احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

هيدجر في بيروت

  إيلي نجم

         نظمت المؤسسة اللبنانية الحديثة بيروت أيام 26-27 نونبر 1999 ندوة عالمية حول فكر هيدجر بمناسبة مرور 23 سنة على وفاته حضرها من المغرب كل من عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا. وهذا نص الورقة التقديمية للندوة.

لمن تقرع أجراس نهاية الميتافيزيقيا؟

        مارتن هايدغر هو مفكر الكينونة. جاء من الفينومينولوجيا الهوسرلية واعتمد منهجها الإجابة على السؤال التالي: ما هي الكينونة؟ وهو سؤال تطارحه الفلاسفة الذين سبقوا سقراط ثم طواه النسيان بسبب ما نسجه أفلاطون لجهة فصل الكائنات عن كينونات أقامها في عالم الأيدوسات. ويعتبر التمايز الأونطولوجي أهم مرتكزات الفكر الهايدغري وهو تمايز أفضى بهايدغر إلى التشهير بالفلسفة الغربية من أفلاطون إلى نيتشه بسبب نسيانها وتناسيها الكينونة أو الوجود منطريق مماثلة الأخيرة أو الأخير بالكائن الأسمى (أي الإله).

        دشن هايدغر مشروعه الفكري في العالم 1927 حين أصد كتابه الشهير "الكينونة والزمان" وفيه اعتبر أنه ينبغي مساءلة كينونة الإنسان للإجابة على السؤال المركزي: "ما هي الكينونة؟". والإنسان هو الكائن الوحيد الذي بوسعه أن يفهم الكينونة لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يطرح هكذا سؤال.

        والإنسان ليس وعيا أو ذاتا كما يدعي ديكارت بل هو على ما يقول هايدغر "دازاين". ما معنى هذه الكلمة؟ إن هذه المفردة التي استعصى نقلها إلى اللغات الأخرى (أقترح مقابلتها في العربية بمفردة "آلموجد" (أي مكان الوجود) وقد نزع عنها هايدغر معناها المألوف (وتعني في الألمانية اليومية الوجود) وأضفى عليها معنى جديدا بعد أن قام بتفكيكها وتركيب العناصر التي تكونها وذلك على النحو التالي: فسابقة "دا" تعني في الألمانية هنا. أما "زاين" فتعني الكينونة. درج هايدغر على ترتيب جزئيها بحيث أضحت "زاين-دا" أي الكينونة هنا. ومعنى ذلك أن بوسع الإنسان أن يستحضر الكينونة بواسطة اللغة بعامة واللغة الشعرية بخاصة لتصبح (أو لتمسي) ها هنا. ذلك أن الإنسان هو "راعي الكينونة" و"اللغة مسكنها".

        كان من المفترض أن يصدر الجزء الثاني لهذا الكتاب بعنوان "الزمان والكينونة" لكنه لم يصدر. لقد فسر بعضهم ذلك بوصول هايدغر إلى طريق مسدود ومنهم من قال إن هايدغر ألف الجزء الثاني لكنه سرعان ما أتلفه بعد أن تبين له أنه مازال أسير الميتافيزيقا التي أراد بالضبط تخطيها ومنهم من قال إن مؤلفاته اللاحقة شكلت إلى حد كبير هذا الجزء الذي لم يصدر.

        عرف هايدغر في حياته الفكرية ما ندعوه "المنعطف". فقبله كان هايدغر يسائل الإنسان للوصول إلى الكينونة وبعده ساءل هايدغر الكينونة التي يشكل الإنسان راعيها ومجال انكشافها، ففي محاضرته بعنوان "ما هي الميتافيزيقا؟" يقارب هايدغر فينومينولوجيا ظاهرة "القلق" التي تكشف عن العدم الذي نشعر به عندما تنحسر الكائنات مميطة اللثام عن الكينونة: إن ظهور الكائن احتجاجها وفي انحساره انكشافها وهو انكشاف يتم في قدومها الزماني وحدوثها التاريخي ويتاح بواسطتهما للكينونة أن تستأثر بالإنسان وتستملكه من طريق اللغة. فاللغة هي من جديد "مسكن الكينونة" والإنسان حارسها وراعيها.

        وشهدت مرحلة ما بعد المنعطف صدور المؤلفات التالية: "دروب الغاب" أو الدروب التي لا تفضي إلى أي مكان، "مدخل إلى الميتافيزيقا"، "ما الذي ندعوه تفكيرا؟"، "محاولات ومحاضرات"، "مبدأ العلة"، "التوجه نحو الكلمة"، ومجلدان ضخمان تناول فيهما الفيلسوف فريدريش نيتشه. قام هايدغر بتنظيم حلقات دراسية حول كتاب "للعامل" لصاحبه ارنست يونغر وحول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس… وفي هذه الحلقة الأخيرة ساءل هايدغر الخطاب الميتافيزيقي التقليدي مستعيدا ما قاله الإغريق عن "الفوسيس" (ويقابلها في العربية الطبيعة) والأليتايا (ويقابلها في العربية مفهوم اللغة) بغية الوصول إلى الكينونة المنسية. فالكينونة التي تمد الكائن بالكيان ليست كائنة، إنها ما يتيح الظهور وبالتالي إنها ما لا يظهر بل إنها تمحي لصالح ما يظهر وهو الكائن. وعليه ليس في الكينونة أي شيء مما هو قائم في الكائن الموجود، فبقدر ما تعطي الكينونة الكيان، تستنفد وتصبح عدما. وبكلمة أخرى من أجل أن يكون الحاضر حاضرا يتعين على الحضور أن يغيب أي أن يكون غيابا تأسيسيا للحاضر. والفكر الذي يتجاوز الميتافيزيقا هو الذي يتناول الغياب.

        لن أنسى بالطبع "رسالته في النزعة الإنسانية" وهي رسالة وجهها إلى صديقه الفيلسوف الفرنسي جان بوفريه، وفيها أن انفتاح الإنسان على الكينونة يؤسس إنسانيته بمعنى أن انفتاحه على الكينونة يجعل هذه الأخيرة تأخذه على عاتقها فتوجه له دعوة صامتة بوسعه أن يستجيب لها فيحقق إنسانيته أو لا يحفل بها فيتيه، في هذا السياق، يتبين أن الكينونة تؤسس الإنسان، إلا أن هذا الأخير يؤسس بدورت الكينونة بمعنى أنها لا تنكشف إذا لم يلب الإنسان نداءها. من هنا ورد الكلام عند هايدغر على تناهي الكينونة ومحدوديتها، ما أربك الكثير من المفكرين الذين سبق وماثلوها عند هايدغر بالله في الفكر الديني التوحيدي.

        لكن كيف يمكن لهايدغر أن يربط الكينونة بالزمان؟ إن الجواب على هذا السؤال نابع من محدودية الكينونة وتناهيها بمعنى أنه لما لم يكن للكينونة كيان مستقل عن الكائنات التي هي قائمة بها، فقد انكشفت في الزمان بفضل تحققها في الكائن. فلولا هذا الأخير لم تكن كينونة. ولما كان هذا الأخير قد ظهر في الزمان، فقد ارتبطت الكينونة بالزمان ارتباطا وثيقا.

        يمكن القول إن تأثير هايدغر كان حاسما في مسار الفكر في القرن العشرين حتى أن بعض اللاهوتيين الألمان قام بقراءة العهد الجديد على ضوء الفكر الهايدغري الفذ، وقال بعض المفكرين إنه لا يمكن أن نفهم هيراقليطس وبارمينيدس مثلا إلا في ضوء ما قدم هايدغر من شروحات لما وصلنا من شذراتهما.

ماذا بقي من هايدغر اليوم؟

        إن أكثر أتباعه حماسة هم المتنكرون له، لكن بصماته مازالت تطبع الكثير من المؤلفات،حتى أن من يتوسع في نقده هو الأكثر خضوعا له. وربما كان هذا ما توقعه هايدغر بنفسه وهو الذي اعتبر أن نيتشه الذي راوده حلم بالخروج من الأفلاطونية وعليها وقع أكثر من أي كان في حبائلها، حسبنا في هذه الذكرى الثالثة والعشرين على رحيله أن نستعيد ما قاله الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (المولود في العالم 1930).

        "لا شيء مما أحاول القيام به كان سيكون ممكنا لولا الانفتاح على عمل هايدغر... إن هايدغر هو الذي قرع أجراس نهاية الميتافيزيقا وعلّمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متتالية لها من الداخل، أي أن نقطع معها أشواطا وأن نطرح عليها أسئلة تظهر أمامها من تلقاء نفسها عجزها عن الإجابة وتفصح عن تناقضها الجوّاني...".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق