إسماعيل المصدق
كلية الآداب - القنيطرة
يسرني أن أهدي هذه الدراسة إلى الأستاذ Heinrich Hüni الذي فتح عيني على كثير من خبايا تفكير هايدجر وقوله، مع أطيب المتمنيات بمناسبة عيد ميلاده الخامس والستين.
يلاحظ المتتبع لمسار تفكير هايدجر أن تجربة المفكرين الإغريق الأوائل لم تكن تحتل مكانة مهمة في تحليلات "الكون[2] والزمان Sein und Zeit" وفي كتاباته ومحاضراته الجامعية التي ترجع إلى نفس الفترة. لقد كان هايدجر آنذاك مقتنعا بأهمية الفلسفة الإغريقية وبأن ما أتى بعدها لم يرقَ إلى مستواها. لكنه مع ذلك كان يركز اهتمامه على أفلاطون وأرسطو خاصة. ورغم إشاراته إلى بارمنيد وهيراقليط وغيرهما من المفكرين الإغريق الأوائل، فإنه لم يكن يرى في تلك الفترة فائدة من فتح حوار معهم.
هذا الأمر سوف يتغير في الفترة التي تلت صدور "الكون والزمان" والتي عمل فيها هايدجر على إعادة تأمل منطلقه الفلسفي. منذ الثلاثينات من القرن الماضي بدأ اهتمام هايدجر بالإغريق الأوائل يتزايد ويتعمق، بل أصبح تأويله لتجربتهم وحواره معهم يحتل مكانة أساسية في تفكيره ويلعب دورا مركزيا في فهمه وتأويله للتاريخ الغربي.
كيف يمكن تفسير هذا التحول في موقف هايدجر من المفكرين الإغريق الأوائل؟ يمكن أن نلاحظ أن هايدجر في نفس الفترة التي بدأ فيها يهتم بـ "البدء الأول" كما عبر عن ذاته في تجربة المفكرين الإغريق الأوائل أخذ يتحدث أيضا عن "بدء آخر" ممكن يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت اكتمالها في سيطرة الأسلوب العلمي – التقني للتعامل مع العالم والأشياء. وهذا الأمر قد يبعث على الاعتقاد بأن البدء الآخر المأمول لن يكون سوى إحياء للبدء الأول في تجربته الأصلية مع المفكرين الإغريق الأوائل. إذا قبلنا هذا الافتراض فمعنى ذلك أن اهتمام هايدجر بالإغريق الأوائل منذ الثلاثينات من القرن الماضي يجب فهمه كهروب من عدمية العصر الحاضر وحنين إلى أصل طاهر. وعليه سيكون البدء الأول هو الحالة الأصلية التي تتميز بالطهر والبراءة؛ في حين ستمثل الميتافزيقا حالة الانحدار والسقوط والابتعاد المتزايد عن هذه الحالة الأصلية؛ أما الخلاص من هذا السقوط فسيكون بالرجوع إلى الأصل الأول وبراءته.
تقدم هذه الخطاطة تفسيرا سهلا وبسيطا لاتجاه هايدجر نحو الحوار مع المفكرين الإغريق الأوائل، لكن هذا التفسير يبقى عقيما ولا يساعد بتاتا على فهم المقاصد الحقيقية لهايدجر وبالأحرى على الاستفادة من أسلوبه في التعامل مع التقليد الفلسفي. لذلك سنحاول في هذه الدراسة أن نلقي بعض الضوء على علاقة هايدجر بالمفكرين الإغريق الأوائل من خلال متابعة متأنية لبعض المحطات الأساسية في طريقه الفكري. سنبرز في قسم أول المكانة التي تحتلها الفلسفة الإغريقية عند هايدجر خلال فترة "الكون والزمان"، وسوف يتضح أن عدم اهتمام هايدجر آنذاك بالإغريق الأوائل يرتبط بتصوره لبرنامج نقض تاريخ الأنطولوجيا، كما سيتبين أن هايدجر لم يتمكن من إنجاز برنامجه ذاك، لأن فهمه للتاريخ في تلك الفترة لم يكن قادرا على حمله. أما القسم الثاني فسيعمل على بيان أن اهتمام هايدجر ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي بتجربة المفكرين الإغريق الأوائل يرتبط بتعميق فهمه للتاريخ، وسوف يتضح أن رجوع هايدجر إلى هذه التجربة وحواره مع مفكريها الأساسيين لم يكن بغرض بعثها أو إحيائها من جديد، بل من أجل فهم الميتافزيقا التي انبثقت عنها والتي حددت التفكير والتاريخ الغربيين إلى الوقت الراهن. إن استعادة البدء الأول في أصليته هو ضرورة يفرضها التهيؤ لبدء آخر يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت ذروتها في العالم التقني الذي يحدد تجربتنا في الوقت الحاضر.
عرف هايدجر منذ بداية طريقه الفلسفي كيف يزاوج بين معالجة القضايا الفلسفية التي تشغله وبين البحث في تاريخ الفلسفة. لا يتعلق الأمر عند هايدجر بمهمتين منفصلتين، بل متداخلتين. هكذا كان يدخل أحيانا خلال طرح ومعالجة أسئلته الفلسفية في حوار مع فلاسفة آخرين، كما كان في أحيان أخرى يصوغ قضاياه الفلسفية ويبسطها من خلال حواره مع فلاسفة ينتمون لحقب مختلفة من التقليد الفلسفي. ورغم أن هايدجر لم يهتم بكتابة تاريخ شامل للفلسفة على غرار هيجل، فإنه ترك كتابات غزيرة يقوم فيها بقراءة وتأويل عدد كبير من الفلاسفة. لماذا هذا الاهتمام بتاريخ الفلسفة؟ ولماذا هذا الحوار الذي لا ينتهي مع التقليد الفلسفي؟
لمعالجة هذا السؤال سيكون من المفيد أن نعود إلى دراسة حررها هايدجر خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1922 وقدمها لدعم طلبه للحصول على منصب الأستاذية بجامعة جوتنجن أو ماربورج. تحمل هذه الدراسة عنوان "تأويل فينومينولوجي لأرسطو"[3] وتضم مشروعا لمؤلف مفصل حول هذا الفيلسوف.
هذه الدراسة مهمة جدا من زاوية موضوعنا لأنها تبين لماذا يجب الاهتمام بالبحث في تاريخ الفلسفة ولماذا يجب الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية وبالضبط إلى أرسطو. إن الحوار مع التقليد الفلسفي بالنسبة لهايدجر ليس مجرد ملحق للبحث الفلسفي هدفه الإشارة إلى ما قام به الآخرون أو التعرف على كيفية تفكير الفلاسفة السابقين، كما أنه ليس مناسبة لوضع تاريخ شامل يعرض تطور الفلسفة، بل هو الطريق الحق الذي يجب فيه أن يواجه الحاضرُ ذاتَه (ص. 249). فالبحث في ماضي الفلسفة لا يتم إذن من أجل هذا الماضي، بل من أجل الحاضر، إن له علاقة أساسية بالوضعية الحالية وبالفلسفة السائدة فيها. يرى هايدجر أن الفلسفة يجب أن تكون تأويلا للحياة، لكنه يسجل في نفس الوقت أن فلسفة الوضعية الحالية آنذاك لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، إنها لا تستطيع أن تعبر عن الحياة بكيفية مباشرة، أو بعبارة أخرى إن التأويل الذي تقدمه ليس مستمدا من الحياة ذاتها في حيويتها وفي حركياتها الأساسية. والفلسفة الحالية لا تستطيع القيام بهذه المهمة لأنها تتحرك في مفاهيم موروثة أصبحت بفضل توارثها بديهية وتلقائية وبذلك فقدت القدرة على أن تعبر تعبيرا مباشرا عن الحياة. إن المفاهيم التي تتحرك فيها الفلسفة الحالية ليست مكتسبة بكيفية أصيلة، ليست نابعة من الاستماع للحياة، بل مستعارة من التقليد الفلسفي. والفلسفة الحالية توظف هذه المفاهيم دون أن تتساءل عن المجال الذي انبثقت عنه وعن التجارب الأصلية التي نبعت منها والحوافز الأصلية التي تولدت عنها.
يفسر هايدجر استعمال الفلسفة للمفاهيم المتوارثة دون مساءلتها وتحديد أصلها انطلاقا من ظاهرة "السقوط das Verfallen" الذي هو ميل أساسي ينتمي لحركية الحياة ذاتها وينتاب كل سلوك في الحياة الفعلية، بما في ذلك السلوك الذي ينتمي إلى مجال المعرفة والتأويل. بمقتضى هذا الميل تعيش الفلسفة غالبا في ما هو غير أصيل، أي في ما يُنقل إليها وتمتلكه بكيفية غير أصيلة. تبعا لذلك تسقط الفلسفة في ما هو تلقائي ومعتاد وتستسلم له، أي تسقط في التأويلات المتوسطة durchschnittlich والعمومية ِffentlich. وحتى ما تم اكتسابه بكيفية أصيلة في البداية يسقط في المتوسطية والعمومية، يفقد معناه الأصلي ويصبح معتادا ومقبولا دون مساءلة ونقد وتوضيح (ص. 248).
لكي تكتسب الفلسفة شفافية إزاء وضعيتها وتتهيأ للقيام بمهمتها يجب أن تكشف عن علاقتها بماضيها. أما إذا ظلت علاقتها بموروثها غير واضحة، فإنها ستبقى خاضعة له خضوعا أعمى. توضيح علاقة الفلسفة الحالية بماضيها هو إذن تحرير لها من أجل أن تقوم بمهمتها الأساسية. في سياق توضيح هذه العلاقة يلاحظ هايدجر أن فلسفة الوضعية الحالية تفهم الحياة انطلاقا من مفاهيم وتحديدات تعود إلى الأنطولوجيا الإغريقية. لكن ما يزيد المشكل تعقيدا في نظر هايدجر هو أن الفلسفة الحالية لا تتحرك في هذه المفاهيم في صيغتها الأصلية لدى المفكرين الإغريق، بل في الشكل الذي اتخذته بعد أن مرت بسلسلة من التحويلات والتحويرات المتلاحقة وعرفت تحريفات وتقنيعات متتالية. إن الفلسفة الحالية تستعمل المفاهيم الإغريقية بعد أن تمت إعادة تأويلها مرارا خلال تاريخ الفلسفة وخاصة من قِبل الفلسفة المدرسية للعصر الوسيط. خلال عمليات إعادة التأويل هاته فقدت تلك المفاهيم أصليتها وصلتها الأولية بالحياة وبالتالي وظائفها التعبيرية. إن الفلسفة الحديثة ذاتها إلى اليوم تتحدد في فكرتها عن الإنسان، عن المثل العليا للحياة، عن تصوراتها للحياة البشرية انطلاقا من مخلفات لتجارب أساسية أثمرتها الأخلاق الإغريقية والفكرة المسيحية عن الإنسان والوجود البشري (ص. 249). إن التأويل المسيحي للحياة كما ترسخ في الفلسفة واللاهوت الوسيطين يحدد الفلسفة إلى الوقت الراهن، وهذا التأويل يتأسس بدوره على الأنطولوجيا الإغريقية.
إذا كان من الواجب تحرير الفلسفة لتقوم بمهمتها التي هي إنجاز تأويل مباشر للحياة في حركيتها، فإنه لا بد من الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية وكشف الطبقات التي تراكمت على مر العصور فوق مفاهيمها وأدت إلى تحريفها وتقنيعها واجتثاثها من تربتها الأصلية. هذه المهمة يطلق عليها هايدجر النقض die Destruktion وسيبقى ملتزما بها طوال مساره الفكري. يعني النقض هنا كشف وتقويض التحريفات التي تعرضت لها المفاهيم الإغريقية وإعادة بناء علاقة هذه المفاهيم بتجاربها وحوافزها الأصلية. وإذا كان هذا العمل ينطوي على نقد، فإن هذا النقد ليس موجها للماضي، بل للحاضر،أو لعلاقة هذا الحاضر بماضيه.
عندما يتكلم هايدجر عن ضرورة الرجوع إلى الأنطولوجيا الإغريقية، فهو يعني بذلك أساسا التوجه إلى أرسطو، إلى حد أنه يعتبر أن التفلسف الحق في الوضعية الحاضرة لا يمكن أن يكون إلا تأويلا فينومينولوجيا لأرسطو. لكن لماذا يقع اختيار هايدجر على أرسطو؟ يمثل أرسطو في نظر هايدجر اكتمال الفلسفة السابقة عليه والتعبير المشخص عنها (ص. 251). لكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لهايدجر هو أن الفلسفة الأرسطية هي بدء الفلسفة اللاحقة بأكملها، وهذا يعني أن المفاهيم الأساسية لفلسفة أرسطو لم تكن مقتبسة بكيفية تلقائية غير أصيلة من تقليد سابق، لأن أرسطو هو بداية كل التقليد الفلسفي. إن مفاهيمه لا يمكن أن تكون مستمدة إلا من الحياة ذاتها ولا يمكن أن تكون قد فقدت وظائفها التعبيرية[4]. لهذا يبقى أرسطو هو الوجه البارز للفلسفة الإغريقية، وحتى ما هو سابق على أرسطو لا يمكن فهمه إلا انطلاقا منه، فنظرية بارمنيد في الكون Sein مثلا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى أرسطو (ص. 252).
في المفاهيم الفلسفية لأرسطو تتكلم الحياة مباشرة، فما هو بدئي هو فقط ما يمكن أن يكون تعبيرا حقيقيا عن الحياة، أما في الزمن اللاحق، فإن المفاهيم الأرسطية بدأت تفقد علاقتها بجذورها وأرضيتها الحية. ومن مهمة النقض أن يعيد بناء هذه العلاقة وأن يبرزها. لكن هل معنى ذلك أن هايدجر يتبنى وصف أرسطو للحياة؟ وإذا كان ذلك صحيحا، أفلا يعني سقوطا في المفاهيم الموروثة واستسلاما لها؟ ماذا سيكون في هذه الحالة الفرق بين تفلسف يعود إلى أرسطو وبين الفلسفة السائدة في الوضعية الحالية؟
إن ما يميز تأويل أرسطو للحياة هو أنه تأويل مباشر، بمعنى أنه لم يتم بمفاهيم استقاها من تقليد سابق، بل بناها انطلاقا من انتباهه لتجارب الحياة ذاتها. وهذا لا يعني بصفة تلقائية أن هذه المفاهيم قد تمكنت بالفعل من الإمساك بالحياة. لذلك لا بد من فحص هذه المفاهيم ومساءلتها. والسؤال الموجِّه لهذا الفحص هو: هل معنى كون الحياة البشرية تم استقاؤه من تجربة أساسية محض لهذا الموضوع أي للحياة البشرية، أم أن أرسطو ينظر إلى الحياة البشرية انطلاقا من تحديدات أنطولوجية عامة تم استقاؤها من مجال آخر للموضوعات؟ (ص. 253) وبعبارة أدق: انطلاقا من أي نوع من الموضوعات تم تأويل كون الإنسان؟ (ص. 252)
يجيب هايدجر: إن أرسطو يؤول الحياة انطلاقا من تحديدات أنطولوجية تتعلق بالكائن[5] عموما، لكن هذه التحديدات العامة تم استقاؤها من الموضوعات المصنوعة التي توجد عادة رهن الاستعمال. إن مجال الأشياء التي يتم التعامل معها بكيفية الإنتاج والاستعمال هو مجال التجربة الأصلية التي تم منها استقاء معنى الكون الذي تم إسقاطه على الحياة البشرية (ص. 253).
أكيد أن المفاهيم والتحديدات المستمدة من تجربة الصنع والاستعمال لن تكون قادرة على الإمساك بالحياة في حيويتها وحركياتها الأساسية. لكن هذا لا ينفي تميز فلسفة أرسطو عن الفلسفات اللاحقة لها من حيث أنها نحتت مباشرة مفاهيمها ولم تتقبلها من تقليد سابق. لكن هذه المفاهيم ستفقد تدريجيا أرضيتها لكي تتحول إلى مفاهيم تُقبل بكيفية تلقائية دون مساءلة مما أدى إلى تحريفها وفصلها عن تجاربها الأصلية.
إذا كانت المهمة المطروحة هي تحرير فلسفة الوضعية الحالية من أن تظل أسيرة للمفاهيم الموروثة التي لم تبق قادرة على التعبير عن الحياة، فإن ذلك لن يتحقق بتبني فلسفة أرسطو وتأويلها للحياة. إن الرجوع إلى تفكير البدء لا يعني تبعية له، بل إنه خطوة إلى التفكير الحي الخاص بالوضعية الحالية. وهو يكون خطوة بهذا المعنى عندما يدرك أن فلسفة أرسطو التي تمثل بداية التقليد الفلسفي، هي أيضا لها طابع خصوصي. عندما يتم فهم فلسفة أرسطو كتعبير عن الحياة تكون منتمية إلى الماضي ولن يكون من الممكن تبنيها[6]. إذا كان أرسطو يمثل بدء التقليد الفلسفي، فإن المطروح ليس هو إحياء هذا البدء وتبنيه، بل فهمه؛ هذا الفهم لا يمكن أن يعود إلى تقليد سابق، بل لا بد أن يتم من خلال التساؤل عن التجارب الأصلية التي يستند إليها وعن شروط إمكانيته في بنيات الحياة الفعلية ذاتها. وهكذا فإن الرجوع إلى البدء يدعو إلى تفلسف يتم فيه من جديد التعبير عن الحياة بكيفية مباشرة.
هذه الكيفية في التعامل مع التقليد الفلسفي ستترسخ في مؤلف "الكون والزمان"[7]. لا بد أن نسجل في البداية أن هناك مسافة فكرية كبيرة بين دراسة 1922 وهذا المؤلف. ففي "الكون والزمان" سيصبح السؤال الأساسي عند هايدجر هو سؤال الكون، وسيضع هذا المؤلف على عاتقه مهمة إعادة طرح سؤال الكون وبسطه بعد أن وقع طي النسيان. أما تأويل الحياة، وبلغة "الكون والزمان" تحليل الكينونة[8]، فلن يصبح سوى تمهيد لطرح ومعالجة سؤال الكون عموما. صحيح أن دراسة 1922 تعتبر هي الأخرى أن الفلسفة كتأويل للحياة هي أساس كل الأنطولوجيات الجهوية (ص. 246)، ولكن ذلك لا ينفي أن تأويل الحياة والتعبير عن حركياتها يبقى هناك هو المهمة الأساسية للفلسفة. وعلاوة على ذلك فإن تحليلات هايدجر في "الكون والزمان" أصبحت أكثر صرامة كما أن مفاهيمه الأساسية أصبحت تمتلك وجها نظريا أكثر وضوحا.
لكن رغم كل ذلك فإن نظرة هايدجر إلى التقليد الفلسفي وأسلوب تعامله معه لم يعرفا تحولا كبيرا. سيظل هايدجر مقتنعا بأهمية نقض الأنطولوجيا التقليدية كما سيظل ربطه بين معالجة القضايا التي تهمه والحوار مع التقليد الفلسفي قائما، بل يمكن القول إن الكيفية التي طرح بها هايدجر سؤال الكون هي ذاتها وليدة حواره مع التقليد الفلسفي. إذا كان هايدجر يطرح سؤال الكون كسؤال عن العلاقة بين الكون والزمان، فهذا يعود إلى أنه أدرك من خلال حواره مع التقليد الفلسفي، وخاصة مع الأنطولوجيا الإغريقية، أن التأويل السائد في هذا التقليد يحدد الكون كحضور. وهذا يعني أن الكون يتم تأويله انطلاقا من بعد زمني هو الحاضر. في هذا التأويل للكون يلعب الزمان دور الخيط الموجه دون أن يكون لهذا التأويل إدراك صريح لهذا الخيط ودون فهم ومعرفة للوظيفة الأنطولوجية الأساسية للزمان. لهذا لا مناص للتفكير المتسائل من أن يطرح صراحة سؤال العلاقة بين الكون والزمان وأن يبين كيف ينتمي الزمان إلى معنى الكون وكيف يشكل الأفق الذي يتم انطلاقا منه فهم الكون[9].
يبقى هايدجر في "الكون والزمان" مقتنعا بأن النقض يجب أن يرجع إلى الفلسفة الإغريقية وبأن أرسطو يمثل علميا الدرجة الأرقى والأصفى لهذه الفلسفة (ص. 26). وإذا كان الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية ضروريا، فذلك لأنها لازالت تحدد الفلسفة وتوجه أسلوب تساؤلها وبحثها عن الأجوبة إلى اليوم. إن المفاهيم الأنطولوجية الإغريقية، بعد خضوعها لتأويلات متلاحقة حرفتها وفصلتها عن جذورها وأرضيتها، هي التي حددت ميتافزيقا العصر الحديث التي انتقلت إليها هذه المفاهيم في صياغتها المدرسية. هذه المفاهيم حددت كذلك توجه الفلسفة الترنسندنتالية كما حددت أيضا أسس وغايات "المنطق" لهيجل (ص. 2، 22).
يريد النقض أن يوضح علاقة الفلسفة بماضيها، وهذا التوضيح ضروري لأن علاقة الكينونة بالتقليد الذي تنتمي إليه لا تكون في العادة شفافة، فالكينونة تميل بمقتضى تحديد أساسي لها إلى أن تسقط في التقليد وتستسلم له دون مساءلة ونقد، حتى يحمل عنها عبء توجيهها وسؤالها واختيارها. وهذا يصح أيضا بالنسبة للفلسفة. فالفلسفة ككيفية من الكيفيات التي تنجز بها الكينونة وجودها تتعرض هي أيضا إلى أن تستسلم لتقليدها. والتقليد عندما يصبح سائدا لا يسمح ببلوغ ما ينقله، بل يقنعه. إنه يجعل الموروث بديهيا ويوصد الطريق إلى المنابع الأصلية التي تم منها استقاء المقولات والمفاهيم الموروثة. هكذا يقتلع التقليد تاريخية الكينونة من الجذور، والنتيجة هي أن الكينونة لا تفهم الشروط الأولية التي تسمح برجوع إيجابي إلى الماضي بمعنى تملك خصب له (ص. 21).
إن وظيفة النقض هي أن يحررنا من الاستسلام للتقليد وأن يجعلنا نفهم هذا التقليد في تاريخيته. أما الأدوات اللازمة لممارسة هذا النقض فيجب أن نستمدها من تحليل الكينونة. لكن لماذا يجب الرجوع إلى تحليل الكينونة إذا كان النقض يتم في علاقة بسؤال الكون وليس كتمهيد لتأويل الحياة؟
يجب أن نذكر هنا بأن تحليل الكينونة يمثل عند هايدجر في هذه الفترة خطوة ضرورية لمعالجة سؤال الكون. وهذا يعود إلى العلاقة المتميزة للكينونة بالكون، هذه العلاقة لا تبتدئ فقط عندما تهتم الكينونة الفلسفية بالكون وأنماطه ومقولاته، أي عندما تنشئ أنطولوجيا. إن علاقة الكينونة بالكون تسبق كل نظرية أنطولوجية، لأن الكينونة في حياتها اليومية تفهم دائما الكون بكيفية ما. هذا الفهم يبقى غالبا ضمنيا وغير محدد، لكنه لا يمكن أبدا أن يكون غائبا. لهذا يمكن القول إن الكينونة تتوفر دائما على فهم "قبل أنطولوجي" للكون؛ هذا الفهم هو شرط إمكانية كل أنطولوجيا، أي كل اهتمام صريح بالكون وكل محاولة لتحديد مفاهيمه ومقولاته، بل إن النظريات الأنطولوجية المختلفة تجد أساسها في هذه التصورات التي تمتلكها الكينونة اليومية بكيفية ما، إنها ليست سوى صياغة وبسط صريحين لهذه التصورات السابقة للأنطولوجيا.
ما دام الأمر كذلك فإنه من الواضح أنه لا يمكن ممارسة النقض إلا على ضوء معرفة ببنيات الكينونة. وهكذا فإذا كانت الأنطولوجيا التقليدية من الإغريق إلى اليوم تفهم الكون عموما انطلاقا من نمط كون الكائن الذي يقوم أمامنا das Vorhandene، فهذا يعود إلى أن الكينونة في فهمها المتوسط اليومي للكون تميل إلى أن تفهم كونها والكون عموما انطلاقا من الكائن الذي تتصرف إزاءه في البداية وفي الغالب، أي انطلاقا من "العالم" (ص. 15). إن فهم الكون يتوجه غالبا انطلاقا من أسس تكمن في الكينونة حسب الكائن القائم أمامنا، ولهذا فإن التأويل الأنطولوجي للكون في بداية الفلسفة يتوجه حسب ما هو قائم أمامنا[10]. ما يتجلى في المجال النظري للأنطولوجيا هو تحديد عام للكينونة يتمثل في الميل إلى أن تفهم ذاتها انطلاقا من الأشياء وأن تستمد مفهوم الكون مما هو قائم أمامنا[11].
إن نقض الأنطولوجيا التقليدية معناه في النهاية إبراز التحديدات التي تكمن في نمط كون الكينونة والتي تتأسس عليها المفاهيم والنظريات الأنطولوجية. يمكن أن نوضح خطوات هذا النقض بالرجوع إلى التأويل الذي خصصه هايدجر للمفهوم التقليدي للزمان.
تتمثل الخطوة الأولى في بيان أن مفهوم الزمان كما صاغه أرسطو في الكتاب الرابع من مؤلف "الطبيعة" هو الذي حدد فهم الزمان طوال تاريخ الفلسفة الغربية بما في ذلك مساهمات لايبنز وكانط وهيجل. حتى التحليلات والتأملات المهمة التي صاغها برجسون حول هذه الظاهرة لم تتمكن حسب هايدجر من أن تخرج عن الإطار الذي رسمه الفهم الأرسطي للزمان (ص. 18، 26).
أما الخطوة الثانية فيبين فيها هايدجر أن المفهوم الأرسطي للزمان يجد جذوره في الفهم الضمني الذي يوجه تعامل الكينونة مع الزمان عند إنجاز مهامها اليومية. مفهوم الزمان كما بسطه أرسطو علميا لا يختلف عن الفهم الضمني المتداول للزمان في الحياة اليومية.
هذا الفهم المتداول للزمان يجب تمييزه عن الفهم الأصلي للزمان. لذلك يجب في خطوة ثالثة بيان كيف ينبثق الفهم المتداول للزمان الذي يحدد فهم الزمان طوال تاريخ الفلسفة عن المعنى الأصلي للزمان الذي يتمثل في نظر هايدجر في زمانية الكينونة. إن الفهم المتداول للزمان ينبثق من زمانية الكينونة ولكنه في نفس الوقت يقنعها ويحرفها ويجعل النفاذ إليها غير ممكن.
من خلال هذه الوقفة عند "الكون والزمان" نلاحظ هنا أيضا أن هايدجر لا يحاول تأويل فلسفة أرسطو بالعودة إلى المفكرين الإغريق الأوائل. صحيح أن هناك في هذه الفترة إشارات إلى بارمنيد وهيراقليط وغيرهما من المفكرين السابقين لسقراط. لكن مع ذلك فإن هايدجر لا يعود إليهم لتأويل أرسطو، بل لا يجعل منهم موضوعا لانشغال عميق كما هو الأمر فيما بعد. في محاضراته الجامعية لدورة الصيف 1926 التي نشرت تحت عنوان "المفاهيم الأساسية للفلسفة القديمة"[12] يخصص هايدجر مقطعا من حوالي 40 صفحة للفلسفة قبل أفلاطون. في هذه الصفحات يستعرض هايدجر بشكل جد سريع عددا كبيرا من المفكرين، لكنه لا يقوم بتحليل مفصل ودقيق لأفكارهم ولا يدخل بالأحرى في حوار معهم. إن عدم اهتمام هايدجر بالمفكرين الإغريق الأوائل يعود إلى برنامجه لنقض الأنطولوجيا الذي كان يستمد أدواته من تحليل الكينونة.
رغم أن "الكون والزمان" والمحاضرات الجامعية التي تعود إلى نفس الفترة تقدم أمثلة عديدة على نقض بعض تصورات الأنطولوجيا التقليدية، إلا أن هايدجر مع ذلك لم ينجز برنامج النقض كما صاغه في مقدمة "الكون والزمان". لا شك أن عدم إنجاز هذا البرنامج له علاقة بمصير "الكون والزمان" الذي بقي غير مكتمل. لكننا سنوجه انتباهنا هنا لبرنامج نقض الأنطولوجيا فقط.
يتوقف نقض تاريخ الأنطولوجيا على بلورة مفهوم للتاريخ يمكن من فهم تاريخية الكينونة وبالتالي علاقتها بالماضي وبالتقليد. لهذا سيثير هايدجر مشكل التاريخ منذ § 6 من "الكون والزمان" التي يعرض فيها برنامجه لنقض تاريخ الأنطولوجيا. لن يبسط هايدجر مفهومه للتاريخ إلا في الفصل الخامس من المقطع الثاني، لكن عرضه لبرنامج نقض الأنطولوجيا يفترض مسبقا هذا المفهوم. إذا توقفنا عند هذا المفهوم فسوف يتبين أنه لم يكن قادرا على حمل برنامج نقض الأنطولوجيا لأنه لم يكن جذريا بما فيه الكفاية[13].
التاريخ هو مجال اختبار سؤال الكون وهو بالدرجة الأولى مادة النقض. فالنقض يهدف إلى تقويض التحريفات التي تعرضت لها المفاهيم الأنطولوجية خلال التاريخ والكشف عن التجارب الأصلية والافتراضات المسبقة الخفية التي حددت التأويل التقليدي للكون. وهذا يعني أنه يجب تقويض التقليد الذي نجد أنفسنا تاريخيا فيه على ضوء بنيات الكينونة وتجاربها الأصلية، وذلك ما يبدو كما لو كان رجوعا إلى حصيلة أولية تبقى ثابتة. إن الأمر يتعلق بإبعاد ما تراكم عبر عصور التاريخ فوق ما يعتبره هايدجر تجارب أصلية وبإزالة التقنيعات المتجمعة المتراكمة فوق بعضها التي تجعل من غير الممكن التعرف على الكون وعلى المعنى البدئي للكون. من هنا يظهر أن مفهوم التاريخ الذي أقام عليه هايدجر برنامجه لنقض الأنطولوجيا لم يكن جذريا بما فيه الكفاية. فهايدجر يؤسس التاريخ انطلاقا من زمانية الكينونة، أي إنه يحاول أن يمسك بالتاريخ انطلاقا من الزمانية التي تشكل عنده معنى كون الكينونة. فالزمانية هي شرط إمكانية التاريخية die Geschichtlichkeit ككيفية زمنية لكون الكينونة ذاتها (ص. 19). لهذا فتأويل تاريخية الكينونة ليس سوى بسط مشخص للزمانية (382).
إن التاريخية هي بالأساس تاريخية الكينونة. أكيد أن هايدجر يؤكد على تاريخية العالم أيضا، لكنه لا يدركها في "الكون والزمان" بكيفية جذرية، فالعالم ليس له طابع تاريخي إلا لأنه يشكل تحديدا أنطولوجيا للكينونة (ص. 381). إن العالم يستمد تاريخيته من تاريخية الكينونة التي تتأسس على زمانيتها. العالم له طابع تاريخي بمقتضى زمانية الكينونة. لا شك في أن الكائن داخل العالم das Innerweltliche هو تاريخي بمعنى ثانوي، أي أنه يستمد تاريخيته من انتمائه إلى العالم. لكن هذا لا ينفي بأن ما هو تاريخي أوليا ليس هو العالم التاريخي بل الكينونة الزمنية. إن مفهوم التاريخ الذي تم إدراكه انطلاقا من نمط كون الكينونة وبالضبط من زمانيتها لم يكن قادرا على أن يؤسس نقضا فينومينولوجيا لتاريخ الأنطولوجيا.
في الفترة التي تلت "الكون والزمان" سيقوم هايدجر بإعادة تأمل منطلقه الفلسفي ومراجعة أسلوبه في معالجة سؤال الكون. ستعرف هذه الفترة اكتمالا مؤقتا في مؤلف "مساهمات في الفلسفة" (1936 – 1938)، وسيكون من ثمارها إعادة تحديد مفهوم التاريخ وتفكيره بكيفية أكثر عمقا وجذرية. هكذا سيصبح ما هو تاريخي بالأساس ليس هو الكينونة الزمانية، بل الكون ذاته. إن تفكيرا يفهم ذاته كتفكير تاريخ الكون سيكون عليه أن يتأمل التقليد الفلسفي ويفهمه انطلاقا من تاريخ الكون. فالتاريخ بالمعنى الأولي هو تاريخ الكون، أما الكينونة فليست تاريخية إلا لأنها مندرجة في تاريخ الكون باعتبار أنها المحل الذي يحتاج إليه حدوث حقيقة الكون. إن الكون لا يمكن أن ينفتح إلا للكينونة، لكن الكينونة لا تحدد الكيفية التي ينفتح بها الكون في كل حقبة، بل تتقبل هذا الانفتاح وترعاه وتنشئه في الكائن.
سيبقى هايدجر بعد انتقاله إلى تفكير تاريخ الكون مقتنعا بأن التفكير الإغريقي هو الذي وضع أسس العالم الحاضر. فالميتافزيقا التي نشأت مع الإغريق هي التي تحمل وتحدد التاريخ الغربي برمته. لذلك لا يمكن إدراك الوضعية التي تطبع عالمنا اليوم دون الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية. سيبقى هايدجر مقتنعا كذلك بأن الفلسفة الإغريقية عرفت صورتها المكتملة مع أرسطو. إلا أن مركز الاهتمام سيعرف تحولا من أرسطو إلى أفلاطون. فإلى هذه الأخير تعود التحولات والقرارات الحاسمة التي نشأت معها الميتافزيقا. هذا التحول العميق الذي طرأ مع أفلاطون ليس أمرا ينتمي إلى الماضي ويمكن إهماله بالتالي، بل إن تأثيره يمتد إلى العصر الحديث وإلى وقتنا الراهن. بدون ذلك التحول لم يكن من الممكن أن تنشأ الميتافزيقا الحديثة، كما لم يكن من الممكن أن ينشأ العلم والتقنية الحديثان اللذان يطبعان كل مجالات الحياة في عالمنا الراهن.
على هذا الأساس سيهتم هايدجر في هذه الفترة اهتماما شديدا بالتحول العميق الذي حصل مع أفلاطون في مفهوم الحقيقة (محاضرات دورة الشتاء 1931/32 و دورة الشتاء1933/34). لكن مع تفكير تاريخ الكون لن يبقى من الممكن تأويل التصورات الأفلاطونية التي نشأت معها الميتافزيقا انطلاقا من تحليل بنيات الكينونة وتجاربها، بل سيصبح من الضروري الرجوع إلى تجربة تاريخية أكثر أصلية. في هذا السياق يندرج اهتمام هايدجر بالمفكرين السابقين على سقراط ومحاولاته تأويل كلماتهم الأساسية من أجل النفاذ إلى عمق تجربتهم. هكذا سيخصص لهم محاضراته الجامعية لدورة الصيف 1932 التي من المنتظر أن تصدر تحت عنوان "بدء الفلسفة الغربية. أنكسيماندر وبارمنيد" (مجلد 35 من المؤلفات الكاملة)، كما سيخصص لهم جزءا مهما من محاضرات دورة الصيف 1935 المنشورة تحت عنوان "مدخل إلى الميتافزيقا".
واضح هنا أن اهتمام هايدجر بالبدء الأول لا يندرج في إطار البحث التاريخي الذي يتوجه نحو الماضي، بل ينتمي إلى تأمله حول الوضعية التي يعرفها العالم الراهن؛ فالبدء الأول ليس أمرا مضى وانقضى، بل إنه ينتمي إلى الحاضر والمستقبل بمعنى أن ما نشأ عنه لا زال يحدد حاضرنا ويرسم آفاق مستقبلنا. ولهذا لا يمكن فهم وضعيتنا الحاضرة دون الرجوع إلى ما حدث في هذا البدء وإلى ما نشأ عنه وانحدر منه.
في نفس الفترة التي بدأ فيها اهتمام هايدجر يزداد بالتجربة الإغريقية المبكرة بدأ يتحدث عن ضرورة بدء آخر يتم معه تخطي الميتافزيقا التي بلغت اكتمالها في صورة سيطرة الأسلوب العلمي – التقني في التعامل مع العالم والأشياء. وهذا ما يمكن أن يبعث على الاعتقاد بأن هايدجر يدعو إلى الرجوع إلى البدء الأول بمعنى تجديده وتكراره، أي محاكاته وبعثه من جديد. وبناء على ذلك سيكون مسعى هايدجر هو تخطي الميتافزيقا بالرجوع إلى البدء الأول كما تبلور في تجربة المفكرين الإغريق المبكرين باعتبار أن فكرهم سابق على الميتافزيقا.
سنحاول فيما يلي أن نبدد هذا الانطباع معتمدين بالخصوص على مؤلف هايدجر "مساهمات في الفلسفة"[14] وعلى محاضراته الجامعية التي نشرت تحت عنوان "الأسئلة الأساسية في الفلسفة"[15] والتي تعود إلى نفس الفترة (دورة الشتاء 1937/38). في هذين المؤلفين يخصص هايدجر حيزا هاما للحديث عن البدء الأول والآخر وعن مهمة التفكير في فترة نهاية تاريخ البدء الأول والتهيؤ للبدء الآخر.
مما لا شك فيه أن هايدجر يعتبر الميتافزيقا تحريفا للبدء الأول وارتدادا عن أصليته. لكن ذلك لا يعني أن البدء الآخر يجب أن يكون إحياء للبدء الأول، كما لو كان من الممكن أن يصبح هذا البدء واقعيا من جديد. إن إحياء البدء الأول ليس فقط غير ممكن، بل إنه فضلا عن ذلك غير مأمول، لأن الميتافزيقا التي من المفروض تخطيها في بدء آخر هي نفسها ناشئة عن البدء الأول. صحيح أنها تحريف للبدء الأول وارتداد عن أصلية تجربته، لكن هذا التحريف وهذا الارتداد هما إمكانية قائمة في ماهية هذا البدء الأول.
لكي يبرز هايدجر علاقة الميتافزيقا بالبدء الأول يتوقف عند التحول الذي طرأ على مفهوم الحقيقة مع أفلاطون. إن أفلاطون لم يحفظ المعنى الأصلي للحقيقة كما لمع في البدء الأول. فالإغريق الأوائل فهموا الحقيقة، الـ alétheia، كلاخفاء للكائن واعتبروها سمة أساسية له لا خاصية تنضاف إليه أحيانا. إن الحقيقة، الـ alétheia، تنتمي حسبهم إلى ماهية الكائن. فالكائن ذاته بالنسبة للإغريق هو الذي يتميز بأنه حقيقي أو غير حقيقي. الحقيقة كلاخفاء تعني هنا الظهور والبزوغ، الحضور إلى المجال المفتوحdie Anwesung ins Offene[16]. إن الحقيقة كلاخفاء تنتمي إلى الكائن ذاته، تعبر عن كون الكائن ذاته. أما التأويل الذي ابتدأ مع أفلاطون والذي لا زال يحدد إلى الآن نظرتنا للحقيقة فيفهم الحقيقة كصواب Richtigkeit للرؤية والتفكير وينسبها لا للكائن ذاته، بل لمعرفتنا عن الكائن؛ لم يبق موطن الحقيقة هو الكائن ذاته، بل أصبح هو التمثل البشري، هو الحُكْم.
يتأسس فهم الحقيقة كصواب على الحقيقة كلاخفاء، لكن بمجرد أن يفرض تأويل الحقيقة كصواب ذاته يقوم بطمس المعنى البدئي للحقيقة الذي لمع في تجربة المفكرين الإغريق الأوائل. وهذا ما نتج عنه ما يسميه هايدجر "انهيار اللاخفاءder Einsturz der Unverborgenheit". لكن ما يجب الانتباه إليه هنا هو أن تحريف المعنى البدئي للحقيقة وطمسه لم يأت من خارج البدء الأول، بل اتخذ منطلقه من هذا البدء ذاته. إن عدم القدرة على الإمساك بالبدء الأول والمحافظة على أصليته ينتمي أيضا إلى البدء الأول. لقد تعامل الإغريق مع اللاخفاء كما لو كان أمرا بديهيا مفهوما ومقبولا من تلقاء ذاته، ولهذا لم يتساءلوا عنه، وبالأحرى لم يبسطوا ماهيته ولم يؤسسوه، وبذلك بقي اللاخفاء في تجربة الإغريق الأوائل مهددا بالانهيار. في تجربة الإغريق الأوائل انفتحت ماهية الحقيقة كلاخفاء، لكنهم لم يسألوا عن الـ alétheia ولم يستقصوها في ماهيتها ولم ينفذوا إليها فكريا[17]. وعندما حاول التفكير تحديد الحقيقة انتهى إلى اعتبارها صوابا، أي تم طمس ماهيتها الأصلية. إن تحريف المعنى البدئي للحقيقة الذي ارتبط بنشأة الميتافزيقا راجع إلى أن هذا المعنى لم يتم السؤال عنه وبسطه وتأسيسه في البدء الأول. وهكذا فإن تجربة الـ alétheia لم تَضِعْ لأنه تم تأويل الـ alétheia كصواب للحكم، بل بالعكس، إن هذا التأويل المحرف لم يكن من الممكن أن ينشأ وأن يفرض ذاته إلا لأنه لم يتم بسط ماهية الـ alétheia أصليا[18].
لكن لماذا لم يقم الإغريق الأوائل بالسؤال عن اللاخفاء وبسطه؟ هل يعتبر ذلك تقصيرا من جانبهم وهل هو علامة على قصور تفكيرهم؟
لا يتردد هايدجر في أن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك لا يعود إلى تقصير من قبل الإغريق الأوائل أو إلى قصور في تفكيرهم، بل بالعكس من ذلك إلى إصرارهم على إنجاز المهمة التي قيضت لهم وإلى قوة تفكيرهم. إن إصرار التفكير على البقاء في المهمة الموكولة إليه هو الأمر الشاق الذي يعبر عن قوة التفكير. فالإغريق الأوائل لم يسألوا عن الـ alétheia لأن هذا السؤال كان ضد مهمتهم الخاصة، لهذا لم يكن من الممكن أن يأتي إلى مجال رؤيتهم[19]. إن المهمة التي قيضت للإغريق الأوائل هي أن يقولوا لأول مرة الكائن ككائن، أن يقولوا هذا الأمر اللامعتاد الذي انفتح لهم في الحال الوجداني الأساسي die Grundstimmung للدهشة وهو أن الكائن كائن. وإذا كان الإغريق الأوائل لم يطرحوا السؤال عن ماهية الـ alétheia، فهذا يرجع إلى قوة المهمة التي قيضت لهم وهي أن يقولوا الكائن ككائن[20] كانت تجربة الحضور die Anwesung تستحوذ على الإغريق الأوائل بكيفية تامة، كان الحضور المندفع للكائن يغمرهم إلى حد أنه لم يكن من الممكن لأي شيء آخر أن يثير انتباههم. لم يسأل الإغريق الأوائل عن ماهية الحقيقة، لأن ما ينكشف في مجالها، الكائن، يطغى على كل شيء[21].
لقد أدرك الإغريق كون الكائن كبزوغ وظهور، كخروج من الخفاء وقدوم إلى اللاخفاء. وكل تحديدات الكائن لديهم كانت تصب في اللاخفاء. لكن اللاخفاء ذاته بقي بالنسبة لهم خارج دائرة السؤال. لم يوجهوا اهتمامهم للاخفاء لأنه كان بالنسبة لهم بديهيا وتلقائيا باعتبار أنه المجال الذي يقوم فيه الكائن الذي كان هو وحده مدار اهتمامهم. لكي نجعل أمام النظر شيئا قائما في مجال النظر يجب أن يلمع مسبقا هذا المجال ذاته لكي يُظهر وينير ما يقوم داخله؛ لكن لا يمكن ولا يحق أن يكون هو ما يُنظر إليه صراحة. إن مجال النظر، الـ alétheia، يجب أن يُقفز عليه بكيفية ما[22].
كانت مهمة الإغريق إذن أن يقولوا الكائن ككائن، أن يفكروا كون الكائن. جرب الإغريق كون الكائن كخروج إلى اللاخفاء، كبزوغ، كـ phْsis. للإمساك بالـ phْsis كان المطلوب اتخاذ موقف آخر بالنسبة لها يفتحها أمام النظر. كان هذا الموقف هو الـ techné. هكذا أصبحت الـ techné منذ أفلاطون هي الطابع الأساسي للمعرفة أي للعلاقة الأساسية مع الكائن بما هو كذلك[23]. وهنا يكمن المشكل، فالـ techné تفتح حقيقة الكائن وتنشئها، تجعل من الممكن بلوغ الكائن ككائن؛ لكنها في نفس الوقت لا تجعل الكائن ينمو، بل تضعه تماما تحت سيطرتها. وبذلك يتم تدمير الحقيقة كحقيقة[24]. إن الـ techné لا تسمح للكائن بأن يسود، بأن يُظهر ذاته كما هو، بل تمسكه من زاويتها الخاصة ومجال رؤيتها الخاص. الـ techné تدرك الكائن انطلاقا من هيئته، أي انطلاقا من الـ idéa. هكذا يصبح إدراك الكائن قائما على الدراية بالمثل، وهذا يتطلب التوجه حسبها والتصويب نحوها، وبذلك يتم التمهيد لتحول الحقيقة إلى صواب. إن السؤال الأصلي عن الكائن تم بسطه على ضوء الـ techné كنمط من المعرفة وبذلك تم ضياعه. لهذا يدعي هايدجر أن الـ techné لها دور أساسي في نشأة الميتافزيقا، أي في الارتداد عن التجربة الأساسية للمفكرين الإغريق المبكرين. يحتضن البدء الأول الضرورة التي لا مناص منها التي تتمثل في أنه يجب أن يتخلى عن أصليته حينما يبسط ذاته[25]. إن البدء الأول يحمل في ذاته ضرورة سقوطه.
لم يحدث بسط الـ alétheia ليس في الميتافزيقا فقط، بل أيضا في البدء الأول، ولم يكن من الممكن أن يحدث ذلك[26]. لذلك فانهيار الـ alétheia ليس انهيارا لما تم إنشاؤه وتأسيسه[27]، بل إن هايدجر لا يتردد في أن يقول في إحدى إشاراته بأن الحديث عن انهيار الـ alétheia مثير لسوء الفهم وغير سليم لأن الـ alétheia لم يتم أبدا تأسيسها بكيفية كاملة[28].
يتضح إذن أن إمكانية الارتداد عن البدء الأول ونشأة الميتافزيقا قائمة في هذا البدء الأول ذاته. إذا كانت الميتافزيقا وليدا محرفا للبدء الأول، فإن البدء الآخر الذي ينبغي فيه تخطي الميتافزيقا في شكل سيطرة الحضارة العلمية – التقنية لا يمكن أن يكون بعثا للبدء الأول أو محاكاة له كما لو كان من الممكن أن يرد نفس الشيء للمرة الثانية أو الثالثة[29].
إن الخطوة إلى الوراء، إلى البدء الأول، لا تعني إحياء التجارب الإغريقية البدئية[30] أو تجديد العالم الإغريقي بكيفية ما والبحث عن ملاذ في الفلاسفة السابقين لسقراط[31]. إن بعث البدء الأول لا يمكن أن يفيد في شيء. فالتفكير الذي يريد أن يتهيأ لبدء آخر لا يمكن أن يقفز على الوضعية الراهنة. كل تفكير بدئي أصيل يستجيب لضرورة Notwendigkeit تاريخية ولشدة Not، كما ينشأ عن حال وجداني أساسي. وكما أن الضرورة التاريخية للبدء الأول لها شكلها الخاص في تجربة الكائن ككائن ولها حالها الوجداني الأساسي الذي هو الدهشة، فإن الضرورة التاريخية للبدء الآخر ترتبط بتجربة هجران الكون die Seinsverlassenheit والحال الوجداني الأساسي للفزعdas Erschrecken.
لماذا إذن الرجوع إلى البدء الأول إذا كان البدء الآخر يستجيب لضرورة تاريخية وشدة ترتبطان بعالمنا الراهن وليس بالعالم الإغريقي؟ ألا ينبغي أن نترك البدء الأول جانبا مادام الأمر يتعلق ببدء آخر؟
كما أنه لا يمكننا في التهييء للبدء الآخر أن نتغاضى عن وضعيتنا في العالم الراهن والشدة التي ترتبط به، فإننا لا يمكن أيضا أن نتغاضى عن البدء الأول ولا يمكن أن نحذفه من حساباتنا بجرة قلم ونتصرف ونفكر كأنه لم يكن. وذلك لأن البدء الأول هو الخلفية التاريخية التي لا بد منها لفهم وضعية العالم الراهن. إن الرغبة في إحياء البدء الأول والرغبة في التغاضي عنه هما معا ينمان عن فهم غير كاف للتاريخ.
إن الفكر الإغريقي المبكر ليس بدئيا لأنه هو الأول من حيث الحساب الزمني التاريخي، بل بالأحرى لأنه وضع الأساس لحدوث الحقيقة في الغرب. وهكذا يكون الرجوع إلى الفكر الإغريقي المبكر ليس عودة إلى الماضي، ليس بعثا لما هو قديم، بل رجوعا إلى أساس العالم الغربي الراهن. من خلال الحوار مع المفكرين الإغريق يمد التفكير الجذور إلى أساس الكينونة التاريخية للغرب[32].
انطلاقا من الحاجة إلى بدء آخر يحاول هايدجر أن يستعيد البدء الأول للتفكير الإغريقي في أصليته. وهذا يعني أنه يجب على البدء الآخر أن يبسط من جديد بدئية البدء الأول التي تم طمرها وطمسها، لأن بدء التفكير الإغريقي تم فهمه انطلاقا من تفكير لم يحفظ بدئية البدء الأول بل قنعها.
إن البدء الأول في فرديته لا يمكن أن يكون قابلا للتكرار بمعنى المحاكاة، لكنه قابل للاستعادة بمعنى إعادة فتح ما لمع فيه ثم توارى. ليس البدء الآخر انفصالا عن البدء الأول وتاريخه كما لو كان من الممكن أن يرمي ما وراءه، لكنه كبدء آخر يرتبط أساسا بالبدء الأول، وذلك بحيث أنه في البدء الآخر تتم تجربة البدء الأول بكيفية أصلية وإعادته إلى عظمته بعد أن تم تحريفه بسبب سيطرة ما أتى بعده[33].
الرجوع إلى البدء الأول ليس انتقالا إلى الماضي كما لو كان من الممكن أن يصبح هذا الماضي واقعيا من جديد. إن الرجوع إلى البدء الأول هو بالأحرى وبالضبط ابتعاد عنه، واتخاذ هذا الموقف المبتعد ضروري لتجربة ما الذي ابتدأ في ذلك البدء. دون هذا الموقف المبتعد نبقى دائما قريبين من البدء، وذلك بحيث أننا نبقى مغمورين من قِبل ما نتج عنه ويبقى تفكيرنا قائما في مجال السؤال التقليدي: ما هو الكائن؟ أي في الميتافزيقا. إن موقف الابتعاد عن البدء الأول هو ما يجعلنا نجرب أن السؤال عن الحقيقة بقي غير مطروح وأن عدم حدوث ذلك حدد مسبقا التفكير الغربي كميتافزيقا[34].
لا يمكننا أن ندرك البدء الأول في أصليته إلا انطلاقا من بدء آخر، ذلك أنه بدون تخمين هذا البدء الآخر يبقى تفكيرنا خاضعا للميتافزيقا ويبقى فهمنا للبدء الأول هو الآخر قائما تحت سيطرة التأويل الميتافزيقي له. والافتراض الذي يحمله هايدجر في حواره مع تجربة الإغريق الأوائل هو الادعاء بأنه في التفكير الإغريقي المبكر يتبدى على الأقل أثر لما بقي مقنعا في التفكير الميتافزيقي: لحقيقة الكون كلاخفاء[35]. البدئي في البدء الأول يجب أن يكون حسب تجربة هايدجر لقضية التفكير هو الحقيقة كلاخفاء. لكن هذا لا يعني أن هايدجر يتبنى الفهم الإغريقي المبكر للحقيقة كلاخفاء، بل إنه يحاول النفاذ إلى ما لم يتم تفكيره في هذا البدء.
سيكون من المفيد لبيان علاقة البدء الأول بالآخر أن نبرز بكيفية مشخصة كيف يتميز التفكير المهيئ للبدء الآخر عن تفكير البدء الأول. ففي البدء الأول يتعلق السؤال الأساسي للتفكير بالكائن ككائن، أو بكون الكائن. في هذا البدء يتجلى الكائن في ضوء الحقيقة مفهومة كلاخفاء، أي كسمة للكائن ذاته وليس لتمثلنا أو معرفتنا له كما سيصبح الأمر مع الميتافزيقا. ومع ذلك فإن الحقيقة ذاتها بقيت في البدء الأول خارج دائرة السؤال. وهذا ما مهد الطريق لتحول الحقيقة إلى صواب وطمس المعنى الأصلي لها. إذا كانت الحقيقة في البدء الأول تبقى ضرورة خارج دائرة السؤال، فإنها بالنسبة لتفكير يمهد للبدء الآخر هي الأكثر جدارة بالسؤال[36].
نظرا لأن تفكير البدء الأول لم يسأل عن الحقيقة ولم يبسط ماهيتها فإنه لم يدرك أيضا بناءها، وخاصة لم يدرك علاقتها بالخفاء والاختفاء، أي لم يدرك كيف أن الاختفاء ينتمي لحدوث الحقيقة ذاته. صحيح أن هناك في تفكير الإغريق الأوائل وكلمتهم رنينا للخفاء وتخمين لانتمائه إلى الحقيقة، لأنهم فهموا الكون كخروج من الخفاء وقدوم إلى اللاخفاء، لكنهم لم يفكروا الخفاء صراحة ولم يوجهوا له عنايتهم. إن الإغريق لم يجربوا الاختفاء إلا من حيث أنه ما يجب تنحيته وإبعاده[37]. إن المنكشف وحده يعتبر أساسيا، ولهذا فالسؤال لا يتوجه إلى الخفاء وأساسه. في البدء الآخر لا تكون الحقيقة انكشافا فقط، بل إنها تحدث في نفس الوقت كاختفاء. الانكشاف والاختفاء ليسا اثنين، بل حدث واحد، هو الحقيقة ذاتها[38]. في البدء الآخر يتم بناء على تجربة هجران الكون[39] فهم الاختفاء والانسحاب بصفته منتميا لحدوث الحقيقة، أي كسمة للكون ذاته. فالحقيقة هي هنا حدث ينتمي له الاختفاء بأشكاله المتنوعة، بحيث لا يمكن أن تحدث الحقيقة بدون اختفاء. ولهذا فالمطروح على التفكير الذي يهيئ للبدء الآخر ليس تنحية الاختفاء، بل إدراكه في ماهيته ورعايته كسِرٍّ. الاعتراف بالخفاء ليس خطوة لتنحيته؛ إن محاولة السيطرة على الخفاء وتنحيته تعني نسيان الكون في ماهيته.
يتم إدراك الحقيقة في البدء الأول كلاخفاء للكائن، وهذا التحديد هو بدون شك أكثر أصلية من التأويل الميتافزيقي للحقيقة كسمة لقضايانا وأحكامنا المتعلقة بالكائن، أي كصواب. أما في البدء الآخر فليست الحقيقة حقيقة الكائن، بل حقيقة الكون؛ في البدء الآخر تتم تجربة الحقيقة وتأسيسها كحقيقة للكون ذاته لا للكائن[40].
في موازاة ذلك يتم في البدء الآخر إعادة تحديد الإنسان. في البدء الأول يتحدد الإنسان من حيث أنه يحفظ لاخفاء الكائن قبل أن يتم تحديده في الميتافزيقا كحيوان عاقل. أما في البدء الآخر فلا يتحدد الإنسان كحافظ للكائن اللامختفي، بل كراع لانفتاح الكون[41].
من خلال هذه الإشارات يتبين بوضوح أن اهتمام هايدجر بالبدء الأول لم يكن بغرض بعثه وإحيائه، كما يتبين أن البدء الآخر الذي يأمله هايدجر لا يمكن أن يكون محاكاة للبدء الأول. لا نريد هنا إصدار حكم على تصور هايدجر للبدء الآخر، ولكن المهم بالنسبة لنا أن نبرز الدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه من تفكيره في العلاقة بين البدءين. في الحوار بين البدءين يتجلى توقف كل منهما على الآخر، فكل منهما يحمل الآخر إلى ذاته. إن التهيؤ للبدء الآخر الذي يتم فيه تخطي الميتافزيقا لا يتم إلا عبر استعادة البدء الأول في أصليته، لأن في هذا البدء لا زال هناك على الأقل أثر لما تم نسيانه وطمسه. لكن البدء الأول بدوره لا يمكن إدراكه في أصليته إلا انطلاقا من بدء آخر، لأنه بدون ذلك يبقى فهمنا للبدء الأول سجين التأويل الميتافزيقي له ولن نتمكن من إدراكه كبدء أول. إن البدء الآخر يحتاج إلى البدء الأول لكي يتحرر إلى ذاته؛ لكن البدء الأول يحتاج هو أيضا إلى البدء الآخر لأنه بدون هذا البدء الآخر لا يمكن أن يتجلى كبدء أول، فالبدء الآخر هو الذي يحرر البدء الأول إلى ذاته ويجعله بدءا أولا.
رغم أن البدء الآخر يحتاج إلى البدء الأول، فإنه لا يمكن أن يكون محاكاة له، لأن كل بدء بالمعنى الأصيل لا بد أن ينبثق عن ضرورة تاريخية تدعو إليه وعن شدة وحال وجداني أساسي يحدد سؤاله. لكن البدء الآخر الذي تمليه ضرورته التاريخية الخاصة لا يمكن أن يترك البدء الأول جانبا كأنما لم يكن، إن تصورا من هذا النوع لا يدرك عمق التاريخ وثقله؛ إن البدء الآخر لا يمكن أن يتحرر إلى ذاته إلا انطلاقا من محاورة البدء الأول وإبراز ما ظل منسيا فيه.
إذا كان هايدجر يهتم اهتماما شديدا بتأويل البدء الأول وإعادة بنائه، فذلك يعود إلى أننا نحتاج في نظره إلى تأمل الإمكانيات التي فتحها هذا البدء وفي نفس الوقت قنعها من أجل التهيؤ لبدء آخر ممكن. هذا البدء الآخر يبدو مأمولا بالنظر إلى الوضعية التي يعرفها عالمنا اليوم. لكن الحاجة إلى بدء آخر لا تفرض ذاتها علينا إلا إذا تأملنا وضعية عالم اليوم انطلاقا من البدء الأول من حيث هو الخلفية التاريخية التي حددتها.
الهوامش
[1]) القي هذا العرض في الملتقى الذي نظمه المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس أيام 10، 11 و12 ديسمبر 2003 تحت عنوان "هايدجر وهذا القرن".
[2]) أستعمل كلمة "الكون" كمقابل للكلمة الألمانية Sein das والفرنسيةl' تtre ، في حين أنني أخصص كلمة "الوجود" لترجمة الكلمة الألمانية die Existenz والفرنسية l' existence.
[3] (M. Heidegger: Phنnomenlogische Interpretation zu Aristoteles, hrsg.von H.-U. Lessing, in : Dilthey-Jahrbuch für Philosophie und Geisteswissenschaften, hrsg.von F.Rodi, Bd. 6, Gِttingen 1989, S. 237 -269.
[4] (Günter Figal: Heidegger, 2. Auflage Hamburg 1996, S. 28.
[5]) أستعمل كلمة "الكائن" كمقابل للكلمة الألمانية das Seiende والفرنسية l' étant.
[6] (Günter Figal: Heidegger, 2. Auflage Hamburg 1996, S. 32.
[7] (M. Heidegger: Sein und Zeit, 16. Auflage, Tübingen 1986.
[8]) أضع كلمة "الكينونة" في مقابل الكلمة الألمانية das Dasein.
[9]( M. Heidegger: Seminare, Gesamtausgabe Bd. 15, hrsg. von C. Ochwald, Frankfurt a.M. 1986, S. 337-338.
[10] (M. Heidegger: Grundprobleme der Phنnomenologie, Gesamtausgabe Bd. 24, hrsg. von F.-W. von Herrmann, 2. Auflage, Frankfurt a. M. 1989, S. 417.
[11] (M. Heidegger: Grundprobleme der Phنnomenologie, S. 384-385.
[12] (M. Heidegger: Grundbegriffe der antiken Philosophie, Gesamtausgabe Bd. 22, hrsg. von F.-K. Blust, Frankfurt a.M. 1993, S. 51-93.
[13]) سوف أعتمد في الفقرتين التاليتين على التحليلات المركزة والقيمة التي أنجزتها الدراسة الآتية:
Heinrich Hüni: Welt-Geschichte als Grenze der Daseinsanalyse in "Sein und Zeit", in: Heidegger Studies, Volume 14, Berlin 1998, S. 131-136.
[14](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie. Vom Ereignis. Gesamtausgabe Bd. 65, hrsg. von F.-W. von Herrmann, Frankfurt a.M. 1989
[15]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, Gesamtausgabe Bd. 45, hrsg. von F.-W. von Herrmann,, Frankfurt a.M. 1984.
[16] (M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 169.
[17] (M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 112.
[18] (M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 113.
[19] (M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 122.
[20] (M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 204-205.
[21](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 179.
[22]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 147.
[23](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 184.
[24]( M. Heidegger : die Bedrohung der Wissenschaft, in : Zur philosophischen Aktualitنt Heideggers, hrsg. von D.Papenfuss und O. Pِggeler; Bd. 1 : Philosophie und Politik, Frankfurt a. M. 1991, S. 17.
[25]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 181.
[26](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 360.
[27](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 360.
[28]( M. Heidegger: Metaphysik und Nihilismus, Gesamtausgabe Bd. 67, hrsg. von H.-J. Friedrich, Frankfurt a.M. 1999, S. 162.
[29] (M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 55; Grundfragen der Philosophie, S. 199.
[30]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 205.
[31]( M. Heidegger: Die Herkunft der Kunst und die Bestimmung des Denkens, in: Distanz und Nنhe. Reflexionen und Analysen zur Kunst der Gegenwart, hrsg. von P. Jaeger und R. Lüthe, Würzburg 1983, S. 20.
[32](O. Pِggeler: Der Denkweg Martin Heideggers, 2. Auflage, Pfullingen 1983, S. 201-202.
[33]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 199-200.
[34](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 185-186.
[35](O. Pِggeler: Der Denkweg Martin Heideggers, 2. Auflage, Pfullingen 1983, S. 203.
[36](M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 132.
[37](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 350.
[38](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 349.
[39]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 189.
[40](M. Heidegger: Beitrنge zur Philosophie, S. 185.
[41]( M. Heidegger: Grundfragen der Philosophie, S. 189-190.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق