصلي أو مطابقة المعنى الأصلي؛ فإن المقصود من الفلسفة ليس حفظ ما قاله الغير على مقتضاه، بل تحصيل القدرة على تجديد التفلسف فيه على مقتضى المتلقي، ادعاء واعتراضا؛ فعلى سبيل المثال، قد يتكلم المتلقي عن معنى "تفرع الكينونة" من "الوجود في العالم"، فيتساءل عن كيفيته وعن أسبابه ومآله، وقد يحمل معنى التفرع" على معنى "التعلق"، فيتساءل عن طبيعة هذا التعلق: أهو بمعنى أن الكينونة تابعة للعالم أم بمعنى أن العالم محيط بالكينونة، أو بمعنى أن العالم أفق تتطلع إليه الكينونة أو بمعنى أن العالم قريب من الكينونة قرب الأليف لإلفه؟ وغير من الأسئلة التي تتولد من قولنا: "الكينونة متعلقة بالعالم" متى وظفنا الخصائص التداولية لمفهوم "التعلق"؛ وقد يصير المتلقي إلى تمييز "الكينونة" عن "الوجود"، فيجعل الثاني أصلا للأول بما أنه أعم منه وهذا أخص منه لثبوت اقترانه بالعالم، أي أن كل كينونة وجوده وليس كل وجود كينونة؛ وقد يتساءل كيف يكون الوجود المنفك عن العالم وكيف تكون علاقته به على انفكاكه عنه؟، ومثل ذلك كثير من إمكانات التفلسف التداولي التي قد يصادف بعضها ما أثبته "هيدجر" وقد يخالف بعضها ما تضمنه فكره، فتمارس هذه الإمكانات نوعا من التحديث الجدلي الذي تتفاعل فيه المفاهيم المأصولة والمفاهيم المنقولة فيما بينها، حيث إن إدخال عنصر من عناصر أحد الطرفين على عنصر من عناصر الطرف الثاني قد، يجعل الثاني ينشئ في الأول ما لم يكن فيه، ف"التعلق"، مثلا، لما دخل على "الكينونة" و"العالم"، فإن دخوله عليهما جعل مفهومه يتسع لما جد في باب "الكينونة" و"العالم"، فالتعلق في أصله لا يستفاد منه معنى "الإحاطة" التي جعلها "هيدجر" خاصية مميزة للعالم، ولكن صار بهذا الدخول الجديد يفيدها إفادة.

        وهكذا يتضح أن الحداثة الفلسفية الحية للعبارة المذكورة تظهر في كونها تفتح باب التفاعل بين المعاني الفلسفية المأصولة والمعاني المنقولة التي انطوت عليها، حتى إنها تخرج المتلقي إلى تفلسف موصول غير مغلوق ومثمر غير مسبوق.

        2-2 الترجمات الثلاث والكونية الفلسفية:

        لما كانت الحرفية اللفظية التي يتصف بها النقل التعلمي لعبارة الحبابي تدخل عليه شيئا من الاضطراب في البنية والاستغلاق في المضمون، فإنها تحمل المتلقي على الاعتقاد بأن كل ما ورد فيها من صورة ومحتوى يجب حفظه حفظا، فيتولد في نفسه الشعور بالتقديس لهذا المنقول الفلسفي، بحيث ينتهي إلى اعتباره قانونا فلسفيا كليا ينطبق حتما عليه وعلى غيره، فيظن أن إسهامه في كونية هذا المنقول يتم بالتسليم المطلق به، على اضطراب نقله البنيوي واستغلاله المضموني، منحجبا بذلك انحجابا كاملا عن التفطن لخصوصيته.

        ولما كانت الحرفية المضمونية التي يختص بها النقل التعليمي لعبارة الحبابي تدخل عليه شيئا من الغموض في المضمون، فإنها تحمل المتلقي على الاعتقاد بأن ما جاء فيها من مضمون ينبغي صون دقائقه، فيتولد في نفسه الشعور بجلال الأحكام التي انطوى عليها هذا المضمون، بحيث ينتهي إلى اعتبارها أحكاما عقلية كلية تلزم جميع المتعاطين للفلسفة، فيظن أن إسهامه في كونية هذا المنقول الفلسفي هو التسليم الصريح به، على غموضه المضموني، ممتنعا بذلك عن توظيف بعض أسباب خصوصيته التي قد يكون تفطن إلى وجودها.

        وبإيجاز، فإن الكونية التي تورثها الترجمة الاتباعية لعبارة الحبابي لا تتعدى الكونية المنغلقة التي لا تثمر وعيا بالخصوصية كما في النقل التعلمي ولا ترسخ وعيا بالخصوصية كما في النقل التعليمي.

        في حين أنه إذا كانت ترجمة عبارة الحبابي إبداعية، فإن الأمر بخلاف ذلك، وبيان هذا كما يأتي:

        أ – أن الاعتقاد في كونية العبارة المنقولة لا يرفع الاعتقاد في خصوصية استثمارها؛ فقد يسلم المتلقي بكونية الفكرة التي تحملها وهي "عالمية الكينونة" كما جاءت عند "هيدجر"، لكن يوظف في التفلسف بصددها أدوات منبثقة من مجاله التداولي، وقد لا يكون لها نظير عند "هيدجر"، كأن يكون معنى "عالمية الكينونة" عند هذا الأخير هو "ظهور الكينونة وخروجها إلى العالم وحضورها فيه"، فيدور تفلسف المتلقي على معنى "الظهور" مقرونا بمعنى "البطون"، وعلى معنى "الخروج" موصولا بمعنى "الإخراج" وعلى معنى "الحضور" مقترنا بمعنى "الغيبة"، نظرا لما رسخ في مجاله من حقائق تتصل بها، أنه لا يظهر إلا ما بطن ولا يخرج إلا ما أخرج ولا يحضر إلا ما غاب، فيكون المفهوم الهيدجيري للكينونة قد استع استشكاله ةتةسع استدلاله من طريق غير الطريق الذي سلكه "هيدجر".

        فحينئذ يكون الإسهام في الكونية الفلسفية للعبارة المنقولة هو تطوير مضمونها بحسب وسائل غير الوسائل التي بنيت بها في الأصل، زيادة في طاقتها الفلسفية.

        ب – الخصوصية الفلسفية للترجمة الإبداعية لعبارة الحبابي تخدم الكونية الفلسفية لمضمونها؛ فمثلا إذا ركز الأصل على معنى "التأسيس" واشتغل المتلقي بمعنى "الأصلية"، فإن ما يتحصل من مشاكل وشواكل بصدد "الأصلية" يجوز إضافته إلى ما تحصل منه بصدد "التأسيس" في الأصل، وقد يتفاوتات في جزء من هذه المشاكل والشواكل، لكن هذا التفاوت لا يغير في شيء صحة التفلسف؛ فإذا جاز أن تختلف النزاعات الفلسفية فيما بين أهل الأصل نفسه، فلأن يجوز اختلافها بينهم وبين أهل النقل أولى؛ وإذا كان الاختلاف بين أهل الأصل لا يمنع من حصول اشتراكهم في رؤية فلسفية مخصوصة، فكذلك الاختلاف وبين أهل النقل لا يمنع من حصول اجتماعهم على على رؤية فلسفية شاملة.

        وعلى هذا، فإن الإسهام في كونية العبارة الفلسفية المنقولة لا يقوم أبدا في اتباع نمط واحد من الفكر وإلا انقلب إلى تبعية ضارة، وإنما في ابتكار نمط جديد فيه يجتمع إلى سابقه ويتكامل معه؛ لذلك فإن الآفاق الإشكالية والأبعاد التدليلية التي تفتحها هذه الترجمة الإبداعية تستحق إما استحقاق أن تنظم إلى غيرها انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض في بناء مشترك للكل، كأنما هي جميعها منظورات مختلفة متواردة على شيء واحد.

        والقول الجامع لما تقدم أن ما يشهده المغرب الحديث من يقظة فلسفية لا يمكن أن يرفع همة الفيلسوف المغربي إلى مزيد الإيقاظ، ما لم يخرج عن النمط الاتباعي الموروث في ممارسة الترجمة والذي يتقيد، إما بحرفية اللفظ، وإما بحرفية المضمون، فيكون المآل الجمود على المنقول الفلسفي، ولا خروج له إلا ابتكار نمط في الترجمة غير مسبوق يختص بانتزاع المعاني الفلسفية الأساسية من النص الأصلي وتفعيلها بالمعاني الفلسفية المستمدة من المجال التداولي، حتى إذا بلغ التزاوج بينهما غايته، انبثقت عنها جملة من الإشكالات والاستدلالات التي تفتح الطريق لقيام تفلسف فيه من الأصالة بقدر ما فيه من الحداثة وفيه من الخصوصية بقدر ما فيه من الكونية.

        وقد تجلى ذلك في المثال الذي سقناه، تذكيرا برائد هذه اليقظة، فقد جاءت الترجمة الإبداعية لعبارته حاملة لأسباب من التفلسف لا نظير لها في الأصل الذي نقلت عنه فتكون حداثتها قائمة في إبداعيتها كما تكون كونيتها قائمة في إسهاميتها.

الهوامش

1 – M.A LAHBABI : De l’être à la personne, PUF, 1954, p. 2.

2 – محمد عزيز الحبابي، من الكائن إلى الشخص، دار المعارف بمصر، 1963، ص: 32.

3 – J.P. SARTRE : L’être est le néant, Guallimard, Paris, 1943.

4 – قد استعمل المستشرق والفيلسوف "هنري كوربان" هو أيضا تعبير "الواقع الإنساني" في ترجماته وكتاباته، لنظر:

A. CHAPPELLE : L’ontologie phénoménologique de Heidegger, Editions universitaires, Paris, 1962, p. 13.

وكذلك محمود رجب، الميتافيزيقيا عند الفلاسفة المعاصرين، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1970، ص: 71.

5 – عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، مكتبة النهضة المصرية، 1955، ص: 5.

ندوة "راهن الفكر الفلسفي بالمغرب" طه عبد الرحمن

        - عبارة الأستاذ الحبابي:

« Heidegger fait de l’idée de l’être-dans-le-monde » un phénomène constitutif de la réalité humaine (De l’être à la personne, p. 24).

1- الترجمة التعليمية لعبارة الحبابي:

"إن (1) "هيدجر" يجعل من فكرة "الكائن-في-العالم" (4) ظاهرة تأسيسية (5) للحقيقة (2) البشرية (3)".

يقع هذا النقل في تطويل العبارة بالجمود على صور الألفاظ، ومن مظاهر هذا التطويل اللغوي الاستعمالات التالية:

1- الجملة الإسمية بدل الجمل الفعلية.

2- التعبير الملتبس بدل التعبير الواضح.

3- التعبير المركب بدل اللفظ البسيط.

4- اسم الفاعل بدل اسم المصدر.

5- النسبة بدل الاسم.

2- الترجمة التعليمية لعبارة الحبابي:

يجعل "هيدجر" من فكرة "الكونية-في-العالم" (1) ظاهرة (2) تأسية للآنية (3)".

يقع هذا النقل في تهويل العبارة بالجمود على الحقائق المضمون، ومن مظاهر هذا التهويل المعرفي:

1- الأخذ بالاصطلاح النادر بدل الاصطلاح المتداول.

2- الجمع بين الضدين.

3- الأخذ بالمفهوم المعرب بدل المفهوم العربي.

3- الترجمة الإبداعية لعبارة الحبابي:

"يدعي (1) "هيدجر" أن الأصل (2) في الكينونة (3) الوجود في العالم (4). يتميز هذا النقل بقصر العبارة ويسر المضمون لفتحه باب التفاعل بين المعاني الفلسفية المأصولة والمعاني الفلسفية المنقولة؛ وبيان ذلك:

1-2- "الإدعاء" و"الأصل" مفهومان مأصولان.

3-2- "الكينونة" و"الوجود في العالم" مفهومان منقولان.

- حداثيته الحية: انبناء الادعاء على مبدإ الحوار في الممارسة الفكرية.

- كونيته المنفتحة: توليد نمط جديد من الاستشكال والاستبدال الفلسفي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق