احدث المواضيع

الأحد، 13 ديسمبر 2009

تحليل البعد النفسي في أوراق/العروي

تحمل الشخصيات - وخاصة الرئيسية منها - عناصر سيكولوجية تميزها éléments psychologiques، وبذلك يهدف التحليل إلى تحديد هويتها، وبالتالي تحديد صورتها من خلال ترصد حركاتها وسلوكها ومواقفها، والأوصاف المسندة إليها 
و مادام إدريس شخصية محورية في النص ( ذات فاعلة ) فإن التركيز سيقع عليها بصورة مكثفة، كي نتعرف على خصائصها ومميزاتها النفسية
          يمكن تلخيص الدلالات النفسية عند إدريس بشعوره بالفراغ العاطفي على مستويات متعددة، فهو اليتيم الذي فقد الأم منذ طفولته المبكرة وبالتالي فقد حنان التربية في هذه المرحلة، وعايش أسرة لم يستطع أفرادها ملء الفراغ الذي تركته الأم.
          وهو ما نجده على مستوى العلاقة بالمرأة، فقد كان الإخفاق العاطفي هو ما يطبع علاقته بها، بدليل ما تكشف عنه الرسائل التي بعثها ( أو لم يبعثها ) إلى الفتاتين: الألمانية والفرنسية، إضافة إلى نوعية العلاقة بمارية الي لاحظنا توتر علاقته بها حتى على مستوى أعمال العروي الأخرى.
          إنه الفراغ العاطفي الناشئ أيضا عن الإحساس بالانفصال عن الوطن، وهو الإحساس الذي لم تستطع باريس تعويضه أو تغييره رغم رغم أجوائها الحضارية البراقة وما تحمله من شحنات نفسية، حيث يظل إدريس منجذبا بروحه إلى الوطن، آملا أن يعيش به في غبطة وسلام عند عودته إلى المغرب، لكنه يحس بصدمة عنيفة عندما يحل بالوطن، ويكتشف ما حصل به من تغيرات سلبية بعد الاستقلال، تخالف مبادئه الوطنية التي تعتبر السياسة سلوكا ومعاناة وليست حرفة يرجى من ورائها اقتناص فرص معينة.
          إن إحساسه بالخيبة بعد الاستقلال يعمق الجانب الذاتي لديه، ويساهم في توسيع الهوة بينه وبين الجماعة، ويعكس الإخفاق الذي تفرزه ارتدادات نفسية،فيجعل منه ” قيمة أخلاقية “يحولها السارد وشعيب إلى ” إحساس بالنصر “68
                    ·    العلاقات العاطفيةles relations affectives  :
          وهي مجموع العلاقات العاطفية التي تنشأ بين الشخصيات وأطراف التواصل، أو بينها وبين موضوع أو واقعة أو فكرة أو ذات معينة، ولهذا ينصب التحليل في هذه المرحلة على ما يتضمنه النص من مظاهر ذات طابع سيكولوجي.
          ويمكن رصد هذه العلاقات في أوراق كما يلي:
1 - علاقة الصداقة: إنها حافز انطلاق تدشين مشروع أوراق، باعتبارها عنصرا دفع بشعيب إلى أن   يترجم صداقته لإدريس عن طريق جمع أوراقه بعد وفاته، وإنقاذها من الضياع، فيكون ذلك بمثابة تأبين وتزكية لروحه، وإعطاء قيمة ومعنى لإخفاقه وموته
2 - علاقة التنافر: وهي التي يمثلها إدريس تجاه الاستعمار وكل من يسير في اتجاهه عن قصد أو غير قصد، وفي هذا الاتجاه يندرج الطلبة الفوضويون الذين انتقدوا الحركة الوطنية، وسارعوا بالعودة إلى المغرب بعد الاستقلال مباشرة لاقتناص المناصب الشاغرة من طرف الفرنسيـين، كذلك يدخل في هذه العلاقة، الانتقاد الذي وجهه إلى إدريس الشرايبي عند صدور كتابه الماضي البسيطle passé simple  في ظروف تاريخية وطنية استغلت فيها الحكومة الفرنسية ما جاء في مضمونه من مواقف تجاه التيار الوطني آنذاك.
3-. علاقة الحب : وهي العلاقة المبتورة التي يمثلها الطرف الواحد/ إدريس، وينقطع خيطها عند الطرف الثاني ( مارية - الفتاة الألمانية - الفتاة الفرنسية… )
4. علاقة التواصل : أو الارتباط الذي يعقده إدريس بحنينه إلى الوطن، وبنزعته الخالصة المخلصة تجاهه، إنها نفس العلاقة التي يتبادلها مع مطالعاته وكتبه بما في ذلك المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء وغيرهم.. إنهم بذلك يمثلون لدى إدريس ” النغمة المفقودة ” التي يطول بحثه عنها، فينغمس في لجة المعرفة ويرتبط بمكوناتها.
          إن علاقة الترابط هذه تتمثل أيضا في المحكي الإطار، عندما نجد “شعيب ” والسارد منهمكين في تحليل الألوراق وتفصيل أقسامها، وبالتالي البحث في دقائق حياة إدريس بغاية تقديمه في صورة مناقضة لإحباطاته وإخفاقه.
-التيمات/الموضوعات السيكولوجيةThèmes psychologiques :
هي الحوافز العاطفية التي تؤثر في أفعال الشخصيات، وتتخذ في النص شكل تيمات نفسية فتظهر فيه صراحة أو ضمنا، ويمكن رصدها من خلال جرد التشاكلات les isotpies أو الحقول المعجمية المهيمنة ذات الدلالة المشتركة، لاستخلاص وظيفتها في توضيح حركية العلاقة العاطفية وديناميتها:
                    ·     الموضوعات النفسية الجليةles thèmes affectifs manifestes :
تعني المواصفات والمواقف القيمية و المواضيع ذات الطابع النفسي، و هكذا نعاين في أوراق حوافز عاطفية تؤثر في أفعال “إدريس” باعتباره شخصية محورية، و كذا في أفعال “شعيب و السارد” نظرا لارتباطهما به و تعاطفهما معه، و تتخذ هذه الحوافز العاطفية في النص شكل سمات نفسية نختار منها ما يظهر في “أوراق” صراحة مثل:
-تيمة الموت     

و هي المنطلق و النهاية، تتجلى في الاستهلال (البداية)، و تنتهي في التأبين (الخاتمة)، و بين هذين النقطتين، تتحدد الأوراق و شروحها، إن تيمة الموت تلعب دورا مهما في النص، فهي الحافز الرئيسي لجمع الأوراق و تدوينها، فلولا موت إدريس لما استدعت الحاجة ذلك، فشعيب يحث السارد منذ البداية على قراءة أوراق إدريس و تحليلها ليفهم أسباب موته، و يطول الحوار بينهما حول هذه الظاهرة، ليفضي الاستطراد إلى حكاية الغراب في الآية الكريمة المشيرة إلى أول جريمة قتل على الأرض (قتل قابيل لأخيه هابيل).
و تشير أوراق مرارا - في هذا الصدد - إلى يتم إدريس، حيث فقد أمه في صغره، فيخاطب شعيب السارد : “مات اليتيم و أنت وارثه الوحيد”69 بل نجدمحاولة تفسير مأساته بيتمه “وددت لو أعيد كل مأساته إلى يتمه”70 . هكذا تؤشر المقدمة على الموت.. بينما يهيمن السارد في التأبين، فيذكر به. إن تيمة الموت هذه تحيلنا إلى تيمة أخرى هي :

-تيمة الفقدان    

: و يبدأ بفقدان الأم بالنسبة لإدريس، و هو حدث له أثره البالغ على حياته، حيث يفقد عنصرا عاطفيا مهما، ليصبح الفقدان العاطفي مهيمنا بصورة واضحة على جل حياته، حيث يمتد إلى علاقاته العاطفية الفاشلة.. فالمرأة تصبح لديه رمزا لافتقاد إشباع الخواء العاطفي، فيضطر إلى مخاطبتها كتابة (دون انتظار الرد)، لأنه أصبح بحاجة فقط إلى مخاطب يبثه ما يتعتمل في أعماق نفسه من فراغ، فيحتمي بالعزلة و الانطواء الذي يشكل تيمة أخرى.

-تيمة الانطواء   

   : و هو العالم الرومانسي أو الصوفي في حياة إدريس، يغرق في أحلامه و يجتر أحزانه، و يتقوقع على ذاته ملتمسا عزاءه في الانكباب على المعرفة، إنه الإنسان المهزوم، المطعون في آماله سواء على المستوى الوجداني أو السياسي الوطني، و كأن الإغراق في المعرفة طوق نجاة يتشبت به للخلاص من عالم انقطعت معه أسباب التواصل، لقد عبرت أوراق عن عجزها عن إقامة علاقة واضحة مع الجماعة، فكانت المصالحة مع الذات بديلا، و أدى ذلك إلى العزلة و الاختلاء المترجم للإخفاق…

- تيمة الإخفاق

  : و تهيمن على “أوراق” باعتبارها من أهم دوافع الجمع و التدوين الذي قام به شعيب و السارد، فقد راهنا على تحديد سبب الإخفاق أو أسبابه، بل جعلاه في الأخير -كما سبقت الإشارة- نصرا لإدريس، لأنه إخفاق ناتج عن إحساس بمرارة تجاه واقع حركته عوامل خارجة عن نطاق إرادته، فكان انكسار حلمه بمغرب جديد متطور، منعتق من كل رواسب الاحتلال، و إرهاصات التخلف.

-تيمة الغربة      

  : و هي هاجس العروي الذي جعلها عنوانا لأحد مؤلفاته الروائية السابقة، حيث نراها ترتبط بإدريس و تتبعه، فيحس بغربة مزدوجة، تتجلى على مستوى المكان، عندما يعايش مغربا خضع لسلطات المستعمر، و فرض عزلة على المغاربة -بما فيهم إدريس- و ذلك في عقر دارهم، لقد ثار إدريس على أستاذه الفرنسي الذي “غربه” حتى على مستوى قدرات الكتابة الإنشائية الفلسفية، باعتباره مواطنا مغربيا “غريبا” عن مثل هذه القدرات المعرفية... و هي نفس الغربة (المكانية) التي يعيشها بباريس، فيحن إلى الوطن باستمرار.
و بالمقابل تتجلى غربة أخرى على مستوى النفس، (اغتراب) عندما يتطلع إدريس إلى مغرب مشرق ببزوغ شمس الاستقلال، فتنحدر الأحلام، و يغترب من جديد داخل الوطن.
                    ·     الموضوعات النفسية الضمنية les thèmes affectifslatents :
      نستشف هذه الموضوعات من خلال المقاطع المتضمنة لتلوينات عاطفية متناثرة تكشف عن جو “اليـأس و الإحباط” الذي يسود “أوراق” يصفه عامة، من خلال “إدريس” الشخصية المحورية، إن المقولات النصية في أوراق تترجم هذا الجو المعبر عن هذه الأحاسيس السلبية/المحزنة و التي هي بمثابة “نواة مركزية” تتواتر في جل أوراق إدريس على اختلاف مواضيعها و ظروفها، و يؤدي تواترها إلى ضمان انسجام النص.
      و تؤكد شبكة العلامات داخل النص دلالة هذه المقولات المعبرة عن الأحاسيس السلبية، فمثلا إذا تتبعنا هذه العلامات في الفصل I(العائلة) و الفصل II(المدرسة) و الفصل III (الوطن) نجد ما يلي :
I - ( أمر تافه… أسماء جنود و ضباط جيش الاحتلال… فيستشعر الخوف… تألم و أحس بالدم يسيل في الحذاء… يجيبه الصمت… بلد يرغم فيه السكان على مغادرة مساكنهم…
كان الفتى وحده في الحافلة… يتألم من البرد… في مقلته مناظر كئيبة مملة… لم يلبث أمله أن خاب… محاطا بزملاء جفاة و أساتذة قساة… لم يتذوق حياة الداخلية… إلخ ).
II - ( أي مغزى نعطيه للألم… بطل المأساة… البطل عاطل… شحب وجهي و نقصت…رفع الأستاذ يده و صفع الفتى بقوة… لماذا الغضب؟… لماذا القلق؟… إلخ ).
III - (شعب يعيش على إرث ثلاثة عشر قرنا… هنا سبب سباتنا الطويل… توترت أعصابي… لأن فرنسا وعدت و خانت… سوء حظنا هو موقعنا الجغرافي… المشكل هو نفسانية المغاربة… أين عقلية التضحية؟… إلخ ).
      إن ما يوحد بين هذه الألفاظ و العبارات/العلامات هو اشتراكها في التعبير عما هو “محزن و محبط” و هو تشاكل عاطفي يسيطر كما ذكرنا على جل “أوراق” إدريس الـتي تراوحت بين الذاتي و الفكري و السياسي و الوجداني… و كلها تعبر عن إحباطات نفس متأزمة (عائليا و فكريا و سياسيا و وجدانيا…)، و كلها تلوينات قاتمة تخيم على مجموع النص، و تلخص خيبة إدريس، المثقف الوطني المخلص لمبادئه و قيمه، في واقع لم يستجب لهذه القيم، و هي خيبة و إحباط جعلت العنصر المحزن dysphoriqueيسيطر على ما هو سار euphorique، فكون ذلك تشاكلا عاطفيا تقاطع مع تشاكلات طبعتها المواضيع المختلفة التي سجلتها الأوراق، فتنوعت بتنوعها، و توزعت إلى تشاكلات ذاتية و تاريخية وسياسية و اجتماعية وطنية… تتلخص كلها في عنصرين متعارضين: عنصر يعكس رؤية إدريس الحالمة بواقع إيجابي و عنصر يعكس اصطدام الرؤية بواقع مغاير للحلم.
-الموقف من الوجود، الميتولوجيا mythologies, attitudes devant l’existence :
          تساعدنا العناصر النفسية السابقة، على اكتشاف الموقف من الوجود، أو رؤية العالم التي تعبر عنها أوراق.
          و المقصود بها مجموع التمثلات و القيم الواعية/اللاواعية التي تحدد موقف إدريس، باعتباره ذاتا فاعلة أساسية، أو موقف فئات أخرى (الطلبة الفوضويين.. الاستعمار.. المناضلين الوطنيين).
          و بذلك تتحدد وجهات نظر إيديولوجية متطابقة أو متعارضة مختلفة. لقد عايش إدريس فترة حاسمة من تاريخ المغرب، تنقل خلالها داخل الوطن و خارجه (فرنسا).. و هي مرحلة عرفت أحداثا حاسمة حركت تاريخ البلاد، و طبعته بملامح خاصة..فقد تطور الصراع بين الوطن و المستعمر.. و تحمست الحركة الوطنية في المطالبة بالاستقلال.. و تشبت المغاربة برجوع محمد الخامس من منفاه.. و كانت حركة المقاومة التي بلغت أوجها في هذه الأثناء..
          و تعارضت الرؤى في خضم هذا الواقع بين مدافع مخلص و مساير مداهن..
          كل ذلك ساهم في تكوين أفكار إدريس، و نضج مشاعره و أحاسيسه، ونمو تطلعاته وأحلامه بمغرب مستقل جديد..إنهاء ” الرؤية ” والموقف الذي يكونه عن هذا الواقع المتعارض ..والمتعارض مع ايديولوجية المستعمر ، فيدافع عن موقفه باستماتة ، ويدخل في نقاش حاد/معارض مع من يتخذ السياسة حرفة لاقتناص الفرص ، وطعن الثوابت والمقدسات.
ونقاش تحليلي مسالم مع من يتخذها سلوكا ومعاناة ، فيبسط مشاريع بناء مجتمع يلبي حاجيات المواطن ، ويستجيب لمطامحه.
-دلالات النص وأبعاده النفسية Significations etimplications psychologiques du texte :
         انطلاقا من الدلالات النفسية التي ناقشناها سابقا من خلال تركيزنا على البعد النفسي/العاطفي في ” أوراق ” يتضح لنا أن إدريس مثقف مغربي ، ساير تطور الأحداث التاريخية الوطنية المغربية ، بفكره وإحساسه وعواطفه ، في مرحلة حاسمة تراوحت بين فترة استعمارية وما صاحبها من اضطرابات سياسية وطموحات مستقبلية.. وفترة استقلالية وما صاحبها من احباطات وانكسارات للتطلعات والآمال.
          لقد جعلته المرحلة الثانية يواجه إحباطات نفسية كما أشرنا سابقا..وبذلك “حكمت” عليه “أوراق بالفشل والإخفاق..بل بالموت .. لأنه ” رفض أن ينغمس في المسيرة”، أن يتيه بين المراحل والمنازل..”
          لقد ناقش كمثقف وكوطني الطروحات الاستعمارية ، وما يتعلق بالحرية والنهضة والتطور..وكان في كل ذلك مدافعا عن الهوية الوطنية والعربية والإسلامية ..تواق إلى مجتمع متقدم ومنتج ، متوفر على كل مؤهلات التنمية والإصلاح..
ومع ذلك جعلته ” أوراق ” يصاب بالإخفاق.. لأنه لم يشارك في ماراطون الحصول على المناصب الشاغرة بعد الاستقلال.. والذي جرى/تسابق في حلبته من كان ينعتهم بالطلبة الفوضويين الذين شاركهم مرحلة الدراسة بباريس.. ولاحظ حلمهم بالحياة الرغدة (الفيللا والسيارة الفارهة… الخ).. فاستمر هؤلاء .. وقضى هو.

           البعد النفسي ينطلق هنا من إحساس إدريس بالخيبة والانهزام، وهو المثقف الواعي بخبايا الأمور.. تصارع” الثقافي” و” السياسي” داخل ذاته.. فتمخض هذا الصراع عن الإحساس بالإخفاق.. إنه صراع بين الحلم ( الثقافي) والواقع (السياسي) الذي ذهب ادريس ضحيته! وبقي السارد وراءه ليكشف اللعبة.. ويدين المرحلة ويجعل “الإخفاق” نصرا للإحساس بالمباديء.. وإيمانا بالقيم، رغم أنه إيمان قد يودي بصاحبه!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق